Image title
الرجل الذي اختطفت الساحرة قلبه!


((حينما تختطف الساحرة قلب رجل وحيد!، فكيف سيعيش بدون قلب!؟ وهل يمكن أن تصبح معاناته تلك قضية أمن دولة!؟.. إليك يا صديقي الحكاية منذ البداية حتى النهاية! ......))

***

ذات نهار .....

ذات نهار وحينما كنتُ أعبر أحد شوارع المدينة المزدحمة مرتْ بقربي امرأة شابة غيداء، التقتْ عيناي بعينيها الساحرتين وتبادلنا النظرات بشكل سريع خاطف كما لو أنها ومضات البرق!، نظرات عميقة تحمل في طياتها رسائل مُرمَّزة (مشفرة) لا تفهم لغتها إلا الغريزة البدائية للبشر، خصوصًا  غريزة الإناث الأكثر قدرة ومهارة في فك التشفير!، ثم وفي لمحة عين، وقبل أن تتجاوزني بثانيتين، لمعت على ثغرها الرقيق ابتسامة آسرة هزت كل كياني!، ابتسامة كلؤلؤة عذراء خرجت لتوها من صدفتها، ارتسمت هناك، على ذينك الشفتين الرقيقتين اللتين لهما لون الياقوت، فجعلت تلك الابتسامة الفريدة وجهها الفتّان الذي امتزجت فيها معالم الطفولة بمعالم الأنوثة يتلألأ بسطوع عجيب كالبدر في ليلة صافية بل كما لو أنها بدر البدور!.. صدقوني!، تلك الابتسامة الساحرة النادرة لم تقع على مثلها عيناي من قبل أبدًا إلا مرة واحدة في زمن بعيد مفقود!!، ابتسامة شاهدتها في طفولتي ترتسم على فتاة صغيرة أعجبتني أشد الاعجاب وبادلتني الاعجاب بالإعجاب ثم اختفت ذات يوم كما لو أنها طيف من سراب!!.. وها هي تلك الابتسامة الساحرة تتكرر وتتلألأ على ثغر هذه المرأة الشابة الغيداء!، فوجدتني، من فوري هذا، أتوقف عن المسير، متجمدًا مكاني لهول الصدمة ولشدة الانبهار!، ثم التفتُ نحوها أتبعها بنظراتي المسحورة وهي تمشي مغادرةً المكان بمشيةٍ أنثوية ساحرة لم أر طوال حياتي قط مشية تشبهها!!!، مشية منقطعة النظير، عفوية غير مصطنعة تنبثق من صميم طبيعة شخصيتها الآسرة، مشية الحسناء الواثقة في حسنها الأخَّاذ والتي تعرف إلى حد اليقين بأنها حسناء بكل معنى الكلمة!، حسناء جبارة تلتوي لمرآها أعناق الرجال في ذهول وانكسار ويُجن جنون خفقان قلوبهم حتى تهوي للأرض أو تطير بعيدًا في الهواء تحلق حول تلك الحسناء كما لو أنها فراشات أسكرها رحيق الرياحين!، أقسم لكم إنني طوال حياتي لم أر امرأة تمشي بمثل هذه الرقة والرشاقة والطلاقة العفوية!، أي سحر!؟ وأي جمال؟؟؟، كأنما وهي تمشي بتلك المشية الرائعة تتناثر من حولها اللآلئ والجواهر والدرر!!، ولهذا فُتنتُ بها من النظرة الأولى ووقفت مكاني أحملق فيها كما لو أنني تمثال عتيق يحملق في شيء ما(؟)، شيء ساحر يخطف الأبصار ويثير الاعجاب والدهشة إلى حد الانبهار!.. هكذا كان حالي في تلك اللحظات، فبينما هي تتلألأ بذلك النور العجيب كما لو أنها سيدة الجواهر، ظلتْ عيناي تحملقان كالمصدوم وتتبعانها في انبهار تام وهي ماضية في حال سبيلها تتمايل بتلك الرشاقة المُبهرة حتى نهاية الطريق!، لتختفي هناك وسط الزحام فجأةً كما ظهرت لي فجأة!... وللحظات، وبينما أنا متسمرٌ محلي مثل التمثال!، صاح صوت من أعماق قلبي بصوت طفل صغير في هلع وقلق: ((إنها هي!!، إنها هي!!))((إنها تشبه فتاة احلامي وزهرتي المفقودة وملاكي الضائع!.. لا تدعها تضيع منك مرة أخرى!!)).. فخطر في بالي عقب سماعي هذا الصوت أن أركض نحوها وأحاول أن أفتح بيني وبينها قناة اتصال لعلها تكون (هي) بالفعل، أو على الأقل اتبع خطاها كظلها حتى أعرف مكانها وعنوانها لعليَّ أظل أحلق حوله وألفُّ وأدور كنحلة عطشى تحلق وتدور حول حديقة الزهور حتى أنال رضاها فتفتح أمامي البوابة نحو الرحيق المختوم!، ولكنني – للأسف الشديد - ترددتُ في اللحظة الأخيرة، حينما تدخل عقلي على الخط بصوته الجهوري الرصين الحازم، وذكَّرني بأنني مرتبطٌ بموعد بالغ الأهمية لا يمكن لي أن أخلفه بأي حال من الأحوال!، موعد مهم جدًا يتعلق بحصولي على وظيفة جيدة لطالما رغبت في الحصول عليها منذ زمن طويل!.. وظيفة رفيعة أفضل بكثير من وظيفتي الوضيعة الحالية!، وظيفة مهمة بحصولي عليها ستضع رجلي في مؤسسة مرموقة وعريقة يحلم الكثير بالدخول إليها!... فظللت عالقًا هناك، في تلك اللحظات الملتبسة، حيث أخذ ميزان ارادتي يتأرجح في جنون بين مطلب عقلي ومطلب قلبي دون سكون!، إلى أن رجحت أخيرًا كفة العقل!، فأسرعتُ وغادرت المكان نحو موعدي وأنا في قمة الغيظ والحسرة مُتمنيًا لو لم أكن مشغولًا بهذا الموعد اللعين في هذا اليوم العجيب!، وإلا لكنتُ تبعتها وركضت خلفها ولو لآخر العالم!، فليس من الميسر أن يرى المرء ملاكًا سماويًا كريمًا يهبط للأرض من السماء فجأة قبل أن يغيب فجأة!، فهذا أمر نادر الحدوث!، وربما تمر عقود مديدة من عمرك أو تضيع حياتك كلها دون أن ترى مثل هذا الملاك الكريم بكل هذا الجمال الكاسر وكل هذا الدلال الساحر وكل هذا الجلال الآسر!! .. ومع ذلك وأنا في طريقي لموعدي أعالج شعوري بالحسرة على ما فات ظللتُ أمنّي النفسَ بأن يمنَّ عليّ القدير بفرصةٍ ذهبية أخرى وصدفة أخرى خير من ألف ميعاد، أجد فيها نفسي مرة ثانية، وجهًا لوجه، أمام هذه الشابة الحسناء، فأختطفها من وسط الجموع بكل قوتي، كالصقر، وأطير به نحو السحاب!.

