خرجتْ من جامعتها التي أنفقت فيها زهرة عمرها تتنهّد وتتبسّم «آه ما أجمل هذه اللحظة! أنا لا أصدّق... والله لا أصدق، ولا أجد مفردة تصف شعوري اللذيذ ولو فتشتُ في كل قواميس الأرض ومعاجمها، ها أنا سلّمتُ بحث التخرّج، وقُبِلَ بكل حب وشكر، الحمد لك يا الله»!
ذهبت تُبشّر، أمها، أباها، أهلها، أحبتها جميعًا ، وصديقاتها... هذه اللحظة لن تتكرّرَ أبدًا، سأعيش هذه الأيّام بكل تفاصيلها، سأكتب عن مرحلةٍ تعبت وهرِمت من أجل تحقيقها، سأكتب عن طرائفها، عوائقها، عن التحديات التي خضتُ غمارها واقتحمت ساحاتها، لن أتوانى عن تدوين كل مرحلة بحلاوتها وفرحتها ومرارتها وحزنها، سأكتب عن كل شيءٍ، أريد أن أبين لأبنائي كيف وصلت أمهم إلى هذه المرحلة المهمة؟ كيف وصلت إلى هذه المرحلة بعد كفاح وجد وإخلاص ومثابرة وتحمل، مرحلة أنني سأكون معلّمة مخلصة لديني ووطني، أنشر العلم بكل ما أوتيت من قوة، ودون كلل أو ملل، وكيف أمّلُّ وأنا بالقرب من ربٍ رحيم كريم لطيف، لا شك في أنه سيمدني بالقوة... آه كم أنا مشتاقة إلى طالباتي، نعم أشتاق لأنني أمام مهمةٍ شريفة، قلّ مع الأسف من يبذل لها ويعطيها من روحه ودمه، أريد أن أحدثهنّ عن عظيمات ملّتهنّ، عن جَلَدِ علماء الأمّة، عن أبطالها، عن إنجازاتها، عن تطلعاتها عن أشياء كثيرة... كثيرة جدًا... كان الغيظ يملؤني كلّما رأيت معلمة سيئة لا تهتمّ بطالباتها، وظيفتها ليست التدريس، بل التحطيم والتثبيط، كل اقتراح حريّ بالتطبيق والبذل والعطاء، من مبادرات ودورات وأعمال تطوعية، لا تعيره اهتمامًا ولا توليه إقبالًا، كي لا تكلف نفسها إبداء رأيها في كلمة، إي والله بكلمة!... الآن بلغت تحقيق رغبتي؛ أن أكون معلمة، نعم معلمة، أريد أن أكون علامة فارقة في وظيفتي، أريد إنشاء جيل مُقاوم شجاع لا يهاب، جيل واثق يعرف كيف يخطط ويصل إلى تحقيق مخططاته، كيف يفكّر ويكون قادرًا على صقل مواهبه في قالب النهوض بالأمّة، سأنشئ جيلًا يذود عن دينه ويحمي ذمار عقيدته ويعتز بعروبته، أريد أن أغرس في قلوب طالباتي نصرة قضايا المسلمين، أريدهن ألا لا يصلن إلى مرحلة معينة، إلا وأرى كتاباتهن تملأ المدونات، بل الصحف العتيدة بإذن الله... يا له من تفكيرٍ لذيذ، وشعور ألذّ... الحمد لك يا الله، كم أنا ممتنة!
بعد أن هامت في وادي خيالها الخصب، وانتهت من تأملاتها الغضّة، ذهبت إلى بيتها، تريد زوجها... تريد أن تخبره بكل تطلعاتها وتخطيطاتها، وأُمنياتها في الأيام المقبلة القريبة، اتّكأتْ على أريكتها المريحة المزركشة، بعدما فرغت من تجهيز القهوة العربية ذات الرائحة الطيبة، ووضعت بجانبها قطعة من الحلوى البحرينيّة، لأنه يحبها كثيرًا، دلفت إلى المطبخ لتجهّز الشّاي الإنجليزي الأصيل، الذي لا يُستغنى عنه بكل تأكيد.
تنتظره...
هذا موعد وصوله إلى البيت
دخل عليها وهو متكدِّر كعادته، وكأنما حمل العالم على ظهره!
تضايقتْ، والسببُ هذه المرة أنه «لماذا يتكدّر في ظلّ أيام حققنا فيها إنجازًا كبيرًا، وأنا - بلا ريب - هو، وهو أنا، لماذا إذًا يتكدر؟!
متى أراه في حال من الصفاء لا تشوبه شائبة؟ والله لا أدري متى؟، لكن أتصبّر، وأملي بربي كبير.
جلسَ بعد أن انتهى من تبديل ملابسه وخلّص بعض الحاجيات...
رسمتْ ابتسامة خلّابة تذوب من عذوبتها العصافير على أغصانها:
«والله ما أدري وش أقول لك يا... ...، لكن أبغي مساعدتك في الأيام المقبلة»
- وش تبين؟ قالها ببرود ٍمزعج، وكأنما الكلمات تخرج من فِيْهِ كسولة متململة لا تلوي على شيءٍ!
- «... والله يا ... .... أنا عندي طموح قديم، أن أكون معلمة، والآن والحمد لله قدرت على قطع مشوار طويل، لكن أبيك تساعدني وتيسر لي كثيرًا من الأمور»!
- «أيش... معلمة! يا بنت خلّك في بيتك، ولا تزعجينا بهذه التفاهات، الحريم مالهن إلا بيوتهن! وبعدين أنا أبي حرمة تقوم بالبيت وتحرص عليه وتهتم بعيالها، بخّرِي هالأفكار من راسك».
كانت هذه الكلمة كالصاعقة القوية أو القُنبلة المرعبة، سرى دويّها في مسمعها ليهز كل أرجاء جسمها، وأبان في عينيها الدموع - وما قوّة الضعيف إلا بدموعه - كيف هذا؟! هل يتكلم بعقل ومنطق؟ أم قالها هازلًا؟ لا أدري... أنا حتى الآن لم أستوعب ما يقول، يا الله ما الذي يحدث؟! انعقد اللسان الفصيح فلم يعد يستطيع الكلام، الفرائص ارتعدت وأضحت تتألّم... تتألم... تتألم.
كرّرتْ المحاولات في إقناعه بشتى الوسائل والسبل، استنفدت طاقتها كلها، لكنها يئست وتحطمت كالزجاج بعدما اقتنعت بأنها أمام رجل أصلب من الصخر الصّلد الذي لا يخضع لشيءٍ من نواميس الطبيعة!
ذهبت إلى غرفتها، وأغلقتْ ملفات قديمة... وطموحات جليلة... وأحلامًا عريضة... وذكريات طويلة... وهموم أمة... وتطلعات... وأُمنيات... ومُبادرات، مع بابها.
فهد بن محمّد التّميمي
حوطة بني تميم
يوم الجمعة
١٢ - ٩ - ١٤٤٠ هـ
١٧ - ٥ - ٢٠١٨ م