بقلم: علي طه النوباني
على الرغم من أني أعرف نهاية الحلاج؛ إلا أنَّ عقلي يميل للغياب أحياناً وأنا أتابع مسلسل (العاشق/ صراع الجواري) متمنياً نهاية سعيدة للشيخ الجميل الذي أشرق مثل شمس في ظلمات الترهل والظلم والقمع. ثم أصحو على الحقيقة المرَّة متذكراً شهاب الدين السهروردي المقتول، وبشار بن برد، وابن المقفع، وغيرهم الكثيرين ممن قتلوا بسبب موقف أو رأي، وما زالوا يُقتلون.
لاحظتُ أنَّ هُجوماً كاسحاً قد تم توجيهه للمسلسل منذ الحلقة الأولى، فقائلٌ بأنَّ المؤلف اختار أن يسلط الأضواء على موضوعين رئيسين معا هما: الحلاج وصراع الجواري وسيطرتهن على الحكم وقصر الخليفة، إلى قائل بأن العرض قد جاء باهتاً منذ الحلقة الأولى.
والأدهى من ذلك أن البعض أخذ على المسلسل أن القناة التي أنتجته لم تقم بعرضه، بل إن واحداً من النقاد في موقع إلكتروني تابع لإحدى الفضائيات يقول بأن المسلسل لم يركز على غنوصية الحلاج وعلاقته بالقرامطة، وكأنَّ الغنوصية شتيمة، متناسياً أن الأديان السماوية كلها قد تأثرت بشكل أو بآخر بالعرفانية أو الغنوصية، والتي هي أفكار تحاول فهم ما هو إلهيّ وما هو بشري وما ينبثق عن ذلك من تدرجات محتملة.
يمكن لكل مؤلف يريد إنجاز عمل درامي عن الحلاج أن يتبنى وجهاً من وجوه النظر في هذه الشخصية المركبة، ويبدو أن العمل قد تبنى وجهاً لا يعجب المشرفين على منابرنا التي تعجُّ بالسخف والرخص، وَتَجاوزَ السقف المسموح حتى بالنسبة للقناة المنتجة التي لم تعرضه.
وإذا كان قد حدث ما حدث للحلاج في بغداد في أوجِ ازدهارها وتألقها كعاصمة للعالم في العصور الوسطى، فمن الطبيعيِّ أن يُعرَض هذا المسلسل على شاشة قناتين أو ثلاثة فقط من مئات القنوات في أوقاتٍ بعيدة عن ذروة استقطاب المشاهدين في حضيض الزمن العربي الذي نعيشه.
لقد اختار المؤلفُ ثلاثةَ خطوط درامية ليعرض طريقته في النظر إلى محنة الحلاج:
الخط الأول صَوَّرَ فيه قصر الخلافة العباسية، وما آل إليه حال الحكم الذي تديره الجارية شغب وما يَدورُ حولها من مؤامرات الجواري والغلمان، بينما يتفرغ الخليفة المقتدر للشراب واللهو والقيان.
الخط الثاني مثله بالنخاس/ النطل الذي يمثل الحياة المادية بكل ما فيها من شرور ونذالات.
والخط الثالث مثله الحلاج الذي يمثل صوت الروح والثورة على الواقع المرير، والانعتاق من أغلال المعارف المزيفة والجاهزة بالهدم والبناء مرارا وتكرارا لتقليب الأشياء والأفكار على نحوٍ يثير الرغبة في التغيير وعدم التقولب.
لا أعتقد أنه من السهل إنتاج عمل تلفزيوني يتناول قصة الحلاج وأفكاره منذ ولادته حتى محنته، ويقدم كافة زوايا النظر إلى شخصيته في آن معاً كما هو الحال في بحث علمي؛ فالعمل الدرامي يتم بناؤه على واحدة من زوايا النظر وعلى من يتبنى غيرها أن يطرحها في عمل آخر، على أن لا يمنع عرض الأعمال الأخرى لكي يتمكن المشاهد من اختيار ما يقتنع به.