***

في نهاية ذلك النهار

في نهاية ذلك النهار عدتُ إلى بيتي بخُفي حنين، أجر خلفي ذيل خيبتي الطويل والثقيل!، فمع فقداني الطريق إلى ذلك الملاك الضائع المتجسد في تلك الفاتنة الساحرة التي خطفت لبي لم أفز بتلك الوظيفة الشاغرة!.. فاستلقيتُ على سريري لأنام لعليَ أجد في النوم مَهربًا من تأنيب نفسي لي وشعوري بالحسرة والندم على اضاعتي لذلك الملاك طمعًا في تلك الوظيفة، فلا فزتُ بها ولا فزت بذاك الملاك!، وأخذتُ أتقلب على سريري كمن يتقلب على الجمر محاولًا النوم ولكن دون جدوى!، إذ أنني، وأنا أعاني مرارة الحسرات، داهمني للحظات شعور غريب، مريب وغامض!، يشبه ذلك الشعور الغامض الذي يداهمك على حين غرة ويجعلك تشعر بأنك قد نسيت أن تفعل شيئا ً كان يجب عليك فعله دون أن تعرف ما هو هذا الشيء الذي كان عليك فعله!، أو يجعلك تحس بأن ثمة شيء مفقود منك، ثمة شيء ناقص!، شيء ما غير موجود!!، ولهذا وجدتني أقع في حيص بيص والتباس كبير!، واحترتُ كثيرًا في هذا الشعور الغامض الذي يحسسني بفقدان ونقصان شيء ما!، شككتُ في أن أكون قد اضعت محفظتي، فنهضت مسرعًا افتش في جيب مِعْطفي فوجدتُ أن محفظتي في مكانها، وأن كل شيء على ما يرام، ولكن ذلك الشعور الغامض بالقلق والذي يصاحبه شعور عميق وهائل بالخواء التام!، أو بفقدان شيء ما(؟)، شيء ما(؟) مهم للغاية، أفتقده ولكنني لا أدرك بعقلي ما يكون على وجه التعيين!؟.. شعور رهيب وغريب ظل يراودني طوال الليل ويدور في أعماقي دوران الرحى!، وظل يقض مضجعي ويطرد النوم من عيني بلا هوادة!... يا إلهي!، ماذا يحدث لي!؟، هل هذا الشعور بسبب فقداني لذلك الملاك الضائع أم هو بسبب خسارتي لتلك الوظيفة المهمة؟.. سألتُ نفسي مرارًا وتكرارًا ولكن جوابًا واحدًا كان يتردد في كياني دائمًا فيقول: ((لا، ليس هذا السبب في هذا الشعور بالخواء!، بل الأمر أخطر وأكبر!!))... وهكذا ظللت أتقلب على فراشي في حيرة غامضة طوال الليل عاجزًا عن النوم!، ثم وعند حلول سكون آخر الليل البهيم قبل طلوع الفجر، انتبهت لأمر غريب وخطير!!.. أمر لم يدر ببالي على الاطلاق!.. وهو أن نبضات قلبي كانت قد اختفت!، بل ربما يكون قلبي قد توقف عن النبض والخفقان من حيث لا أدري!!، فوضعت يدي على صدري جهة القلب وتساءلت في استغراب: "ماذا يحدث لي بحق الله!؟؟ لماذا لم يخفق قلبي بشدة وسرعة كما جرت العادة كلما شعرت بقلق داهم!؟" ولكن لا جواب!.. فالتزمت السكون التام ووضعت يدي على صدري ثم عنقي محاولًا جس نبضي واكتشفت ما لا يمكن تصديقه!، فانا بالفعل لا نبض لي!!، وقلبي لم يعد يخفق البتة!!!!!، فشعرتُ بفزع عظيم ونهضت من فراشي على عجل وذهبتُ مسرعًا حيث احتفظ بجهاز قياس ضغط الدم ونبض القلب ولففته حول ذراعي وشغلته وكانت النتيجة مذهلة إلى حد الجنون!، فالجهاز أشار إلى أن النبض صفر والضغط صفر!!، أي أن قلبي متوقف عن النبض تمامًا بالفعل (!!؟؟؟؟؟)، هل أنا اذن ميت!؟؟ وإذا كنتُ ميتًا فما هذا الذي يجري لي!!؟ هل أنا متُ بالفعل دون أن أدري وأعيش الآن لحظات هلوسات سكرات الموت!!!؟؟، هل انا أهذي في قبري وعالم الأموات!؟؟.

