قصور الاستشراق منهج في نقد في العلم الحداثي كتاب المفكر الفلسطيني الأصل وائل حلاق أستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة كولمبيا .صدر الكتاب في أواخر العام الميلادي الفائت من الشبكة العربية للأبحاث والنشر وبترجمة بارعة تستحق الشكر من الدكتور عمرو عثمان مترجم الدولة المستحيلة لنفس المؤلف. ينطلق وائل حلاق في كتابه هذا من نقد كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد نقدا لاذعا لا يعرف الرأفة . يستحوذ هذا النقد على أغلب أجزاء الكتاب الأولى لكن رغم هذا لم يكن نقد سعيد هو الغرض الأساسي من الكتاب لكن حلاقا استخدم كتاب الاستشراق كذريعة لنقد المشروع الحداثي ككل. يبدأ حلاق في سرد المآخذ المنهجية التي وقع فيها إدوارد سعيد ويذكرنا قبل هذا بأن تخصص سعيد كناقد أدبي ربما أفقده الحس التاريخي الذي يتطلبه تناول موضوع من هذا النوع . من الإشكاليات الكبيرة التي وقع فيها سعيد أنه نظر إلى الاستشراق كخطاب عابر للتاريخ لا يتأسس على أرضية صلبة ومحددة بل كان تأسيسه يرتكز على مجموعة نصوص لمؤلفين/ مستشرقين أفراد كانت لنصوصهم سمات خاصة ومتجانسة شكلت هذا الخطاب الاستشراقي . لم يدرك سعيد الجذور الحقيقية للاستشراق فاعتبر أن مجرد تناول كمية كثيفة من النصوص كفيل بأن يكشف بنية الاستشراق وحقيقته . وبتوظيف مفهوم فوكو للخطاب وعلاقته بالسلطة بنى إدوارد سعيد أطروحته كاملة على هذا الأساس . أول إشكالية نتجت عن هذا الطرح هي أن سعيدا صبغ جميع المستشرقين صبغة واحدة ، إن لفظة مستشرق في طرح سعيد تشمل ايسخيلوس اليوناني مرورا بدانتي ووصولا إلى برنارد لويس في ذات المستوى. يعتقد حلاق أن هذا الخلل كان أثرا لخطأين إجرائيين وقع فيهما سعيد. أولهما غياب نظرية واضحة للمؤلف فبينما ذكر سعيد أنه يخالف فوكو في نظرته للمؤلف باعتباره مسلوب الإرادة وخاضعا خضوعا تاما للخطاب السائد ، أكد مراعاته للبصمة المحددة لأفراد المؤلفين . لكنه عمليا وفي ثنايا طرحه يختفي هذا التنظير فيصبح المستشرقون شكلا واحدا لا خصوصية لهم فالمؤلف ميت ومن يتحدث هو خطاب تشكل وفق علاقات القوة . يذكر حلاق أن سعيدا اضطر إلى هذا التعميم المخل بسبب افتقاده إلى نظرية فوقية ناظمة يمكنها أن تستوعب تلك التمايزات والاختلافات بين أفراد المستشرقين . الخطأ الثاني الذي نتج عنه هذا التعميم كان بسبب عدم وضع الاستشراق في مكانه الصحيح ، لم يلتفت سعيد للأسباب الأساسية التي جعلت الاستشراق ممكنا من الأصل ، بمعنى آخر لم يلتفت سعيد إلى التربة الحداثية التي نبت فيها الاستشراق. لذلك عمل سعيد على ديمومة الاستشراق ولا نهائيته باعتباره خطابا يشتبك مع السلطة وتُنتج من خلاله تصويرات مسيئة ومشوِّهة للشرق من أجل الهيمنة عليه . يعتبر حلاق هذا التفسير السياسي سطحي وقاصر عن تفسير السبب الحقيقي لبزوغ الاستشراق كظاهرة استثنائية حديثة لم يعرفها التاريخ الانساني من قبل . يتساءل حلاق لماذا لم يظهر الاستشراق في التاريخ الإسلامي مثلا