سافر جيفارا عندما كان طالباً في كلية الطب بجامعة بوينس آيرس، عام 1953 إلى جميع أنحاء أمريكا اللاتينية مع صديقه ألبيرتو غرانادو على متن دراجة نارية، وكَوَّنَت تلك الرحلة شخصيته وإحساسه بوحدة أمريكا الجنوبية وبالظلم الكبير الواقع من الإمبرياليين على المزارع اللاتيني البسيط، وتغير داخلياً بعد مشاهدة الفقر المتوطن هناك، أدت تجاربه وملاحظاته من خلال الرحلة إلى استنتاج بأن التفاوتات الاقتصادية متأصلة بالمنطقة، والتي كانت نتيجة الرأسمالية الاحتكارية والاستعمار الجديد والإمبريالية، رأى جيفارا أن العلاج الوحيد هو الثورة العالمية.


علاقة تشي بكاسترو والسوفييت:

كان قد اعترف كاسترو قبل عامين أن بوليفيا "لم تكن في ظروف مواتية للعمل الثوري" وأن الفلاحين لم يكونوا بحاجة للثورة لأنهم كانوا ملاكاً للأراضي بفضل تعديل زراعي، ورغم ذلك، قرر كاسترو إرسال جيفارا ثم قطع بعدها بأشهر الاتصال مع لاباز، ما زاد من عزلة الثوار وأساء وضعهم أكثر، واعتقد الكثيرون أن تشي عَلِم بالخيانة قبل مقتله، كان موقف جيفارا معاكساً لمصالح فيدل، حيث أنّّ جيفارا كان ينوي الذهاب إلى الارجنتين لتحريرها، وأنّهم "في هافانا ابتدعوا له بوليفيا".، بحسب المصادر كانت هناك وحدة ثورية في هافانا جاهزة للذهاب وإنقاذ جيفارا، إلا أن "فيدل لم يعطِ الأوامر قط بالإنقاذ" وترك الأخير يواجه مصيره منفردا. وتم قتل التشي رميا بالرصاص عام 1967 بمنطقة لا إيجويرا البوليفية.

المؤتمر الأفروآسيوي الذي انعقد في الجزائر عام 1965. كان له أثر كبير على العلاقات الداخلية والخارجية، خلال الخطاب الذي ألقاه جيفارا خلال المؤتمر كان يُمثِّل "قطع للعلاقة بين التشي والاتحاد السوفييتي ما أثر على علاقة الأول بفيدل". فقد انتقد جيفارا السوفييت متهما إياهم، بشكل غير مباشر، بـ"التورط في الاستغلال الإمبريالي" للولايات المتحدة، بينما كان فيدل كاسترو يسعى لإبرام اتفاقات تعاون عسكري مع الكرملين. التباعد بين الاثنين اتسع بمرور الوقت، وازدادت حدته بالانسحاب من الكونغو الذي اتفق عليه كاسترو دون علم تشي وانتهى بإرساله لبوليفيا وهو الأمر الذي كان "انتحارا حتميا".

لقد إتَّسم نقد جيفارا للسياسات السوفييتية في كثير من الاحيان بالقسوة، إلاّ انه تميز وانفرد، في سياق تلك الحقبة، بالراديكالية والوضوح والأمانة العلمية والثورية. غير أن جيفارا لم يفعل ذلك بدوافع ذاتية أو استجابة لنزوات شخصية، بل: لأنه كان ثائراً شيوعياً وماركسياً بديناميكية نادرة وبذهنية منفتحة رافضةً للجمود العقائدي وكافة القوالب الفكرية المتزمتة والمتخشبة. ولأن فكره كان في حركة مستمرة، أصبحت المسلمات لديه، موضع شك وتسائل وتمحيص، لذا رفض جيفارا أن يسقط في الصنمية للسوفييت أو لأية ايديولوجية مغلقة، ولأنه رأى مخاطر النمط السوفييتي واستشرف مبكراً خطورة انهياره وعودة الرأسمالية إلى ذلك البلد، بالإضافة إلى كونِه أُممياً رافضاً لمواقف السوفييت المتواطئة مع الامبريالية الرأسمالية واللامبالية بنضال شعوب الأرض وفقراء العالم.