وظللتُ جالسًا على سريري من شدة الذهول والرعب بعد أن فر النوم من شقتي لا يلوي على شيء بعد أن أجفلته هذه الحقيقة الغريبة والرهيبة والتي مفادها أن قلبي أصبح خارج الخدمة بعد أن أقام أحدهم بالضغط على زر إيقاف التشغيل فتوقف دون علمي!، كيف يمكنني أن أنام وأنا في مواجهة واقع مرعب وغير معقول بهذا الشكل؟؟!!.. وهكذا ظللت مستيقظًا حتى حلول الصباح الباكر فارتديت ملابسي على عجل وانطلقت مسرعًا نحو عيادة الطبيب في الحي الذي أقطنه، وهناك أخبرته بما عرفت وما اكتشفت من أمر جلل!، أقصد مصيبة توقف قلبي عن الخفقان!!.. إلا أنه ما سمعني أخبره بهذا الأمر وأنا بتلك الهيئة من الذعر حتى انفلق يضحك ساخرًا منّي في موجة صاخبةٍ متسلسلة من الضحك إلى أن دمعتْ عيناه وسالت دموعه على خديه فطفق يمسحها بمنديل ورقي ثم نظر نحوي محاولًا منع نفسه من الاسترسال مع موجة الضحك التي اعترته وقال لي ممازحًا: "ولكن يا صديقي لو توقف نبض قلبك عن الخفقان كما تقول لي لكنت الآن في  ثلاجة جثثِ الأموات لا أن تأتي إليّ هنا برجليك لتخبرني بأن قلبك توقف عن النبض!!"، ثم أخلد للصمت برهة ليردف قائًلا بلهجة ساخرة:

  • "إلا إذا كنت أنت قد متَ بالفعل وهذا الذي يجلس أمامي ليس سوى شبحك جاء لعيادتي كي يسخر مني ويعبث بي"!.

قال ذلك بشيء من التهكم ثم سرح بعينيه وخياله في عالم يراه ولا أراه وأردف يقول:

  • " ولكن الاشباح على حد علمي كائنات ليلية لا تظهر في الصباح!"

وشعرت بشيءٍ من الضيق والتبرم بسبب كل هذا التهكم وقلت له بشيءٍ من التحدي الصبياني:

  • "إذا كنتَ لا تصدقني، فتفضل وجرّب أن تجس نبضي أو تقيس ضغط دمي بنفسك"!

فهز رأسه مبتسمًا وهو يقاوم تلك الرغبة في الضحك وقال بلهجة متعالية ومتصنعة كما لو أنه أب يقوم بتهدئة انفعال صغيره:

  • " حسنًا، حسنًا، لا تغضب!، هدئ من روعك!، سأثبت لك بالأرقام بأن قلبك يخفق ويدق مثل العالم والناس!"

وأخذ يلف شريط جهاز قياس الضغط حول ذراعي وهو ينظر إليّ في اشفاقٍ كبير لا يخلو من السخرية محاولًا منع نفسه عن الضحك قدر الإمكان لدرجة أن وجهه المحتقن بالدم اكتسى بالاحمرار لشدة تلك المقاومة النفسية الباطنية الباسلة التي يقوم بها في أعماقه لمنع نهر الضحك من تحطيم السد العالي مرة أخرى والفيضان للخارج في صورة قهقهة صاخبة!، إلا أنه وهو في غمرة المقاومة الباسلة لتيار الضحك الجارف ما لبث أن تجمد كالمسمار في ذهول تام!، وإذ بكل ذلك الاحمرار الذي ارتسم منذ قليل على وجهه يتحول، وبشكل انقلابي عجيب، إلى اصفرار رهيب!، وحملق في وجهي بشك ورعب كأنه ينظر إلى وجه عفريت من الجن يجلس قدامه بقرنيه وذيله!!، ثم هز رأسه مرتين في استنكار، واعاد محاولة قياس النبض وضغط الدم مرة أخرى، وأخذ يجس من حين لحين نبضي بيده وأصابعه ثم بالسماعات اليدوية عشرات المرات بينما جبينه يتفصد بالعرق الكثيف ولكن ظلت نتيجة كل تلك القياسات في كل مرة هي ذات النتيجة الغريبة ذاتها، لا تتبدل ولا تتزحزح قيد انملة!، (صفر!، صفر!، صفر)!!.. فليس ثمة نبض!!، وليس ثمة ضغط دم!!، مما يعني أن القلب متوقف بالفعل عن الخفقان بشكل تام!!... ومع ذلك، أي مع توقف القلب عن العمل – فها هو يراني بأم عينه أجلس أمامه حيًا أرزق!، بل أتكلم معه، بل ويمكنني ان أضحك وأبتسم ايضًا!، وهو ما حصل بالفعل!، حيث أنني ما إن رأيت آثار كل تلك الصدمة الهائلة على وجهه حتى حان دوري في فيضان نهر الضحك المتدفق، فانطلقت أقهقه حتى دمعتْ عيناي بينما الطبيب المسكين يحملق في وجهي في دهشة وذهول وأسارير وجهه تنضح بالذعر الفاضح!، الأمر الذي زاد من رغبتي في مزيد من الضحك على طريقة (شر البلية ما يُضحك!)، لأنني من خلال نظراته المذعورة عرفتُ بأنه بات يعتقد بأنني لست سوى شبح وعفريت!!، ثم وهو يحدق بي بعينين زائغتين من شدة الفزع متسمرًا محله على مقعده مد إصبعه وضغط على زر الجرس يستدعي موظفة الاستقبال التي جاءت على عجل ثم ما إن رأته بتلك الحالة التي يُرثى لها حتى أخذت تنظر إليه في قلق شديد وسألته على عجل وفي ارتباك: "ماذا يجري يا دكتور!؟ هل أنت على ما يُرام؟" لكنه لم ينبس ببنتِ شفةٍ ولا نظر اليها ولو بنظرة واحدة واكتفى بأن أشار بأصبع مرتعش نحوي!، فالتفت إليّ بشكل تلقائي وهي ترمقني بنظرات ملتبسة متعثرة مبعثرة غارقة في الحيرة التامة دون أن تفهم أي شيء من هذه الإشارة!، لتسمع الطبيب يسألها بنبرات مرتعشة وبصوت مخنوق:

