وقفات حول آية (2).

قال الله تعالى(قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ۚ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ۗ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)[يونس: 35].

 هذه آية من القرآن الحكيم تحكي تاريخ البشرية كله مع ربها سبحانه. وتلخص سيرة النابذين وراءهم الحق. كما وأنها أيضا تقص أمامنا حكاية المهتدين.

واستهلال الآية بذلكم استفهام ليحمل عجبا! ذلك لأنه لا يهدي إلى الحق أبدا سواه تعالى وما كان تترس غير مهما كان إلا نوع تعد ممن لا يملك على من يملك ولا أحد يملك في الحقيقة سواه سبحانه. ومنه كانت الغرابة التي كشف عنها ذلكم استفهام. والحق أن غيره تعالى- كل الغير- مملوكون لمن خلق ولاخالق سواه.

ولو أن كلا وضع نفسه موضعها كما جبلت عليه وعلى ما خلقت له لانتهى الأمر ولساد الكون اتزان ولسلكه انتظام. هم لحاجة ذلك لمفطورون. ولما تكلف أحد ذنبا أو إثما. بيضاء نقية فطرته يوم أن اسلس قيادها له تعالى وحده. ولما انتصب معالجا وهو صفر يدين من ملكة طب نفسه فضلا عن غيره. فبان سر الاستفهام.

والأمر منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم لتبليغه إلى أولئك المتخذين من دونه شركاء ملتمسين عندهم هداهم. ولاهدى لأنفسهم يملكون!. فكيف يمكنهم هبته لمن سواهم وقد علم بالاضطرار أن فاقد الشيئ لايعطيه؟ وانضاف أنه هدى مزعوم إذ لايعلم هدى صنعة سوى صانعها لأنه(أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك:14]. وبه علم سر الاستفهام أيضا.

والخطاب عام لقومه صلى الله عليه وسلم ولكل قوم كل زمان وكل مكان. لأن قاسما مشتركا بين الشاردين جميعاً. جعله القرآن الحكيم شارة عليهم فبها يعرفون. ذلك لأنهم شركاء في نعت مخيب للآمال وبوصف زاكم للأنوف. إذ تراهم أذلة كشركاء وقد خلقهم ربهم حنفاء أعزاء. فلما مالوا أميلوا ولما هانوا أهينوا(وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ)[الحج:18].

والاستفهام ب هل قصد إلهي كريم إذ النفي من دلالات الاستفهام بها ليكون المعنى إذن أنه لا يوجد من الشركاء من يهدي إلى الحق!. وتلك بدهية قرآنية لم يكن الكتاب بحاجة إلى بيان حشد حولها أوإعطائها زخما كهذا في سياقاته المعهودة. بيد أن مجابهة القرآن لأولاء لزيادة نفي وتأكيده معا وذلكم من حسمه المعروف.

والاستفهام إما لطلب تصديق أو فهم أو استخبارا. والله متعال عن ذلكم كله. وبقي القول إذن عن بلاغتة في ذِكرِ هذه الحُجَّةِ على سبيلِ الاستفهامِ ذلك أنَّ الكلامَ إذا كان ظاهِرًا جَليًّا، ثمَّ ذُكِرَ على ذلكم سبيلِ بتَفويضِ الجوابِ إلى المَسؤول، كان ذلكم أبلَغَ أثرا وأوقَعَ في الفؤاد.

فدل سياق الآية إذن على مخاطبة الأمة بواجب الدعوة إليه تعالى بنفي الأنداد كلهم عنه سبحانه كيما تتحقق الولاية بحق في طرفيها. فالله تعالى مولى الذين آمنوا به ووحدوه كما أنهم تبعا ينالون شرف ولايتهم له سبحانه. ذلك أنه عندها يكون الإكلاء وحينها يكون الإكفاء. وأما الناكصون فلا مولى لهم.

وأفيد كثرة الشركاء من ورودها جمعا في الآية الكريمة. ومنه دل على خبط البشرية عشواء حين أسلست قيادها لغيره تعالى لتتنازعها الأنداد فتعيش حياة الأشقياء. وبيدها أن تحيا حياة الكرماء. يوم أن ترضى برب واحد كريم. تتخذه إلها وحده. تفزع إليه في ملماتها، وتركن إليه في حاجاتها. فهو ربها أفراحها وأتراحها.

