((تأملات ذاتية وموضوعية في الوجودية!!))

□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□□

هل (الوجودية) فلسفة أم حركة أدبية!؟.. وما الفرق بين الوجودي المؤمن بوجود الله والحياة الآخرة، والوجودي العدمي المؤمن بعدم وجود الله والبعث!؟، والوجودي المتذبذب العالق في منتصف الطريق!؟؟؟

○○○○○○○○○○○○○○○○○○○○○○○

بعد اطلاعي وتأملي في عدة كتابات وأعمال أدبية وفكرية لمفكرين وأدباء وجوديين سواء من الجناح المؤمن بوجود الخالق الراعي الديان، أو الجناح المؤمن بعدم وجوده، أي الجناح الملحد، تبين لي أن الوجودية عبارة عن فلسفة وحركة أدبية في الوقت ذاته!.

* * *

فكونها فلسفة لأنها تعج بالأفكار التأملية، وهي تلتقي مع الفلسفة الليبرالية على أرض الإيمان بفردانية الإنسان وأن الانسان الفرد هو الأساس للجماعة الإنسانية وليس مجرد أداة لدى هذه الجماعة أو الجنس البشري!... وأما قولنا بأنها فلسفة (تأملية) فلأنها تقوم على الاستبطان ورصد متغيرات الوجود الذاتي (الأنا الواعية والواجدة والمفكرة والحرة) في حركتها الانفعالية والفعلية اثناء تعاملها مع تأثيرات ومتغيرات وضغوطات محيط وجودها الموضوعي أي مع (العالم الخارجي والواقعي) الذي تعيش وسطه هذه الذات المفردة الواعية وفي قبضته المادية والاجتماعية من خلال منصتها المادية الحيوانية التي تطل بها على هذا العالم الخارجي وتتواصل من خلاله معه، أي من خلال أداة الجسم والاسم الخاص بكل انسان فرد!، هذه المنصة التي هي هذا الكيان الحيواني العقلاني (الكائن البشري) الذي تستعمله (أنا الإنسان) بقواه البدنية الحيوانية وبقواه الذهنية العقلانية... هذا الجسم البشري الذي تستعمله ذات الانسان الفرد كمنصة وأداة لاستقبال اشارات هذا العالم الخارجي والمادي والتأثر بها ايجابًا وسلبًا ثم استعماله لإرسال اشاراتها ومحاولة تنفيذ خياراتها وتحصيل احتياجاتها وانتزاع اسباب حياتها وكرامتها من خلاله!... فأجسامنا هي بوابتنا او شرفتنا التي نطل بها على العالم الخارجي ونتصل به، بخلاف وجودنا الداخلي العميق المترامي الاغوار الذي نتعامل معه من خلال أذهاننا ووجداننا مباشرة!!.... فلكل منا جسم، جسم خاص بصورة خاصة، بجنس محدد سلفًا من الناحية البيولوجية ذكرا أو انثي، وبلون معين وهيئة عامة تشير الى الانحدار من عرق معين!!.... لا خيار لنا في اختيار صورة اجسامنا فهو في الأساس امر قدري!.... بعضنا يولد بعيوب خلقية وبعضنا الآخر يولد بمزايا خلقية! ... ولكن التجارب الوجودية تؤكد لنا ان المولود بالعيوب الخلقية قد يتفوق فيما بعد في رحلة كفاحه الوجودي على ذلك الفرد المولود بمزايا خلقية !!

* * *

وكما أن لكل منا (جسم) بصورة خاصة فريدة ومعالم وجه خاص يعرفه به الآخرون ابتداء من الأبوين والاقرباء، فإن لكل منا (اسم) يعرفه به الآخرون، وهذا الاسم هو رمزك و(كودك) الخاص الذي يعرفك به الآخرون ويتذكرونك به حتى عند غيابك أو موتك، اذ أن هذا الاسم (الكود) يرتبط في ذاكرتهم بمعلوماتك وصورتك التعريفية وهويتك المخزنة في حافظة معلوماتهم في أدمغتهم!.. ومن هنا ضرورة الخصوصية والفردانية الجسمية والاسمية لتحديد الهوية الشخصية من الناحية الاجتماعية باعتبار الفرد يعيش وسط جماعة ويُعتبر جزءًا من النسيج الاجتماعي والقومي والوطني بل والرسمي العام حيث يحتاج إلى مستندات تثبت هويته الشخصية لدى الدولة كجهاز حكومي قومي عام!!