  • "هل تبصرين هذا المخلوق!؟"

لكنها لم تفهم ماذا يقصد؟ وماذا يريد بهذا السؤال العجيب على وجه التحديد؟، فأجابت وهي تتخبط في حيرتها:

  • "نعم !، ولكن ما به؟"

فالتزم الصمت كأن على رأسه الطير ثم تمتم قائلًا:

  • "إنها أحجية يشيب لها شعر رأس (آينشتاين) شخصيًا"!!

لكن المسكينة لم تفهم شيئًا مما يدور حولها وظلت واقفة تنظر إلينا كالبلهاء!، فطلب منها الطبيب الانصراف، ثم نظر إليّ بوجه مصفر وقال لي هامسًا:

  • "دعني أجري اتصالًا!"

ورأيته يطلب رقمًا على هاتفه ثم يتحدث بصوت متهدج مع جهة الاتصال طالبًا احضار سيارة اسعاف في أسرع وقت ممكن!!... وأقفل الخط وهو ينظر إليّ في دهشة وذهول متمتمًا:

  • " هذا غير معقول!.. غير معقول!!"

وظل يهذي ببعض الكلمات المتقاطعة وهو يرمقني في حيرة وشك وضياع حتى حضرت بعد عدة دقائق سيارة الإسعاف على عجل لتنقلني للمستشفى، وأصر الطبيب ان يرافقني الى هناك لمعرفة سر هذه الحالة العجيبة النادرة!، سر هذا الرجل الذي يعيش بقلبٍ متوقف عن الخفقان!!!، وهناك في المستشفى اجتمع حولي المختصون وهم في غاية الدهشة والاستغراب بعد أن اجروا على قلبي الفحوصات الاولية من قياس النبض والضغط يدويًا وكذلك عن طريق الاجهزة الالكترونية!، وظلت النتيجة الغريبة الرهيبة تصفع عقولهم مرارًا وتكرارًا حتى بدوا لي وهم يتحلقون حولي ويحملقون في وجهي، جاحظي العيون، فاغري الأفواه، كالمخبولين الى درجة انني اعترتني نوبة من الضحك القهري، فصرتُ اضحك بهستيريا وهم ينظرون نحوي بشك وارتياب وعدم استيعاب!، فأنا طبيًا (ومن الناحية الاكلنيكية) أُعتبر في حكم الاموات!، فالقلبُّ متوقف عن الخفقان، والدورة الدموية متوفقة عن الجريان، فكيف ظللت حيًا حتى الآن وبكامل وعيي وقواي العقلية!!؟؟ من أين يحصل دماغي حيث مركز الوعي والتحكم الإرادي على الاكسجين والسكر وهو لا يستطيع البقاء حيًا بدونهما لأكثر من دقائق معدودة!!!؟….  وكان الاقتراح الأخير الذي اتفق عليه هؤلاء الأطباء هو ان يتم تصوير القلب بجهاز الموجات فوق الصوتية لمراقبة ما يحدث في صدري!، وهو ما حصل بالفعل ولكن النتيجة كانت اشد غرابة وأكثر جنونية مما سبق!!، فالصورة اظهرت أن القلب ليس موجودًا اصلًا وفصلًا!!، مجرد خواء لا غير!، فأنا انسان بدون قلب!!... وتركتهم في ذهولهم يحاولون استعادة عقولهم التي طارت بعيدًا في سماء الغرفة نتيجة هذه الصدمة الكاسحة المخالفة للعقل والمنطق وطبائع الأشياء، وأخذت أعالج آثار هذه الصدمة على عقلي متسائًلا كيف اختفى قلبي وأين طار وأين صار؟ فأنا على يقين تام بأنني لم أولد هكذا منذ البداية بدون قلب!، فقلبي كان موجودًا بجوفي طوال حياتي الماضية، وكنت أشعر به بشكل ربما غير اعتيادي، إذ كنتُ كل ليلة عندما استلقي  على سريري للنوم تصل نبضاته وخفقاته إلى مسامعي، كما لو أنه يخفق في أذني!، حتى أنني شككتُ في الأمر وخشيتُ أن يكون ذلك إشارة على ارتفاع ضغط الدم، وذهبت منذ عدة شهور خلت لزيارة هذا الطبيب نفسه وقاس لي يومذاك نبضات القلب وضغط الدم وأخبرني بأن كل شيء سليم، وأن شدة الخفقان قد تكون فقط من آثار الافراط في تناول القهوة!... وذكرَّتُ الطبيبَ بذلك الأمر حتى أثبت له ولهم بأنني كان لي قلب!، إلا أن طبيبي الخاص لم يتذكر وأخذ وسط الأطباء يفرك فروة رأسه في قلق وحيرة كالأبله ويرمقني بنظراتٍ كله شك وارتياب!، ولكنني كنت متأكدًا من ذلك!، فأنا حتى قبل الليلة البارحة كان لي قلب يخفق كقلوب البشر وكان يزعجني بخفقانه الشديد حينما آوي إلى الفراش كما لو فرس حرون يركض في البرية!، لكنني اكتشفت البارحة – على وجه التحديد - بأنه قلبي ذاك اختفى فجأة وتلاشى كما لو أنه فص ملح ذاب في كوب ماء!، اختفى لسبب مجهول!!، اكتشفت ذلك حينما اعترتني حالة وجدانية غامضة وغريبة جعلتني أشعر بأنني أعاني من فقدان شيءٍ ما!، شيء ما مهم للغاية بات مفقودًا!، وأخذت أفكر وأبحث عن ذلك الشيء المفقود حتى علمت بأن نبضات قلبي لم تعد موجودة!، وأن قلبي توقف عن الخفقان!.... وها أنا أجلس وسط كل هؤلاء الأطباء في المستشفى وهم في حيرة تامة بعد أن أظهرت الصور عدم وجود قلب في جسمي!، وأثبتت أنني انسان حي ولكن بدون قلب!.