وتضافرت آيات الكتاب المجيد على ذكر الشركاء جمعا حيثما وردت تقوية للاستدلال كما قال تعالى(أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[الشورى:21].

والشركاء يردون. لقوله تعالى(وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ۖ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)[الأنعام:137]. وحسب امرئ أن يقف بإجلال أمام ذلكم البيان الموجز لحياة الردى. وكيف يمكن لذي لب احتمالها وقد أودى ينفسه إلى تيكم مهالك وأمامه جسور الأمان حيث إلى رب كريم يفزع إليه وحده دون سواه من هذه الأنداد بكثرتها أوهؤلاء الشركاء على وفرتها؟!. وهي فضيلة قائمة ما قام الزمان أو حط برحاله.

ونظم الآية يحيل ألا يهدي إلى الحق شريك. فذلكم اختصاصه تعالى وحده لأنه وحده أيضا هو المثبت للقلوب ومصرفها دون سواه. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم(اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ) [مسلم، كتاب القدر، باب تصريف اللَّه تعالى القلوب كيف شاء، برقم 2654]. ولذا فطر الناس على اللجوء إليه تعالى وحده. وآكد ذلك إذا ركبوا في الفلك. فتراهم وقد نفضوا عن أنفسهم شركاءهم وكأنما في حسهم قد غرست فطرة الله التي فطر الناس عليها. ليؤبوا إليها.

وهداه تعالى سهل ميسورسلس مقدور. لاحاجة لنيل شرفه وبلوغ مرتبته إلى وسائط أوشركاء. فربنا الرحمن سبحانه قريب مجيب مطلع عالم للغيب والشهادة. لكنه هوس الجهالة ودرك الشقاء والأتباع والقرناء والرؤساء وسائرالشركاء. ومن أسف فيما لانفع لهم فيه على الحقيقة!. لأن النفع كله في نفض كل شريك وإحقاق الولاية له تعالى وحده.

ومادة(قل) داعية للإلزام. بمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده الدعاة العاملون مطالبون بنصب لواء المحجة على العباد. وذلكم تقويضا للشرك وأهله وتضييقا على لججهم الذي يحسبونه حججا! وهو من إفحام القرآن للخصوم ألا تبقى لهم أثارة من علم أو سند من واقع يكون شافعا لشركهم أو مانعا من إفكهم. ذلك أن الشرك كله زبد.

والشركاء ظالمون. ذلك لأنهم نسبوا الهدى إلى غيره تعالى وماهم بمالكيه ولما لم ينفردوا بخلق. ذلك أن العقل البصير ليقتضي نسبة الهدى إلى الخالق العظيم وحده فهو أعلم بمن خلق سبحانه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم(اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّمَا قْضَيْتَ، إِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ)[ أحمد في المسند، 3/ 249، برقم 1723، والبزار، 4/ 175، وابن حبان، 3/ 225، وقال محققو المسند، 3/ 249: إسناده صحيح]. فتوجهه صلى الله عليه وسلم بدعائه تعالى الهدى قمن ألا مالك له غيره سبحانه. والقول بغير ذلك اعتداء صارخ على حق الربوبية، وظلم فادح ترتكبه النفوس في حق نفسها فضلا عن حق ربها سبحانه. ظلما وغلوا أو عتوا وعلوا.

والهدى متضمن انتقالا. يقال هديت إلى شيئ أي انتقلت به من حال أدنى إلى حال أعلى. ليكون مؤذنا بانتقال امرئ من باطل إلى حق ومن غي إلى رشد ومن فساد إلى صلاح. وليس يقال عكسه. وهذه من هدايات الألفاظ المحكمة الجميلة. ولذا جاء النظم بتلكم هدايات(يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) ولم يأت أبدا ب(يهدي إلى الباطل)!.

 وولوج شريك في وحل شركه سالب لهداه نفسه. وكيف إذن يمكنه هدى لغيره؟ فدل إذن على قصورعبد عنه ومنه دل اختصاصه تعالى به.       

والهدى محبب للنفوس السوية وتشرئب له الفطر النقية. ومنه ترى السعداء هم من كانوا سببا لهدى غيرهم إلى سلوك سبيل ربهم. لا إلى منظومة الشرك والشركاء منتمين.