* * *

الذات الانسانية الفردانية الواعية الواجدة هي هذه الذات العميقة التي هي مصدر الشعور بالذات والإحساس بالعالم الخارجي، هي هذه الأنا الآنية الواجدة المدركة لذاتها ووجودها بشكل مباشر ((أنا أشعر وأحس، اذن أنا موجود)) ((أنا أفكر اذن أنا موجود)) ... والمشكلة الوجودية الأساسية التي تواجهها الذات الانسانية وتبدأ بها نضالها الوجودي هي علاقتها وارتباطها العضوي بهذا الجسم!!... هذا الجسم البشري (الذكري أو الأنثوي) وفي حالات شاذة (الملتبس؟)، هذا الجسم الذي يجد كل منا نفسه محشورا في أعماقه!، مكبلا بقيوده ومطالبه وقوانينه!، هذا الجسم الخاص المخصص لهذه (النفس) و(الأنا)، هذا الجسم بهذه العيوب والنقائص، وهذه المزايا والخصائص الشكلية والبدنية والذهنية التي يُولد بها هذا الجسم وبداخله هذه (النفس البشرية الواعية/الأنا) التي تنمو مع نمو هذا الجسم ومع احتكاكها بالعالم الخارجي مع التقدم في العمر وتراكم المعلومات والخبرات!، هذا الجسم البشري (الذكري أو الأنثوي) الذي تعيش من خلاله ذواتنا و(أنفسنا) في هذه الحياة الدنيا، وتستعمله كوسيط بينها وبين هذا العالم الواقعي المحسوس وهذا الوجود الخارجي الموضوعي، عالم المادة والآخرين والمجتمع والدولة والسوق!.... فهي – أي ذاتنا الإنسانية الفردية الأنانية الآنية الحاضرة الشاعرة الواعية - تجد نفسها أسيرة لمطالب هذا المركوب (الحيواني) الذي تركبه وهذه الاداة التي تستعملها!! …. ومن هنا تبدأ مكابدة الانسان كذات وروح لرحلة الوجود، فهذا الجسم المتصل عضويا بهذه الذات له متطلبات حيوانية مادية تتعلق بالمحافظة على الحياة، يحتاج هذا الجسم الى كفايته من المواد التي يستعملها في ترميم ذاته، والمواد التي يستعملها لتوليد الطاقة الحيوية والعصبية اللازمة لأداء الوظائف البدنية والذهنية من جهة ومن جهة لمنح العضلات القوة اللازمة على الفعل والحركة، فهذا الجسم الحيواني الخاص بكل منا مثله مثل أية آلة نستعملها ونركبها، يحتاج بشكل ضروري للطاقة، للوقود ، وللمواد ، وغير ذلك من اسباب الحياة الحيوانية، اسباب الحياة او البقاء ككائن حي، المتمثلة في الهواء والطعام والماء والمواد التي تقي هذا الجسم من تغول البرد وتغول الحر او تغول الوحوش الفتاكة والقاتلة من الفيروسات والميكروبات والأمراض مرورًا بالعقارب والحيات والسباع الضارية وصولا للبشر الآخرين الذين قد تدفعهم رغبتهم في البقاء أو في التملك والتفوق إلى الفتك بنا أو نزع ممتلكات ذاتنا من المال، المال بمفهومه العام الذي يتضمن مفهوم المواد المشبعة لحاجاتنا الحيوانية والنفسية كما يتضمن النقود كقوة شرائية نشتري بها هذه المواد الضرورية أو الكمالية!.. فهؤلاء الآخرون إما بسبب النزوع للبقاء أو بسبب النزوع للتملك قد يندفعون للفتك بنا!، أي الفتك بهذه الآلة الحيوانية التي نركبها في حياتنا الدنيا على كوكب الأرض، أي اجسامنا التي تستخدمها ذواتنا للبقاء في هذا الوجود المادي الواقعي الموضوعي والاستمتاع بهذا الوجود!... هذه الاجسام حالها حال الدواب الحيوانية أو الآلية كالسيارات التي نركبها ونستعملها لتحقيق اغراضنا تحتاج للحماية والرعاية وتحتاج لمواد الطاقة والوقود كي تؤدي وظيفتها وخدماتها لنا بشكل صحيح وفعال وبكفاءة جيدة!!.. لأن أي عطب يصيب هذه الآلة التي نركبها أي اجسامنا فإن هذا سيكون له أثر على ذواتنا وأنفسنا!، واذا كان هذا العطب خطيرا وكبيرا فإن وجودنا الأرضي الدنيوي يصبح في خطر عظيم أي عرضة للموت!، فحين تنطفيء هذه الآلة البدنية الذهنية التي نركبها ونستعملها في حياتنا الدنيا انطفاء كاملا بالموت، لن يكون بوسع ذواتنا أي انفسنا أن تبقى في هذه الحياة!، فإما أن تجد نفسك في عالم آخر غريب، هو عالم البرزغ، او تجد نفسك فيما يشبه النائم والمغمى عليه كما أعتقد ثم تستيقظ فجأة - ولو بعد مليون عام - لتجد نفسك تركض في فزع عظيم وسط مليارات البشر الذين يركضون بعد أن بعثهم الله من مراقدهم!، فريق منهم يصرخ في فزع رهيب وصدمة تامة : (( يا ولينا هذا يوم الدين ولقد صدق المرسلون))!!، وبعضهم ينظرون لما يجري في هدوء واطمئنان لأنهم كانوا يوقنون بحصول الانبعاث!!.