وأخذ الأطباء وسط الفوضى العارمة يتحركون جيئة وذهابًا، بعضهم يخرج لبعض الوقت من غرفة المعاينة ثم ما يلبث أن يعود من جديد محمر الوجه أشعث الشعر!، وبعضهم الآخر كان يجري مكالمات هاتفية ويلتزم ركن الغرفة وهم يهمس بكلمات غير مسموعة!، إلى أن جاء أحد الموظفين إلى المكان وهو يركض ويلهث من شدة الأعياء حاملًا ملف سجلي الطبي منذ طفولتي واتضح انني قد وُلدتُ بشكل طبيعي، بكامل الاعضاء الخارجية والباطنية وانني وُلدت بقلبٍ قوي وسليم، وأخذ الأطباء المجتمعون من حولي تارة ً ينظر أحدهم في وجه الآخر في ذهول وعدم تصديق وتارةً أخرى يحملقون في وجهي جميعًا في شك وارتياب كما لو أنني جنيٌ أو مخلوق فضائي!، بينما أنا أصرخ في أعماقي متسائلًا في دهشة وبجنون: "أين قلبي!!؟؟؟ أين اختفى؟ أين طار!؟.. ومن سرقه مني ومتى!!؟؟؟".

***

رجل حي ولكن بدون قلب !!

سرعان ما انتشر الخبر الغريب العجيب في المستشفى ومنه ظهر للشارع وانتشر انتشار النار في الهشيم !... "رجل حي يُرزق يمشي ويتكلم وليس له قلب البتة!، انه يعيش بدون قلب!، من ذا يمكن أن يصدق؟!"... ونزل هذا الخبر الغريب على رؤوس ونفوس الناس نزول الصاعقة وأصبحوا في ذهول بين مصدق ومكذّب!!، وجاء رجال الصحافة ووسائل الاعلام يركضون من أقصى المدينة وأصبح الزحام خارج المستشفى على أشده، وظلَّ الناس يتقاطرون من كل ارجاء المدينة من باب حب الفضول لمشاهدة هذا الرجل العجيب الذي يعيش بدون قلب!؟، تساءل أحد الصحفيين: "هل هذا يعني انه سيعيش الى الابد!؟ هل سيكون من الخالدين !!؟؟"، وتساءلت احدى الصحف الأخرى: "هل هو المسيح أم المسيخ الدجال!؟؟" وقالت صحيفة أخرى: "هل سيكتشف البشر اخيرًا من خلال هذا الرجل الأعجوبة سر الخلود!؟؟ هل سيصبح الموت من الماضي!!؟؟"، بينما تساءلت صحيفة أخرى في تشكك وفي تلميح لنظرية المؤامرة تحت عنوان (انتبهوا أيها السادة!) وكتبت تقول: "قد تكون هذه أكذوبة أخرى!؟، ألعوبة مخابراتية جديدة لإلهاء الناس عن الأزمة الاقتصادية الخانقة وأزمة تآكل البيئة الطبيعية للكوكب!.. فهل أنتم منتبهون؟؟".

ومع تكاثر الناس وتقاطر الصحفيون والمصورون خارج المستشفى طوّقت الشرطة المكان بأوامر عليا لتحُول دون دخول الصحفيين والمتطفلين الى المستشفى حيث كان مراسلو الصحف والقنوات الاعلامية يتنافسون على الفوز بالسبق الصحفي في تناول هذا الحدث العجيب غير المسبوق، محاولين الوصول لغرفتي الخاصة التي حُجزتُ فيها، إلى درجة أن مُدون شاب شهير في الفيسبوك تمكن من تسلق مبنى المستشفى وحاول الوصول إلى غرفتي من النافذة لعله يفوز بسبق صحفي وينال رقمًا قياسيًا في حصد أصوات المعجبين ولكن – لسوء حظه – كان رجال الشرطة له بالمرصاد وتمكنوا من القاء القبض عليه عند وصوله لشرفة النافذة واقتادوه إلى خارج المستشفى!.... بل كان الكثير من الناس العاديين الفضوليين يرغب في الوصول إليّ كي يشاهدوا بأم اعينهم هذه الاعجوبة والمعجزة التي تمشي على قدميها!!، ((إنسان حي وبكامل قواه العقلية ولكنه بدون قلب!!)) وبعض الناس كان يُصدق بأنني مخلوق فضائي جاء للأرض أو أنني السيد المسيح الذي عاد ليخلص البشر من الموت كما زعم البعض! ... وزارني السيد محافظ المدينة وحرمه المصون وكريمته الجميلة في غرفتي محملين بباقات الزهور وأقبل نحوي مبتسمًا وهو يصافحني بحرارة شديدة كما لو أنني بطل وطني وقومي أو مخترع عظيم والتقط معي هو وزوجته وكريمته صورًا تذكارية، وكان برفقتهم رجل غامض متحفظ مهيب قدمه لي المحافظ لي على أنه مسؤول أمني رفيع من رجال الأمن القومي لم أرتح لنظراته إليّ (!!) والذي ما إن قدمه لي المحافظ حتى بادرني بابتسامة صفراء باهتة ثم بدأ حديثه معي بالقول أن المحافظ قد أخبره بأنه سيقيم لي حفلًا خاصًا بعد مرور العاصفة وانتهاء التحقيقات الاولية!، وأخذ يطمئنني بخصوص تغيبي عن عملي وأن الجهات المعنية ستخصص لي راتبًا بسبب حالتي الصحية الحرجة التي أمر بها!، فأسعدني ذلك لكنني سرعان ما انتبهت مستغربًا من ورود عبارة (التحقيقات الاولية!؟) في كلامه لي عوضًا عن عبارة (الكشوفات الطبية) أو (البحوث العلمية)، فسألته في خوف وارتباك:

  • "ولكن ماذا تقصد بقولك (التحقيقات الأولية) يا سيدي؟؟؟!!، هل أنا رهن الاعتقال والتحقيق!؟"

فأجابني بالنفي وهو يبتسم تلك الابتسامة الصفراء المصطنعة غير المريحة ثم أردف بلهجةٍ رصينة واثقة:

  • "ولكن – كما تعلم حضرتك - هكذا حالة، كحالتك النادرة هذه، هي حالة استثنائية جدًا، فانت حالة فريدة وغير مسبوقة ولهذا نخشى أن تفكر بعض الدول المعادية لبلادنا في اختطافك لإجراء اختبارات عليك ومعرفة سر اختفاء قلبك وقدرتك على البقاء حياً بدون قلب!، وبالتالي ستفوز هذه الدولة قبل دولتنا بالسبق العلمي ونخسر الرهان!!"

قال السيد (المسؤول الأمني الرفيع) ذلك لي ثم أخلد للصمت للحظات ثم أردف يقول بلهجة وديةٍ كما لو انه يتحدث مع صديق قديم:

  • "انت يا عزيزي – كمواطن وطني وصالح - تعلم حساسية الوضع الدولي ومسألة الأمن القومي!!؟؟؟"

ومع أنني لم أفهم ما يعنيه بكلامه، وبالرغم بشعوري بتوجس كبير منه واحساسي كأنني سيتم توريطي في لعبة كبيرة وخطيرة أكبر مني مع (الكبار) وبما يشبه العاب وحرب العصابات المتناحرة ولكنني جاملته وهززت رأسي موافقًا وأنا أزدرد ريقي!، فأردف يقول:

  • "لهذا فانت الآن يا صديقي بحالتك الفريدة تُعتبر في حكم مخزن معلومة كبيرة وخطيرة جدًا، معلومة حساسة تدخل ضمن الأمن القومي لبلادنا وأنا أعلم وأفهم بأنك تمتلك من الوطنية ما يجعلك تتفهم هذا الوضع شديد الحساسية!"

فشعرتُ في اعماقي بهلع كبير ولكنني هززتُ رأسي مرة أخرى علامة الموافقة ثم ابتلعت ريقي للمرة الثانية ولذتُ بالصمت!، إذ أنني بتُ اشعر من تلك اللحظة بخطورة الوضع الذي وجدتُ نفسي فيه بسبب اختفاء قلبي بطريقة مجهولة وغير معقولة!، بل إنني - ومن خلال تواجد كل هذا العدد من رجال البوليس الذين يحيطون بغرفتي من كل جانب - بتُ أشعر بأنني في حكم المُعتقَـل أو الأسير!، فقد بدا لي أنني صرت محتجزًا بشكل رسمي ولم أعد امتلك حرية التحرك ولا التنقل ولا الكلام!، وهكذا فإنني، فضلًا عن مصيبتي بهذه المشكلة الغريبة العجيبة باختفاء قلبي، ها أنا ذا أعاني من مصيبة ومشكلة أخرى وهي وقوعي في قبضة رجال الأمن لأمر يتعلق بأمن الدولة!!!، أمن المعلومات الحساسة!!!، كما لو أنني ملف سري خطير يجب التحفظ عليه بسرية تامة واحاطته بجدار من الحديد العازل!!.