أو الصيني رقم القدرات العسكرية والاقتصادية والسياسية التي تتجاوز أحيانا قدرات أوروبا الحديثة . يقرر حلاق أن المشروع الحداثي الغربي هو الأساس الذي تفرع منه حقل الاستشراق مثلما تفرعت منه الحقول العلمية الأخرى ، ومن الخلل اتهام الفرع دون النظر إلى الأصل الذي انبثق منه . يأخذ حلاق على سعيد إيمانه بالقيم العلمانية والليبرالية الإنسانوية رغم نقده للاستشراق وللظاهرة الكولونيالية . بحسب حلاق لم يكن إيمان سعيد هذا إشكالا ثانويا لا تأثير له ، لكنه في الواقع تسبب بأكثر من خلل منهجي أثر على أطروحة سعيد بكاملها . فبمجرد تناول الاستشراق في معزل عن المفاهيم الحداثية التي بُني عليها يُعتبر تناقضا فادحا لا مبرر له ، وإن كان سعيد يشير أحيانا إلى أثر الثقافة الغربية في نشأة الاستعمار لكن تظل هذه الإشارة عابرة وعائمة من دون تحديد خصوصا وأن سعيدا يفصح في مواضع أخرى بتبنيه القيم العلمانيه والليبرالية المنبثقة من فكر الأنوار ومقته الافكارَ القائمة على مفاهيم دينية وروحية . يعتبر سعيد أيضا أن كل تصوير للشرق لا يوافق القيم التي يؤمن بها يعتبر تصويرا خاطئا ومسيئا للشرق. فمثلا حين نظر المستشرقُ الفرنسي ماسينيون إلى الشرق نظرة إيجابية بل وإعجاب شديد حيث وصفه بالشرق المتدين القائم على مفاهيم روحانية ، اعتبر سعيدٌ هذا الوصف مسيئا للشرق ومنطلقا من نظرة دونية إليه!. تبرز هنا مشكلة أخرى لم يذكرها وائل حلاق في كتابه ولكن تحدث عنها نقاد آخرون منهم صادق جلال العظم ، فسعيد لم يحدد أساسا الجوهر الحقيقي للشرق الذي يراه هو . بل إنه ينطلق من فرضية تقوم على أن كل تصوير للآخر هو بالضرورة إساءة تصوير ، فبحسب سعيد “كل تصوّر يختلط حكما بأشياء كثيرة غير الحقيقة ، مع العلم بأن الحقيقة نفسها هي تصور ليس إلا” ! من هنا يحق لنا أن نتساءل : ألا يعني هذا التبرير لنظرة المستشرقين إلى الشرق وإلى الإنسان الشرقي باعتبارها نتيجة حتمية لكل عملية تصور للآخر؟!. نظر سعيد إلى الاستشراق كحقل أكاديمي شذ عن الحقول الأكاديمية الأخرى وبالتالي عن القيم الليبرالية والعلمانية . على عكسه يعتبر حلاق كل الحقول الأكاديمية الأخرى متورطة بذات المفاهيم الاستعمارية التي يعمل من خلالها الاستشراق . فالعنف والإبادة الجماعية والاستعمار والمشاكل البيئة كلها آثار ساهمت بها الأكاديميا الغربية وعملت على عقلنتها والتبرير لها . من هنا ينتقل حلاق إلى نقد النموذج المعرفي الذي يقوم عليه العلم الحداثي ككل ذلك العلم الذي يتأسس بنيويا مع مفهوم السيطرة السيادية . هذه السيطرة التي عملت ابتداء على فصل القيمة عن الطبيعة . فبما أن الطبيعة مادة غاشمة وهامدة يمكن أن يُتعامل معها دون قيد أخلاقي، يُتعامل معها كشيء يخضع دائما للفعل ، لذلك يمكن دراستها وإخاضعها دائما للمنظومة التحليلية الحداثية . سمح هذا بظهور مايسمى العلم الموضوعي المحايد في كل الحقوق الأكاديمية -بما فيها حقل الاستشراق- هذه الحقول التي مكنت الباحث من دراسة الآخر -الذي