* * *

نحن اذن مرتبطون عضويًا وشعوريًا وعقليًا بهذه الاجسام وهي تحكمنا بقوانينها بقدر ما نحن نحاول ان نحكمها ونستخدمها لتحقيق اغراضنا وملذاتنا وتحقيق طموحاتنا والاتصال بالعالم الخارجي، عالم المادة والواقع الاجتماعي، عالم الطبيعة والمجتمع!.... فهذا هو المنطلق الاساسي والأول في فهم حركتنا ومعركتنا الوجودية!!...

ثم بعد شعور الذات (الأنا الإنسانية) بأنها محشورة وسط هذا الجسم الحيواني وهذه الآلة الحية والذكية التي تفرض على الذات قوانينها وضروراتها ومنطقها فإن (الأنا الإنسانية) تجد نفسها وسط مجتمع من البشر الآخرين والاجسام الآخرين والحدود والقوانين!... تجد نفسها بجسمها الحيواني محشورة وسط مجتمع بشري يعج بالتحديات والمحددات!، تجد نفسها في نظام اجتماعي واقتصادي وسياسي!....

ثم بعد هذا المحيط الاجتماعي تجد نفسها في محيط كوني وطبيعي واسع ومحير ومخيف!، يجعلها أمام كم هائل من الأسئلة الوجودية المحيرة!... من خلق هذا الوجود؟ ومن أحضرني هنا لهذا العالم وسط هذا الجسم وهذا المجتمع؟؟؟... ومن هنا تصبح المعركة الوجودية للذات متعددة الاتجاهات والابعاد، بعد في اتجاه الجسم الذاتي الخاص بهذه الذات، وبعد في اتجاه المحيط الاجتماعي، وبعد في اتجاه الكون الواسع الكبير!!.

* * *

وهكذا يحاول كل مفكر وشاعر وأديب وفيلسوف وجودي إدراك ذاته وحركة ذاته في هذا الوجود الخارجي – رحلة البحث عن الذات (من أنا؟ ومن أحضرني هنا؟ ولماذا؟؟) ثم السعي لافتكاك أكبر قدر من الحرية أي تحرير ذاته من كل هذه القيود التي تحيط به من كل جانب ابتداء من القيود والحدود التي يفرضها علينا تواجدنا داخل هذا الجسم الحيواني الخاص بنا، اي داخل هذه الآلة الحيوانية الذكية التي تستعملها الذات في رحلتها الوجودية لفهم هذا العالم و لنيل الحرية واثبات الذات وتحقيق السعادة مرورًا بالقيود المجتمعية والاقتصادية وصولًا لقيود هذا الكون والعالم الكبير بقوانينه الصارمة!.

* * *

هذه معالم الوجودية كفلسفة تأملية وذاتية هدفها اكتشاف الذات واثبات الذات وتحرير الذات من وسط كل هذه القيود، وعلى أساس هذه الفلسفة بحسب تجربة كل وجودي يكون الانتاج الأدبي للأديب الوجودي، اذ من الملاحظ أن جل الوجوديين إن لم يكن كلهم، هم أدباء لهم تجارب أدبية ، شعرية أو قصصية وروائية تعكس فلسفتهم وتجربتهم الوجودية!.