***

وهكذا ظلت هذه القضية الفريدة والحالة الغريبة تكبر وتتضخم ككرة الثلج حتى تحولت مع تسرب المعلومات عن طريق الصحافة المحلية الى قضية دولية!!، ((رجل حي يعيش بلا قلب وبكامل قواه الحيوية والعقلية!!)) ، وأصبح إسمي يتردد في جميع صحف ومجلات و قنوات العالم ومواقع التواصل الاجتماعي وتصدرت صورتي أغلفة الكثير من المجلات بعناوين عريضة ومثيرة، وظهرت أغنية عاطفية حزينة مصورة (فيديو كليب) حول الموضوع تظهرني بطريقة الرسوم المتحركة (الأنمي) وأنا أركض خلف قلبي بينما هو يطير محلقًا في السماء بجناحين!، وكذلك ظهرت رسومات ساخرة الشهير تسخر من ظهور أول حالة بشرية بلا قلب باعتبارها أعلى حلقات سلسلة التطور الحيواني و(الجيني) للبشر – وفق منطق نظرية التطور والارتقاء - إذ لم تعد هناك – حسب رأي ذلك الكاتب والرسام الساخر - حاجة بيولوجية مُلحة للعواطف والمشاعر الإنسانية في زمن الأجهزة والحسابات الدقيقة، لذلك تم تجاوز مرحلة (البشر العاطفيين) من خلال التخلص من القلب كأداة للعواطف باعتباره يستهلك الطاقة الحيوية والعصبية على أمور غير ذات جدوى!!، فالعقل البشري مدعومًا بالعقل الآلي يمكنه القيام بالمهام المطلوبة بشكل أفضل عند التخلص من القلب!... بينما كاتب ساخر آخر كتب يدعو إلى اجراء فحوصات للتأكد من وجود القلب في أجسام قادة الدول وقادة الصناعة والمؤسسات المالية والرأسمالية في العالم!، قائلًا بأنه من الراجح بأنهم لا يملكون قلوبًا!، بدليل أنهم لا يبالون بكل هذه المجاعات التي تضرب الأرض!، ولا يبالون بالآثار السلبية للرأسمالية المتوحشة على صحة (أمنا الطبيعة) المغدورة التي أصيبت بسبب الإنتاج الصناعي الجائر بتشوهات خَلقية خطيرة تنذر بسقوط الحضارة!!.... هكذا سخرت تلك الرسومات والكتابات الساخرة من هذه الواقعة الغريبة ومن حالتي النادرة الفريدة!، وبهذا أصبحتُ (الشغل الشاغل) لكل هذا العالم الطويل العريض!!، ينامون على ذكْرِي ويستيقظون على ذكري!!.....  وهو ما جعل (السلطات الأمنية) في بلادي تشعر بالقلق على سلامتي وأمني!، أو بمعنى أدق (سلامة هذه الحالة الخاصة وأمن هذه المعلومة الحساسة!) ولهذا قاموا بنقلي، في وقت متأخر من الليل، لمكان سري في سيارة خاصة مُغلقة كي لا أعرف أنا نفسي مكان إقامتي الجديد!، وهناك – في ذلك المكان المجهول والمعزول - بدأ رجال الأمن معي تحقيقا ً طويلا ً مُملاً حاولوا إظهاره بمظهر التحقيق الودي ولكنه كان جديًا وثقيلًا أصابني بالذعر، حيث أنني شعرتُ بالفعل بأنني رهن الاعتقال ورهن التحقيق بل وشعرت بأنني في موضع شك واتهام!!، وبدأوا تحقيقهم بالاستفسار عن قصة حياتي منذ مولدي حتى يوم إكتشافي أن قلبي غير موجود!!، وكانوا يغرقونني في بحيرة من الأسئلة المملة والمتشعبة التي تتعلق بأدق التفاصيل!،  فإذا لاحظوا علي التعب والملل تركوني في حالي ليعودوا في اليوم التالي يحققون ويكتبون كل التفاصيل بكل عناية ويطرحون أسئلة جديدة وغريبة وربما لا تخطر على البال!، ومنها أسئلة عن علاقاتي النسوية!!، ولكنني لم تكن لدي أية علاقات نسوية تستحق الذكر، والعلاقة الوحيدة (الجدية) و(العميقة) هي علاقة طفولية ساذجة وبريئة حدثت في طفولتي وأنا في العاشرة من عمري!، وكانت فتاتي تلك التي تعلقت بها وتعلقت بي، زهرة في فرقة الزهرات بحركة الكشافة بينما  كنتُ أنا شِبلًا في فريق أشبال الكشافة، كانت علاقة طفولية رومانسية بريئة جمعت بين قلبينا بشكل عجيب، أيام كان لي قلب!، قوة جاذبية سحرية لا أفهمها أنا ولا هي جعلت كلنا يهتم بالآخر سواء عند الاحتفالات المشتركة التي كانت تجري بين فرق الأولاد والبنات أو حتى حينما نلتقي صدفةً في الشارع أثناء العودة من المدرسة!... واستمرت هذه العلاقة البريئة بهذه الطريقة الساذجة حتى نشبت الحرب الأهلية المرعبة واضطرت اسرتها لمغادرة مدينتنا على عجل وبشكل مفاجئ، فاختفت فتاتي منذ ذلك اليوم ولم أعد أراها واختفت معها فرحتي الساذجة بالحياة لكن صورتها الجميلة المحفورة على صخور ذاكرتي ظلت باقية تداعب خيالي بقية حياتي، تقاوم ممحاة الزمن، وتقاوم كل عوامل التعرية وكل عوامل النسيان!، وظللت من بعدها زاهدًا في النساء بالرغم من أنني تجاوزت الثلاثين من عمري، لا تهتز مشاعري وأوتار قلبي ولا ترقص نفسي لأي فتاة!، ربما أحيانًا - كمراهق ثم كشاب وكرجل يحمل في أعماقه الجنس الذكري - كانت تشدني ملامح بعض النساء الفاتنات اللواتي انفجرت في اجسامهن ينابيع الأنوثة العارمة بشكل سخي وفياض، فتنتفض شهوتي الجنسية تدق طبول الرغبة بصوت عال وبإيقاع وحشي بدائي قديم وسريع!، ولكن عاطفتي الإنسية الرومانسية شيءٌ آخر غير شهوتي الذكورية وغريزتي الجنسية!، فتلك العاطفة الرومانسية ظلت ملتصقة بصورة فتاتي الصغيرة الزهراء التي اختفت ذات مساء وسط غبار الحرب الأهلية!!... ولم ألتفت لغيرها ولم يهتز قلبي قيد انملة لسواها حتى شاهدت في ذلك اليوم (المشؤوم) تلك المرأة الغيداء الحسناء عندما كنت في طريقي ذلك الصباح للقيام بالمقابلة الشخصية في تلك المؤسسة المرموقة راجيًا حصولي على تلك الوظيفة التي كان يتنافس حولها المتنافسون!، ففي ذلك الصباح قابلتُ تلك الحسناء الساحرة والتقت عيناها بعيني، ووجدتها ترسل نحوي تلك الابتسامة الباهرة كفراشة ملونة مما جعل قلبي يقفز من على سريره وهو يصيح كطفل حالم ومهتاج: ((إنها هي!!، إنها هي!!))((إنها تشبه فتاة احلامي وزهرتي المفقودة وملاكي الضائع!، فلا تدعها تضيع منّي مرة أخرى!)).... وكان بودي أن ألبي طلب قلبي ذاك، فألحقها إلى آخر الدنيا لعلي أفوز بقلبها ويسعدني الحظ بحبها وقربها ولكن (عقلي) بحساباته العقلانية الصارمة تدخل كما لو أنه شرطي من شرطة الآداب في تلك اللحظة الرومانسية وشد قلبي من تلابيبه وألقاه بكل قسوة في غياهب الجب!، وأجبرني، بالتالي، على المضي في حال سبيلي نحو تلك المؤسسة الضخمة لإجراء المقابلة الشخصية راجيًا الفوز بتلك الوظيفة الشاغرة المعروضة للتنافس والتي انتهى الأمر – للأسف الشديد - بفشلي في الفوز بها!.. فاجتمعت في قلبي في آخر ذلك اليوم حسرتان مريرتان وكبيرتان، الأولى فقداني الطريق نحو تلك الحسناء البديعة، والثانية خسراني تلك الوظيفة الرفيعة!، مما حول سريري تلك الليلة إلى فراش من الجمر الملتهب!، لأكتشف بعدها توقف قلبي عن النبض ثم لأكتشف بعد الفحوصات الطبية أن قلبي اختفى من جسمي وأنني بت رجلًا بدون قلب!!.... هكذا حدثت أولئك المحققين الفضوليين عن كل شيء، ولكنني لاحظت تركيزهم غير الاعتيادي على قصة تلك المرأة الغيداء والحسناء التي أبهرتني بحسنها وجمالها!!... وأخذوا يطرحون حولها أسئلة واستفسارات متعددة ومتشعبة، سألوني عن تفاصيل هيئتها بل وأحضروا رسامًا ذات صباح فأخذتُ أصفها له من ذاكرتي وهو يرسم ثم يعرض عليّ ما رسمه فإذا ذكرت أن الفرق كبير، عاد يسألني عن أوصافها بشكل دقيق وهو يرسم حتى تمكن آخر النهار من رسم لوحة قريبة جدًا لملامح تلك الحسناء التي خطفت لُبي وربما تكون هي من سرق قلبي!... وهكذا استمرت، على هذا المنوال، تلك التحقيقات المرهقة بل وأحيانًا كان محققون آخرون، جُدد، غير السابقين، يأتون ليبدؤوا التحقيق نفسه وبنفس الأسئلة والاستفسارات السابقة ثم ينصرفون ليعود الأولون!، وهلم جرًا!.

