Image title

” لم يكن تحوّل الساروت إلى بطلٍ شعبيٍّ أو أسطورةٍ من نتاجات المخيلة الشعبية التي تضفي على أبطالها صفاتٍ خارقةً فوق بشريةٍ غير موجودةٍ فيهم أصلاً. لم يقسر اسم الساروت المخيلةَ الشعبية السورية على ابتكار الحكايا المتخيلة عنه. لكنه، وببساطةٍ غير متوقعةٍ من شابٍّ في عمره، قدَّم من صفاته وسلوكه للأسطورة كلّ عناصرها لتتكامل بصفتها أسطورة”.  

ستبكيك أزقة الخالدية، وشوارع بابا عمرو، وساحات البياضة، وخنادق القصور، وأبنية حمص المحاصرة المهدّمة.

كما في كلّ مرّة، يهوي عمودٌ من أعمدة الثورة بفقد أحد رجالاتها الأبطال، حجي مارع، وأبو فرات، وباسل شحادة، وغياث مطر، وهادي الجندي، ورائد الفارس..
والآن.. باسط!!

من عايش أحداث الثورة السورية من بدايتها يعلمُ يقيناً أنّ “أبا جعفر” لم يترك مكاناً يُتحرّى فيه الشهادة إلا وسبقَ إليه، بدءاً من مظاهرات الخالدية السلمية إلى اعتصام الساعة الشهير، مروراً بالأناشيد في بابا عمرو، وصولاً إلى الذود عن مدينة حمص في حصارها الأخير، وأخيراً في ساحات القتال في الشمال السوري.. ومع مروره بكل هذه المحطّات كان الله بحكمته ينجيه من الموت، والاعتقال، وكأنّه_تبارك اسمه_ يخبئ له موتاً يليق بنضاله الشرس، وطويته النظيفة الشفافة التي ما غيّرها منذ صدحت حنجرته أول مرّة بإسقاط النظام.

من حراسة المرمى إلى حراسة الثورة

ولد عبدالباسط في حمص عام 1992، وكان ككل الشباب في عمره مهووساً بكرة القدم، تلك اللعبة الشعبية التي تمثل بوابة الأمل للطبقة الفقيرة والمتوسطة لسكّان مدينة حمص، التحق بصفوف نادي “الكرامة” ليصبح الحارس الرسمي لفريق منتخب شباب سوريا، وما إن بدأت أولى أحلامه بالتحقق، حتى انهار هذا الحلم على وقع الدبابات التي قصفت مدينته، وقتلت أصدقائه، وهجّرت أهله، فكان بين خيارين؛ أن يُكمل في رحلة نجوميته ضارباً بكل ما جرى عرض الحائط، أو أن يتخلّى عن حلمه لصالح كرامته وضميره وإنسانيته. ولم يخّيب “الساروت” الظنّ وفعلاً التحق بركب الثورة، وانشق عن المنتخب الرياضي معلناً ولائه المطلق لثورة شعبه وأبناء جلدته.

ومع أول هُتافٍ للحريّة؛ تحوّل “باسط”إلى بلبل الثورة التي لا تحلو المظاهرات المسائية إلا بصوته، وقد آتاه الله كاريزما فريدة جعلته كالمغناطيس الجاذب لكل أطياف الشعب السوري.

محبوبٌ من الجميع، قريبٌ من الجميع، بلكنته الساحرة، وابتسامته العفوية، وصوته الأجشّ الذي أقضّ مضاجع النظام وشبيحته.

“باسط” كما يحبّ أن يُنادى، كان رجلَ ثورة، بكل فوضويتها وعبثيتها وأملها وصراعها ونضالها، لم يتكلم منطلقاً من أيديولوجيا حزبية، ولا يستشهد بغيفارا، ولم يقرأ لمنظري الثورات، الشارع حرّكه، ونخوته ألزمته، كان بسيطاً عفوياً صاحب همّة، والأهم من كل ذلك كان صاحب ناموس حيّ، هذا الناموس الذي ما خفتَ بريقه طوال 9 سنوات ثورة!

العودة إلى حمص .. بخاطرك يا حمص!