سعى جيفارا من خلال نقده للنموذج السوفييتي إلى ضرورة العودة إلى المبادئ والمفاهيم الماركسية الاساسية والتي اعتبرها ثابتة وصحيحة، تمحورت أوجه الخلاف مع النمط السوفييتي حول الجوانب الاقتصادية والانتاجية، وتجلِّياتها الاجتماعية والانسانية، التالية: دور قانون القيمة، واعتباره قانوناً مؤقتا للتنمية الاقتصادية في مرحلة التحول الاشتراكي والعمل على نسقه، نقد الامتيازات التي حظي بها مُدراء الشركات والمصانع، نقد اعتماد معايير السوق في العلاقات الاقتصادية بين الدول الاشتراكية، كما واعتبر السلعة أساس النظام الانتاجي، ونقد أيضاً سبب التخلي عن وسائل التحفيز الجماعيّة (كالحوافز المادية والمعنوية) والتوزيع.

إن استخدام الاتحاد السوفييتي لهذه السياسات، قد خلق نظاماً هجيناً في ذلك البلد، فقد إصطدمت البنية الفوقية الرأسمالية مع البنية الاشتراكية وأعاقت التنمية الاشتراكية والانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية، كما أن استنزاف الموارد في التكلفة العسكرية الضرورية للدفاع ضد العدوانية الامبريالية، كان عائقاً إضافياً للتحول الاشتراكي، يَكمُن الهاجس الرئيسي والدائم لدى جيفارا في أن الافتقار إلى التحليل النظري يحرمنا من تحليل العملية الدياليكتيكية الجارية، وبالتالي يستعصي حل التناقضات، وان تَسَنى حلها فغالباً ما يكون جزئياً او مؤقتاً وعن طريق تقديم التنازلات لصالح قانون القيمة والآليات الرأسمالية التي تهدد بعودة النمط الرأسمالي للإنتاج، كما ورفض أن يكون الاتحاد السوفييتي مرجعيةً وحيدة للماركسية والاقتصاد السياسي في مرحلة التحول الاشتراكي، كرفضِه لأي نمط آخر، ودعا إلى الخروج من مأزق المحاكاة لأي منها. وهو ما تشير إليه كافة مواقفه وطروحاته وممارساته.

ناضل من أجل الحفاظ على الاستقلالية الفكرية والتنموية للتجربة الكوبية، بل وتجارب كافة الشعوب، وحقهم بالمبادرة والاجتهاد في بناء الاشتراكية، أي حقهم في صياغة تجربتهم دون تبعية صنمية للنمط السوفييتي، بعد عقدين من انهيار الاتحاد السوفييتي والجمهوريات الاشتراكية في أوروبا الشرقية، يكتسب نقد جيفارا للنمط السوفييتي وسياسات أنظمة "الاشتراكية المحققة" الذي كتبه قبل أكثر من أربعة عقود، أهمية خاصة لا من الناحية السياسية والتاريخية فحسب، بل من منظور رؤيته المبكرة لأسباب هذا الانهيار ومساهمته في صياغة بديل للبناء الاشتراكي في كوبا وبلدان العالم الثالث. فبالرغم من أن هذا النقد ظل مطموساً لأربعين عاماً، إلا أنه لم يصبح مشهداً من التاريخ أسدل عليه الستار، بل ما زلنا نعيش راهنيته وحدّة تناقضاته، وما زلنا ندفع ثمن انهيار القطب الاشتراكي وتداعياته التي ألقت بظلالها الثقيلة على الإنسانية.

لماذا بقيت مخطوطة جيفارا في نقد "الدليل السوفييتي" طي الكتمان لأربعة عقود طويلة؟

قد يتساءل المرء ولو من باب الرغبة: ماذا لو ظل جيفارا على قيد الحياة وأنجز مشروع كتابه الطموح ونشر أفكاره وطروحاته؟ ماذا ستكون مؤثراتها على الاتحاد السوفييتي ومجمل المسيرة الاشتراكية آنذاك؟ إن مخطوطته هذه التي نشرت بعد اربعين عاماً، وغيرها مما لم يرى النور بعد، كانت ستشكل تحدياً كبيراً لمكانة ومصداقية "الدليل السوفييتي"، وربما لمكانة ومرجعية الاتحاد السوفييتي كمنارة للاشتراكية وكقائد للعالم الاشتراكي في تلك الآونة.

