ذكرت أن الذائقة ليست ملكة فوضوية لا تخضع لمقاييس ومعايير تضبطها، وقلت أن المقولات التي تعتبر الذوق ليس مجالا للنقد تطبّع من حيث لا تعلم مع الأذواق الرديئة، هذا مع الأخذ بالاعتبار أن مقولة "الذوق الرديء" مقولة خاطئة بحسب تبعات قولهم، نظرا لغياب المعايير التي تميّز الذوق الجيد من الرديء. والحقيقة أن الذائقة ملكة لها قوانينها الخاصة بها فيصح أن يقال أن هذا ذوق جيد وهذا ذوق رديء. ومن هنا يبرز سؤالان ضروريان: من له الحق بالحكم على أذواق الناس؟! وما هي المعايير التي يحتكم إليها الذوق؟!
قبل الإجابة على هذين السؤالين لنعرف أولا أن هذه القضية مطروقة في الفلسفة وبالتحديد في المبحث الجمالي، الذي يحاول الإجابة عن أسئلة من قبيل: ماهو الجمال؟! وكيف أحكم على الشيء بأنه جميل أو قبيح؟! وهل الجمال نسبي؟.
وبعيدا عن التعقيدات الفلسفية سأجيب أولا عن السؤال الأخير عن نسبية الجمال والسؤالان الأولان سأجيب عنهما ضمنا في النهاية .
هل الجمال نسبي!؟ برأيي أن الإجابة نعم ولا في نفس الوقت. الجمال نسبي في بعض جوانبه، فمثلا قد تختلف الثقافات والشعوب في نظرتها إلى الشيء الجميل وربما تختلف الثقافة نفسها بحسب مراحلها التاريخية واختلاف ظروفها. بل تختلف معايير الجمال من مجال إلى آخر ، فكل حقل له معاييره الجمالية التي تضبطه. ولكن كل هذا لا يعني أن الجمال نسبي بصورة مطلقة بحيث نجعل كل فرد من الناس له معاييره الجمالية الخاصة به، إذا قلنا بهذا فإننا نهدم معنى الجمال من الأساس فكل شيء يحتمل أن يكون جميلا وقبيحا في نفس الوقت، وهذا واقعيا غير صحيح.
ثمة أشياء كثيرة لا خلاف على جمالها أو أن الخلاف فيها شذوذ غير معتبر. فمثلا قصائد المتنبي، لوحات ليوناردو دافنشي (ولو أني لا أملك الحس الفني لكن ثمة اتفاق بين المتخصصين بجمال لوحاته)، أغاني أم كلثوم، روايات جورج اورويل . وبعيدا عن المجال الفني ثمة إجماع على جمال الورود ومنظر المروج الخضراء وشكل الغيم المتعانق في السماء. كل هذا يهدم مقولة: الجمال نسبي بصورتها المطلقة .
إذن لنعد إلى السؤال الآخر : من هو المخول بالحكم على جمال الشيء وقبحه؟ طبيعي أنه ليس كل أحد يحق له تقييم أذواق الناس والحكم عليها وإلا وقعنا في نسبية أخرى . ولكن كل مجال له خبراء نابهون عاشوا فيه وخبروه، هؤلاء نمت ذائقتهم وتطورت مع الممارسة والتجربة، إن قولنا هنا نمت الذائقة وتطورت يدل مباشرة على أن ثمة قانون ما تخضع له الذائقة وإلا فكيف تنمو وتترقى؟. ثمة خبراء في المجال الفني، وخبراء في الأزياء، وخبراء في العطور. هؤلاء هم من يحق لهم القول - كل في تخصصه - أن هذه ذائقة جيدة وتلك ذائقة رديئة وهذا شيء جميل وهذا قبيح .
أما السؤال عن المعايير التي تخضع لها الذائقة، فهذا سؤال لا يمكن الإجابة عنه لأن كل مجال له معايير ومقاييس خاصة به يتفق عليها المتخصصون. نعم ربما لا تُدرك معايير الجمال بصورة عقلية واضحة لكن هذا لا يعني أنها غير موجودة ثمة أشياء تُدرك بالحس لا بالعقل وهي مع ذلك محل إجماع .