هو جزء لا يتجزأ من الطبيعة -دون أن يكون لذلك الآخر أي حقوق أخلاقية أو قيمية . ينتهي حلاق في فصله الأخير إلى فكرة إعادة صياغة الاستشراق فكما كان الاستشراق في السابق جزءا أصيلا من المشكلة يمكن أن يكون جزءا أصيلا من الحل ولكن بعد تأهيله وبنائه على أسس جديدة غير التي قام عليها قديما . فنظرا لطبيعة الحقل الاستشراقي وعلاقته بالآخر واطلاعه على التراث الشرقي فبإمكانه تقديم مساهمة قيّمة للخروج من المأزق الحداثي المادي بالاستفادة من الفلسات الروحية والقوانين الأخلاقية التي تقوم عليها أسس الثقافة الشرقية . من الملاحظات التي يمكن أن أسجلها على طرح حلاق دون أن أدعي أنها ترقى إلى أن تكون نقدا عليه ، هي أن حلاقا لم يلتفت كثيرا للسياق الفكري والتاريخي الذي نشأت فيه المفاهيم الحداثية . يوضح حلاق في أكثر من موضع أن الحداثة الغربية شذت عن الحضارات الأخرى بمفاهيمها المادية ، لكنه لا يوضح كيف حصل هذا الشذوذ . فإذا كان حلاق يطرح تساؤلا على سعيد مُفاده : ما الذي جعل الاستشراق ظاهرة استثنائية برزت في الغرب دون غيره ، ويلومه على عدم الإجابة على هذا السؤال، فإننا نستطيع أيضا أن نوجه ذات السؤال إلى حلاق فنقول لماذا كانت الحداثة الغربية ظاهرة استثنائية ، لماذا تشكلت المفاهيم المادية في الغرب ولم تتشكل في أي مكان اخر ؟! . صحيح أن حلاقا تطرق إلى مفهوم السيادة المعرفية وأعاد أصوله إلى المسيحية وخصوصا في عقيدة الخلاص ، لكنه يفعل هذا بصورة عرضية ليس فيها تفصيل وإقناع يناسب أهمية السؤال ومركزيته . يوظف حلاق في أطروحته جهازا مفاهيميا ضخما يبدأه باقتراح نظرية جديدة للمؤلف تعالج قصور نظرية موت المؤلف وعجزها عن تفسير التمايزات والاختلافات داخل النموذج السائد ، ثم يموضع هذا المؤلف الجديد داخل نظرية النماذج وداخل مفهوم النطاقات المركزية والهامشية الذي يستعيره من كارل شميت ، ويستفيد كذلك من مفهوم جون أوستن لشروط الملاءمة المنتجة لأفعال الكلام . ولا يبتعد كثيرا عن منهج فوكو الأركيولوجي في نظرته العمودية للخطابات التي تحفر في الترسبات الثقافية إلى أن تجد الأرضية المشتركة التي تنبثق منها شتى الخطابات . يفعل حلاق كل هذا داخل حبكة فكرية متقنة تُظهر الكتاب بشكل منهجي متماسك .
رغم أن حلاقا يستعير كثيرا من أفكار ونظريات نقاد مابعد الحداثة ، إلا أن منطلقاته الفكرية تختلف جذريا عن المنطلق العدمي الذي يسير عليه هؤلاء النقاد . فحلاق مفكر أخلاقي في الأساس وهو لا يرفض الدين بالكلية ، بل إنه يرى أن الدين بما فيه من روحانيات وأخلاقيات قد يكون الحل المناسب للخروج من المنطق الحداثي المادي الذي يهيمن علينا اليوم . وهذا بالتحديد سبب إعجابه بالشريعة الإسلامية -وهو مسيحي الديانة، فهو يعتقد أن الشريعة الإسلامية تنطوي في بنيتها على معايير أخلاقية وروحية تضبط حركة الأفراد والجماعات والمؤسسات الإسلامية . بعكس الحضارة الغربية المنفلتة والتي تسيّرها مفاهيم الهيمنة والمصلحة والربح دون قيود أخلاقية .