 وحرف الهاء باعتبارخصائصه من سكون وهمس ورقة ومخرج بانفتاح جزئي للوتريين الصوتيين دال على سكون ورقة طبع لمن اهتدى. وليس لشركاء من ذلكم من نصيب. فهم مسلوبون لخيرأو صلاح لأنهم استحبوا العمى على الهدى. ذلك لأنهم ارتضوا أن يكونوا شركاء!.

وبليغ تردد النظم بين لام الاختصاص وإلى الغائية غير مرة تفنناً. والإشارة بإلى دلالة على معنى الانتهاء وباللام للدلالة على أن المنتهى غاية للهداية وأنها لم تتوجه إليه على سبيل الاتفاق بل على قصد من الفعل وجعله ثمرة له ولذلك عدى بها ما أسند إليه سبحانه كما ترى. فكأن الغاية هي الهدى.

وتوجيه النص بلام الاختصاص في(قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) دال على اختصاصه تعالى به وتملكه له. وادعاء غيره له سماجة حس وبلادة تفكير. كما وأنه موح بالقرب وكأنه حقا لاتخفى عليه تعالى خافية. لاكهؤلاء الشركاء فلايكاد أحدهم ليرى من حوله ليدعي بهتانا إحاطته بما يصلح للخلق فينصب لواء التشريع من دونه تعالى.

وأزيد توضيحا أنه تعالى لما كان هاديا للحق وذكر اسمه تعالى تشريفا واختصاصا فلزم التعبيرباللام كدليل لذلكم الاختصاص وكعلامة على ذلكم تملك لهدى إلى الحق. وقول بغير ذلك فيه إفساد لنظام الكون كله. ذلك لأنه تعالى قال(وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ)[البقرة:220] وفيه تناغم جميل بين صانع وصنعته وخالق وماخلق وبارئ وما برأ – سبحانه -.

وحين الكلام على غيره تعالى كما في( قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) جاء التعبير بإلى دلالة على مسافة واسعة بين أولاء الشركاء والحق. فيعثرون تارة هنا ويخبطون تارة أخرى هناك! ذلك أن البون شاسع بينهم وبين الحق كيف وهو صفة لخالق عز أن يتولاه أو يبينه سواه؟ سبحانه. ولم وقد كفاهم ذلكم مولاهم؟.

ولوأرادوا خيرا لهدوا إليه. ذلك أن الله تعالى قال(وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ)[الأنفال:23].

وربنا سبحانه يريد الخير والهدى للعالمين كل العالمين. وكذا عباده الصالحون.ذلك لأنه تعالى قال (وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ... )[الزمر:7].

وكل فعل في هذه الآية ورد مستترا فاعله ومفعوله معا. وهو إيجاز تميز القرآن الحكيم به. ليبقى كتابه ذا رسالة بمنأى عن تفاصيل أنبأت عنها اللغة، قريبا من رسالته العظمى في هداية الناس إلى ربهم الحق كيما يسعدوا وكيما يستقلوا عن أولاء شركاء فتنالهم العزة ويغمرهم الأمان في الدنيا وفي الآخرة.

بيد أن ذلكم إيجاز انضاف إليه عموم. فهو إيجاز لجانب عدم ذكر كل من الفاعل والمفعول به. غير أنه عام من ناحية المفعول ليبقى شاملا لسائر الناس على مر الزمان لكيلا يفتح باب لزاعم أن الخطاب موجه لقوم دون قوم آخرين. وقرائح الناس تختلف واستعداداتهم تتباين. فجاء النظم بذلكم حسما لمادة التخرصات ودفعا لداعية المماحكات.

ومجيئ كلمة الحق معرفة قول فصل. ومجيئها في القرآن الحكيم كله معرفة يشي بالاهتمام. كما وأنه يشيع الأهمية. وكل ذلك به لجدير. إذ وكأن الحق معروف ومعهود في الفطر. وكأن الخروج عنه لاعذر لأحد فيه. وكأن الحق واحد لااثنان. وكأن الحق ثابت فلا يلحقه تغيير. وكأن الحق مقتض للعدل فلاظلم فيه. وكان الحق واقع في حياة الناس يسيرون له تبعا لاخيالات ولاأوهام ولاتخرصات. وكأن الحق قد أوجده الله تعالى لاتباعه لاثقافة في الأذهان. وحسبه أن يقف عند ذلكم حد!. وكان الحق قديم غير محدث. وكأن الحق شرعة الرحمن وعبادة الديان وحده بلا شريك.