واحدٌ و سبعونَ عاماً أوه ! لقد عاشت تلك المسنّة أربعةَ أضعافٍ من عمري ، هذا ما نقوله عند رؤيتنا لإنسانٍ يتجاوزُ الكثيرَ من عمره .
لكنَّ تلكَ المسنة فلسطين لم تحيا سوى ما قبلَ الواحد والسبعين عام ، باتتْ تحتضنُ الضنا ، وتبلُ ريْقها من ملمسِ يداهِ على التراب ، يغتسلُ وجهها من عرقِ جبينه ، ينبتُ الحرثُ من آثار أقدامه .
تتغنى بميجانا وعتابا ، و تعزفُ البرتقال من عودِ شجرة ، وتتسامرُ على شاطئ يافا ، وتُمَجَّد سِمَاها على مسارحِ حيفا .
تصلي في القدس ، وتضربُ الناقوس ، ترسمُ زخرفةَ النساء يحملنَّ القواويرَ على ظهورهنّ ، زخرفةٌ تتحلى بفرقةٍ ترقصُ الدبكة الشعبية .
تعتزُ بمكوثِ الأنبياءِ سابقاً على أرضها ، بمعراجِ رسولنِا الحبيب ، بكونها قُدِسَت كشجرة زيتونٍ تأوى إلى الصمود .
أتاها البلى ومن ثم خيّم الليلُ على صباحٍ لم تُشرقْ شمسُه بعد ، عانقها الضنا و أذرفَ الدمعُ على يابسها وغاب .
يومُ نكبة ، يومٌ يغلبه الظمأ ، حلّت الرزية ، أُخِذَت البلادُ بالقوة .
لم يخفْ الضنا وتشبتَ بعرق زيتونٍ ،
ولكن اُسْتُشْهِدَ ضناً ، وشُرِدَ آخر .
شُرِدَت امرأةٌ تعلقُ مِفتاحُ الدارِ كعقدٍ في عنقِ رقبتها ، تتحلى النساءُ بالزينة والمجوهرات ولكن هذا حال نساءُ فلسطين يَتحلَّيْنَ بعبقِ بلادهن .
لم تمضي السنواتُ سُدَىً ، لأنّ أبنائها يولدون من رحمِ أمهاتهم أبطال ، أنْ تُقبِلَ على الحياة في بلدٍ آخر ، أن تستنشقُ أولَ نسمةِ هواءٍ في بلدٍ غير بلادك ، تكادُ أنْ تختنقَ حقاً .
فبسالتكَ وروحُ دفاعكَ عن بلادك ، والإصرارِ على عودتك ، هذا ما تتنفسُ مِنْ أجله وهذا ما يمنَحُكَ الأكسجينَ أيضاً .
في كلِ بيتِ غربةٍ ستجدُ ظريفَ الطول ، وفي كل بيتٍ فلسطيني يمكثُ ظريفَ الطول .
إنَّهُ يسيرَ في زقاق شوارعِها ويحملُ البندقية ، ويلمعُ في نجومِ سمائها و ينتظرُ ظريفُ الطول آخر شهيداً .
وهذا ما خرفتني به جدتي ، بأنها وهبت روحَ خالي أحمد الى فلسطين ، وبالرغم من أنَّ أخواته حاولنَّ منعه من الخروج الى إلقاء الحجارة ، لكنَّه صفعَ أُمِكِ ألماً على وجهها وصرخ : ما بك ؟ هذه فلسطين .
وخرجَ ولم يعد الا شهيداً قد طرزت الرصاصةُ جبينَه .
أكملتْ البلادُ واحدٌ وسبعون عاماً دون ضناها ، ولكن ما أحياها الى الآن دمعةٌ ذرفها الضنا قبل مغادرته ، أبقتها تنتظرُ بفارغ صبرها عناقه ، عرقَ جبينه ، ملمسَ يداه ، رقصةَ دبكةٍ من غنائه.
سُجِلت لاجىء ، إنها كلمةٌ تشكل عبئاً على قلبي ، تخنقني ، تغز الدوارَ في رأسي ، تموتُ في عيني كل يومٍ ألف مرة ، لكنَّ لا بُدَ من زوالها وزوال الليل ، و أحتضنُ ترابَ البلاد ، وأستنشقُ هواءَها ولا أكادُ أختنق ، وطني ينعمُ في قلبي ، فهنا السلام 💛