لو رأت النور، لأثارت اطروحات جيفارا الكثير من الجدل وفتحت آفاق الحوار الأُمَمي، الذي كان يتوق اليه، حول بديل للاقتصاد السياسي في مرحلة التحول الاشتراكي في الدول الاشتراكية والعديد من الثورات الناشئة التي سلكت الدرب ذاته، صحيح أن القضايا المطروحة عبَّرت عن الصراعات والتناقضات التي كانت محتدمة في الستينات، إلا أنها ما زالت ماثلة أمامنا، بطبيعتها وحدتها وتداعياتها، وربما بدرجة أفظع. من هنا، تكتسب دراسة أفكارا جيفارا هذه الأهمية وتحديداً بالزمن الراهن؛ لأنها في الجوهر معركة من أجل الحفاظ على الوعي الانساني والوطني والاشتراكي. هي معارك الافكار "الوعي والفكر"، وهي الركيزة الأساسية لأي مشروع مناهض للامبريالية والرأسمالية.

لنا أن نختلف مع جيفارا أو أن نشاطره الرأي، إلّا أنَّ نقد "الدليل السوفييتي" شكّل، يقيناً، الخطوة الأولى لمساهمته في صياغة نظرية حول الانتقال إلى الاشتراكية والبحث عن حلول لمشاكل وإشكاليات البناء الاشتراكي وكسر الجمود العقائدي والتبعية للنمط السوفييتي اللذين هيمنا على تلك الحقبة.

هل يجوز القول بأن جيفارا "تنبأ" بانهيار الاتحاد السوفييتي؟

لم يكن جيفارا عالماً إقتصادياً، إلا انه درس الماركسية وإستنار بمبادئها. ومن خلال التجربة اليومية والممارسة العملية، التقط، ربما قبل غيره من زعماء تلك الحقبة، أن النمط الاقتصادي الذي اتبعه السوفييت كان يأخذهم بعيداً عن مفاهيم ماركس وانجلز في بناء الاشتراكية فلم يدخر وسعاً ولا توانى عن التصريح برأيه والدفاع عنه، ما "تكهن" به جيفارا في منتصف الستينات قد تأكدت صحته اليوم. نعم، لقد انهار الاتحاد السوفييتي وعادت الرأسمالية إليه وإلى كافّة البلدان الشرقيّة. إلا أنَّ الأهم، هو أنَّ هذا "التَكَهُّن"، كان نتيجة منطقية لرؤية نافذة مبكرة ولنهج علمي في تحليل الاقتصاد السياسي السوفييتي، وهو ما أوصل جيفارا إلى التحذير من أن الانهيار قادم لا محالة إذا لم تتغير السياسات.

اتَّسَم تشي بشخصية سياسية لها منطلقاتها ووجهة نظرها الخاصة فكانت له مواقفه الرافضة للهيمنة السوفيتية على الثورة والتي كانت تميل إلى مهادنة النظام الامبريالي فكان يؤكد مراراً على ضرورة الثورة ضد الهيمنة والاستغلال فردَّدَ باستمرار عبارته الشهيرة (لا حياة خارج الثورة ولتوجد فيتنام ثانية وثالثة وأكثر). نعم فقد كان لتشي اعداء كثر ولعلَّ ذلك يكمُن في اسلوبه الصريح في النقد ومهاجمة المخطئ مهما كان. على أيّة حال فإن تشي انتهت حياته علي يد جندي من جنود الجيش البوليفي وكما يقال بتعاون مع وكالة المخابرات المركزية الامريكية. ولعل سر سحر شخصية تشي يرجع إلى تلك المواقف واسلوبه القوي وعناده ورفضه للهيمنة حتى لو كانت من مؤسسة شيوعية كالاتحاد السوفييتي. مهما حدث فقد حلَّ تشي الشخصية الأكثر اثارة ومحبة في قلوب الشعوب المضطهدة حول العالم وستظل صورته في قلوبنا.. فأحلامه وأحلامنا لاتعرف حدوداً.