قراءة في رواية " قواعد العشق الأربعون " .
أشياء كثيرة استوقفتني في ثنايا أسطر الرواية الشهيرة للكاتبة التركية "إليف شفق " ، ومنها الأسلوب المبدع الرقيق المنثال الذي أشعر بشفق وكأنه سكبته من روحها على الصفحات ، التفاصيل الدقيقة المذهلة في وصف ملامح الشخصيات ، والغوص عبر أثير فكرهم وعوالج أنفسهم وحر أشواقهم ، التدفق العذب لأحداث الرواية في سهولة تامة تكاد تحاكي نهرًا جاريًا متبدلًا لا ينضب، وأيضًا بالطبع الطبيعة الخلابة الرقيقة الهشة الغضة والتي تلوح عند كل منحنى جديد في فصول روايتها ، إن المرء بوصفها المثالي لأجواء الطبيعة الحاضرة ليستحضر على الفور عبقريات تشارلز ديكنز في رواياته والتي كانت الطبيعة الساحرة دوما جزء لا يتجزأ منها ، أو رائعة رومان رولان الحائزة على نوبل للآداب " انطوانيت" حيث يشغف بالطبيعة شغفا عذبا خالصا ويحيلها لروح تسري في كيانات شخصياته .
كذلك الدراما الهادئة الحزينة ، ونذور الموت المشؤوم التي تظلل كل من أحببت من أبطال الرواية ، فمنذ البداية نتعرف على " شمس التبريزي " برؤى رآها ، كانت الرؤيا تنبئه عن موته ،أو مقتله على وجه التحديد وكان يلمح يده مرارًا تطل من فج بئر عميق وشعره الأسود يدور في دوامات حول وجهه الذي خلت منه إمارات الحياة ، وما إن ترضخ وترضى قاسرًا لموته الصعب حتى تفاجئك في خاتمة الرواية بموت "عزيز " ، بطل العصر الحاضر وحبيب إيللا أو معشوقها على وجه أدق، وكما حرم الرومي منذ زهاء ثمانمئة عام من محبوبه ومعشوقه شمس التبريزي ، كما حرمت إيللا في العصر الحاضر من عشيقها عزيز ، ولذا شُبّهتْ في الرواية بالرومي، محبوب يغير الحبيب حياته ويحولها إلى الأبد ويفتح عينيه على عالم جديد لم يدر له وجودًا قط من قبل ، عالم يحصي فيه حبات الندى وينصت لدقات قلبه الخفية ويدرك لأول مرة أمورا تعتمل في صدره مستقرة فيه مذ أمد بعيد لكنه يكتشفها كأنه وليدًا في الدنيا لم يزل، فإيللا والرومي حبيبان لمحبوبيبن غيراهما للأبد ثم رحلا عنهما بقسوة ودون توقع للأبد !
منذ بداية الرواية والمستهل مذهل رائع ، تشرح فيه أليف كيف يغير حجرًا واحدًا رمي في بحيرة راكدة هانئة من ملامحها للأبد كيف لا يملك هذا الحجر ذاته أدنى تأثير على النهر المتدفق المتحول المتشعب التيارات بينما يملك كل الأثر على البحيرة الوادعة فما إن يلقى فيها حتى لا تعود نفسها مجددا ، أبدا .
هذه البحيرة كانت إيللا ، ربة البيت التي نسيت أشواق الحب وحرارته وذابت وسط أشغال الحياة وهمومها وروتينها القاتل، ونراها تعارض بشدة حب ابنتها الأول بل وتخبرها بثقة شديدة ألا وجود للحب هناك فقط زوج مناسب لحياة مناسبة قادمة طويلة، وتغض الطرف عن عشيقات زوجها المتعددات،حتى يكون الحجر الذي يغير من مياهها الراكدة للأبد وهذا الحجر هو رواية "الكفر الحلو" عن الشيخ المتصوف جلال الدين الرومي وعن لقائه بشمس التبريزي والذي غير من حياته وقلب شخصه للأبد وصار شاعرًا وداعيًا للمحبة ولنور القلوب بعدما كان خطيبًا وشيخًا ، هذه الرواية أعادت فتح نوافذ الحب في قلب إيللا ، وأفاقت لأول مرة من بلادتها لتصطدم بواقعها : وحيدة وتجاوزت الأربعين وليس ثمة إنجاز واحد يضيء حياتها .