* * *

أما الفرق بين الوجودي المؤمن بوجود الخالق السامي الراعي، والوجودي المؤمن بعدم وجوده، هو أن الأول يتحرك في مدى أوسع بكثير من المدى الذي يعيش فيه الوجودي الملحد، ففضلًا عن هذا الكون المنظور فهناك الكون الغائب غير المنظور الذي تمدنا الأديان من خلال بوابة الإيمان بالمعلومات عنه!، لهذا فقد يغلب على الوجودي الملحد الطابع التشاؤمي في افكاره وأدبياته بل وقد تتسم بالطابع العدمي والعبثي، بعكس المؤمن بالخالق الراعي وبوجود حياة اخرى، فهو في الغالب يغلب على الطابع التفاؤلي في فكره وأدبياته وأعماله الفنية!.. فوجود الله والحياة الآخرة وما فيها من حساب وجزاء هو ما يُضفي على هذا الوجود الحائر المُحير (المعنى المنطقي والخُلقي) وبغير هذا فلا معنى لهذا الوجود!، إنه مجرد عبث فوضوي!!!... بل هو عند التحقيق وجود (سريالي) مخيف وغير معقول!!.... وبين هذا الوجودي المؤمن بوجود الخالق والحياة الآخرة وبين الوجودي المؤمن بعدم وجودهما، يوجد صنف ثالث وهو الوجودي المتشكك الذي يختلط لديه الإيمان بالشكوك وعدم اليقين، وبالتالي ينعكس هذا الموقف الملتبس على أفكاره واعماله الأدبية والفنية والشعرية!... الحيرة ، والشك ، والتأرجح بين الأمل واليأس!.

* * *

فهذه هي الوجودية كفلسفة تأملية تنبع من وعي الفرد لذاته ووجوده الداخلي ووعيه لواقعه ووجوده الخارجي باحثًا عن الحقيقة والمعنى والحرية والسعادة، ومن هذا المنطلق تنشأ تجارب وجودية متعددة ومتنوعة ومتجددة بل وربما متضاربة احيانا، تعكس تجارب كل فرد، وكل ذات، وكل شخصية انسانية، تجارب ذاتية كثيرة وحاشدة بعضها واضح وبعضها غامض وبعضها حائر وبعضها ملتبس تتسم بالبعد الشخصي والذاتي والفرداني، فضلًا عن اتصافها بالنسبية، ولكن – في تقديري – كصاحب تجربة وجودية وكمتأمل في أدبيات الوجوديين - يمكن للنقاد والباحثين من خلال منهج الاستقراء المقارن ايجاد العامل الجامع المشترك بين كل هذه التجارب الفلسفية والأدبية الوجودية جميعا باعتبار أن منطلقات ومكونات الذات الانسان واحدة وثابتة، فيكون هذا العامل الجامع والقاسم المشترك بين كل هذه التجارب الذاتية الوجودية لكل هذه الذوات الانسانية الواعية والمفكرة المختلفة في ميدان الفلسفة وميدان الأدب هو الأساس في تشكيل الإطار العام للوجودية كفلسفة تأملية وتجربة وجدانية ذاتية فردية، هذه التجربة التي قد تثمر كتابات واعمالًا فكرية وأدبية وفنية يسميها البعض بالحركة الادبية الوجودية، والتي بلا شك تتمحور حول الذات والشخصية الانسانية بطابعها الفرداني ومرتبطة بقلقها الوجودي المصحوب بشيء من الاستغراب والشعور بالاغتراب الذي يمكن التعبير عنه بالسؤال التالي: ((من أنا!؟ وكيف جئت الى هنا!؟ وما كل هذه الأشياء التي تحيط بي وتحاصرني من كل جانب؟! وماذا على أن أفعل حيال كل هذه الورطة الوجودية التي وجدت نفسي فيها هنا في هذا المكان وهذا الزمان بدون اختياري!!!؟؟))... هذا هو منطلق الوجودية، وهذا هو فهمي للوجودية!.

♤♤♤♤♤♤

سليم نصر الرقعي

مارس 2019

(*) في تقديري تعتبر أحوال وأدبيات العارفين بالله كما في مصطلحات الصوفية وكل تجارب النساك المتدينين الفردانية الروحانية في كل دين هي نوع من الفلسفة والتجربة الوجدانية التأملية الوجودية، ولكنها في مجال العلاقة بين الذات الإنسانية المفردة والذات الربانية الإلهية العليا!، هي تجارب وجودية ذات طابع ديني إيماني روحاني، وأما ما ينتج عن هذه التجارب الروحانية الفردانية من أفكار وخواطر وأدبيات روحية تجسد هذه التجارب الذاتية الخاصة لهذا العارف المتعبد الناسك أو ذاك فيمكن اعتبارها تأملات تقع ضمن الفلسفات والأدبيات الوجودية!.

(**) هنا على هذا الرابط تجد كلمات مختصرة عن الوجودية للمفكر العربي المصري الكبير(عباس العقاد)