في مطلع الفلم الشهير الذي قدّمه المخرج “طلال ديركي” والمعنون بـ العودة إلى حمص؛ كان بطله عبدالباسط الساروت يحكي رحلة التنقل بين حمص المحاصرة والريف الشمالي لفك الحصار عنها، يروي فيها “باسط” بعفوية وجذالة ما جرى له فيقول:”منذ أول الاعتصام في ساحة الساعة بحمص، كان الأمن ناشراً قناصته على الأبنية المحيطة بالساحة، فقلتُ لأخي متحدياً ارفعني على كتفيك أريد أن أهتف، قال لي: لا تتهور! قلت له: لا عليك ارفعني، فرفعني ثم قلت وكنتُ أول من قال هذا الشعار يومها: اسمع اسمع يا قنّاص.. هاي الرقبة وهي الراس” معلناً موتَ الخوف للأبد!

“لم يُستجلَب الساروت من خارج المكان والزمان، فقد نبت من بين الناس، وحمته عيون الناس، وغالباً هو تخلَّق بشكلٍ لا يتلاءم مع صرامة نظريات الكتب. لم يكن قائداً سياسياً، ولا بطلاً حزبياً، سوّقه حزبٌ ما، أو جبهة أحزابٍ بقرارٍ مركزيّ، طَوَّبته بموجبه كبطل. ولذا، ولذات المقدّمات، لن يستطيع أحدٌ اليوم أن يسحب منه ألقابه. فهو ببساطةٍ بطل الناس، والناس لا تكترث كثيراً أو قليلاً بما يردّده المتعالون عليهم”.

أمام الكاميرا.. خلف الواقع

التقيتُ بعبد الباسط مرتين، كانت تتملكني رهبة أن أحادث أيقونة الثورة وجهاً لوجه، لكن المفاجأة أنّه كان أبسط مما توقعت، وأعلى مما ظننت، “باسط” لم يملك حساب فيس بوك نشط، وليس عنده متابعين ينتظرون منشوراته بلهفة، لكنه حاز على إعجاب الجميع، أكثر بكثير مما أراد، صدقه وضعه في مراتب عالية لم يظنّ هو نفسه أن يبلغها.

أعتقد أنّ كل سوريّ حرّ لديه قصة خاصة معه، بل ويتذكره بشكل شخصي، ولا بدّ أن له ذكرى معه أو صورة، أو حتى صدى هتاف رُدّد وراءه يوماً.. كانت بصمته في نفوس السوريين أكبر بكثير من مجالس وطنية، وائتلافات حكومية، ومن منظمات حقوقية.

كان “إنساناً ” بحقّ، حين عجز الكثيرون أن يكونوا بشراً.

لم يجتمع السوريون منذ مدّة على شيء كما اجتمعوا على محبتك، الكلّ نعاك، حتى الرماديون الذين كانوا يخشون التصريح بمحبتك كتبوا حزناً عليك، أيّ شيء فعلته يا “باسط” حتى جعلَ لك القبول كلّه؟ العيون التي بكتك اليوم لعلّ أغلبها لم يلتقِ بك، وربما لم يعرفوك إلا من صوتك وأناشيدك، لكنهم رأوا فيك الإخلاص والنقاء، رأوا فيك روح الثورة الأولى دون شبهة، رأوا فيك الوفاء للقسم بألا نتخلى عن عهد الشهداء، يوم تخلّى الكثيرون، وتخليّنا.. لكنك لم تفعل!

كنتَ وفياً لنضالك حتى آخر لحظة، لم تغوكَ الشهرة، ولم تفتنك المناصب، قاتلتَ في كلّ جبهة ضدّ من قتلوا أهلك، قدّمتَ إخوتك الخمسة قبلك، وعدتَ لأمّك المكلومة تقول لها: قسماً يا أمّاه لأنتقمنّ لهم! من يُخبر الخنساءَ أمك اليوم برحيلك؟ كيف يقوَى قلبها على تمسيد شعرك وأنت موسّد في الثرى! لمن تتركها يا باسط؟

رحلتَ عنا بعد اشتباكٍ من المسافة صفر، كان الموت أقرب لك منّا، تأخرتَ كثيراً عن رفاق دربك، شهداء المطاحن ينتظرونك هناك.. أسراباً أسراباً ينتظرونك أيّها البطل!

حين خرج الشباب من حمص المحاصرة كتبتُ:

لماذا نُحبهم؟! لأنهم متخففين من ثقل الأيديولوجيا، وعبء التاريخ، وضغط الواقع المرّ، وحمولة الإرث القديم. لأنهم أنقياء كالشمس، أخفياء كالظل!

كنتُ أعنيكم يا باسط! كنتُ أعنيك والله!

نحبّكم وإن قصّرت أعمالنا عن اللحاق بكم.. نحبكم!