كل كاتب يحمّل كتاباته أفكاره ، معتقداته التي بها يؤمن وإليها يدعو ، وهكذا كانت أليف حيث جسدت الرواية نفورها من حياة ربات البيوت العاديات واللواتي لا وظيفة لهن سوى أولادهن والمطبخ ، جسدت أيضًا روعة الصوفية العظمى في مقابل الإسلام العادي الذي يتصف كل معتنقيه في روايتها بالغلظة والجفاء والعمي عن الظلم بينما يكون التسامح والبصيرة النيرة والقلوب المحبة والشخصية الرزينة المتعقلة من نصيب الصوفية وأهلها ، وهذا ما كرهته كثيرًا في الرواية !
لا مانع لدي أن تمجد الصوفية وطريقة عبادتهم فهذي هي الأفكار التي ناضلت لكتابة روايتها فقط من أجلها ، من حقها أن تجسد شخصياتها كل ما آمنت به ، لكن ليس من حق أيهم أن يصور المسلمون بهذه الطريقة ، يذكرني الأمر بأفلام عادل إمام فالشخص المؤمن الذي من المفترض أنه يتقي ربه ويخافه ، هو في الواقع إنسان غليظ فج معدوم الضمير يتظاهر أمام الناس بأنه مثال للشرف والعفة والاستقامة بينما يسبح حقيقة في عفن الظلم تأسره شهوته وتسيل النساء الجميلاء لعابه ، إنسان متلجلج أحمق لا يؤمن بتوبة الخطائين ولا يملك إلا وجها عبوسا قمطريرا يتساقط الزبد من شدقيه ، وهذا في مقابل كم التسامح والصفح والمحبة التي يحملها الصوفي في قلبه وتجري على كل طرف من وجدانه .
أحمل تأثرًا كبيرًا للروايات العربية المترجمة وأحب دومًا أن أكتب عنهم وأقرأ لهم ، لكن أمثال شفاق يحملونني بكل جدية على التفكير فينا ، نحن المسلمون العرب ، من يكتب عنا ؟ من يدافع عما نعتقده وبه نؤمن ؟ من يشرح للعالم من نحن حقًا ومن هم شخوص ماضينا المضيئة ؟
على أية حال .. يبقى ثمة شيء ساحر ورائع ومنعش جدا في كل روايات أليف شفق وهو العودة إلى الماضي ، ماض سحيق وبعيد جدا يعود للقرن الثالث مرة وإلى السابع عشر مرة أخرى ، ماض كانت عصور الخلافة الإسلاميه إبان أيامه في أزهى عصورها ، شمس تشرق على الجميع من غير أن تفنى ، شمس كانت بغداد السامقة تتوسط جبينها ، بغداد وقت أن كانت قبلة العالم ومحط إعجاب بها لا ينقطع .. بغداد مرتع العلماء والشعراء والتلامذة ، بغداد بأسواقها الكبيرة المترعة بروائح التوابل وأشجار الليمون وعصير الفاكهة ، بغداد بتباين أناسها الفريد من نوعه وبصخبهم وضوضائهم واجتماعهم معا متحلقين في مكان واحد يعيشون ويتعايشون ويحيون حياة واحدة تذوب في بوتقتها اختلافاتهم ، حلمت كثيرا بالعودة إليها إبان الخلافة العباسية وقبل أن يسقطها المغول ويحرق بستانيها ، حلمت أن أراها رأي العين وأرى المسلمون يوم كانوا القوة العظمى ومعينا من المعارف وخزائن كتب وحبر مداد سيال لا ينضب ، حلمت ببغداد الشامخة السليمة العفية بغداد الشابة المورقة النضرة ، فبغداد الآن هرمة شيخًا عجوزا يطوف جسدها الكليل ثلة من العلل والأمراض التي أسقمتها وأشعلت المشيب في رأسها والنار في قلبها الكليل المتعب ،حلمت أن أعود لها يومًا ... وكأنما أصغت لحلمي نقلتني شفق بقلمها الساحر إلى حيث تمنيت وشغفت ..
ومهما كان اختلافي معها في الرأي وفي القلب والجوهر ،يبقى سحر أسلوبها وبلاغتها الغضة الرقراقة المهفهفة كما جناحي فراشة .. الرطبة كعشب بلله ندى الفجر ، هذه البلاغة ولا شك تبلغ روحي وتفعل بها السحر فلا أستطيع التوقف أو التراجع عن القراءة بشغف صفحة بعد صفحة دون أن يكون في استطاعتي التوقف بل ويدفعني دفعا إلى الكتاب التالي فور انتهاء هذا الذي بين يدي .