وأياً كان الأمر فقد فتح هذا العمل باباً واسعاً للنقاش والجدل، وسيدفع آلافَ المثقفين لقراءة الكثير من الكتب حول العصر العباسي، وشخصية الحلاج والجنيد، وربما الشاعر غير المشهور جُحظة البرمكي وغيرهم ممن يزخر بهم ذلك العصر من مشاهير وأعلام خلافاً للأعمال الساقطة ذات الإنتاج الكبير، والتي تؤول إلى مزبلة التاريخ، فنحن لم نعد أسرى قناةٍ واحدة أو نافذة إعلامية محددة لكي يَفرضَ علينا السخفاءُ والمتآمرون والجهلة خطابهم التافه، فما ينفع الناس يمكث في الأرض بدليل أنه تم تنفيذ عقوبة القتل على آلاف الأشخاص عبر تاريخنا، واستثنى عقلُ الحضارة واللاوعيُ الجمعيُّ القلة منهم كالحلاج من النسيان، والذي بقى محفوراً في قلوب الناس على الرغم من قتله وتغييب صوته وجزء كبير من كتاباته.
أمَّا الهجمة الشرسة على يوتيوب وفي الموقع الإلكترونية على المسلسل بحجة أنه يتناول شخصاً يصفونه بالكفر؛ فيكفي أن نعرفَ أنه في حين كفَّرَ الحلاجَ ابنُ بابويه والطوسي والحلي وعياض وابن خلدون وابن تيمية وغيرهم، فقد توقف عن الحديث في أمره كل من ابن بهلول والنابلسي وابن سريج وابن حجر والسيوطي وغيرهم، وأبعد من ذلك فقد قال بولايته المقدسي واليافعي والشعراوي والهيثمي وابن عقيلة وسيد مرتضى وغيرهم؛ فهو إذن موقع خلاف بين الفقهاء. بل إنّ عددا كبيراً منهم لا يكتفي بالتوقف عن الحديث في أمره، وإنما يذهب إلى الاعتقاد بولايته فمن هو ذا الذي يخرج علينا جازما بكفره بعد هؤلاء؟[1]
لقد بلغ الأمر من الجرأة على التكفير في هذا الزمن ما لم يبلغه زمن آخر، فوصل حدَّ تكفير شعب كامل في بعض اجتهادات المتشددين، فهلا تمهلتم ونظرتم إلى السيوطي وابن حجر وغيرهم كيف سكتوا عن الحديث في أمر الحلاج. وهلا نظرتم ما يصنعه الخوف من العنف والتكفير من تجميدٍ للعقل وما يحدثه من هزيمة محققة للحضارة نراها ماثلة أمام عيوننا بما نحن فيه من تخلف وانهيار وضعف.
هذا هو النطلُ /النخاس يقول في الحلقة 26 مخاطباً نفسه في مونولوج داخلي:" هكذا أنتم يا أصحاب السلطة والمال، تقتلون الجمال وتعشقون القبح، تأمرون وتفعلون ما يحلو لكم، والله ليس لديكم من الحكمة والعلم ما لدى طفل جاهل، سحقاً لكم جميعا، والله لو نطق لساني المسجون وأفرجت عنه؛ لرماكم كلكم في زنزانة الندم والخوف، يا من تأخذون بعقائد أنتم ابتدعتموها، سحقاً لكم.
والنطلُ بحديثه هذا عن انحرافات النخب الحاكمة يحاول تبرير نذالاته التى وصلت حدَّ اختطاف الأطفال وخصيهم والمتاجرة بهم، والذين يصبحون لاحقاً بضاعة رائجة في القصور. وكأنه يقول بأنَّ النخب الحاكمة هي من يكرس هذا النظام الاقتصادي الجائر والذي يحتاج إلى تفكيك وإعادة بناء، على أنَّ المؤلف لا يتعمق في تقديم البنية التفكيكية التي يقدمها نقيض النطل – الحلاج لأسباب ربما تعود إلى الخوف، فقد تمَّ حجب المسلسل بشكله المتحفظ الحالي عن أغلب الفضائيات، وقامت ضجة معادية شارك فيه الجهال قبل العلماء؛ فكيف يكون الأمر لو فعل؟
وختاماً فإنني أتساءل: كيف يمكن لنا أن نصنع حاضرنا إذا لم نتمتع بالحرية في فهم وتحليل ماضينا؟ وكيف يمكن لأمة تعيش على بركان من الإرهاب وصناعة الخوف أن تشكل حاضرها وتضمن مستقبلاً لائقاً لأجيالها القادمة؟ ومتى ندخل العصر الحديث بالاعتراف بأبسط مبادئ حقوق الإنسان التي قبلتها وأقرتها حتى بعض القبائل البدائية المعزولة.
[1] دائرة المعارف الإسلامية: مترجمة، ترجمها أحمد الشنتناوي وإبراهيم زكي خورشيد وعبد الحميد يونس، راجعها محمد مهدي علام، دار المعرفة، بيروت، ترجمة الحلاج.