***

نتائج التحقيقات الرسمية!؟

في نهاية المطاف مع طول البحث والتقصي والتحقيقات اكتشف جهاز الأمن والمخابرات العامة المختص بأمن الدولة (الحقيقة)!!... فحسب ما ورد فيما ذكروه لي وحسب ما تم نشره في الصحف لاحقًا أن المسألة تتعلق بالسحر (الأسود)!!.. فقد زعموا بأنني قد تعرضت لعملية سطو على قلبي بطريقة سحرية خارقة للعادة!!، فتلك المرأة الحسناء الشابة التي مرت بقربي في ذلك النهار كانت هي وراء عملية اختفاء قلبي!، حيث ذكر التقرير بأنها – بالرغم من كل جمالها الآسر وجهها الفتان – فإنها ليست سوى ساحرة شريرة تمارس أعمال السحر الأسود والشعوذة!، تلك المرأة الشابة التي كانت قد ابتسمت لي تلك الابتسامة الساحرة ونظرت لي تلك النظرة الحلوة الآسرة!!، هكذا قيل لي!، فهي ليست سوى (ساحرة شريرة خطيرة) اختطفت قلبي لتستعمله في طقوس سحرية ضدي بطلب من زوجتي السابقة التي هجرتها منذ اعوام والتي كانت تسعى للانتقام مني واعادتي ذليلًا لبيت الطاعة من خلال قوة السحر الاسود! .

ومع الوصول لهذه النتيجة من خلال كل تلك التحقيقات فإن رجال الشرطة السريين أخذوا يطاردون تلك الساحرة من مكان لمكان إلى أن تمكنوا في نهاية المطاف من الوصول الى مخبأها الأصلي ومقرها السري في بيت في مزرعة معزولة في الريف وسط غابة كثيفة لكنها تمكنت من الافلات منهم بطريقة سحرية غريبة وبالتالي الفرار إلى مكان مجهول!، ومن خلال تفتيش ذلك المقر السحري وجدوا عدة قلوب محفوظة ومُجمدة في ثلاجة ومن بينها كان قلبي المخطوف المسكين!، وبالرغم مرور ما يزيد عن شهر عن تلك الحادثة – حادثة اختطاف قلبي بطريقة سرية غير مفهومة! - إلا أن الأطباء المختصين أكدوا لي بأنه لا يزال سليمًا وفي حالة جيدة ولم يتعرض لأي تلف جدي، فقررتُ السلطات المحلية بايعاز من الجهات الأمنية المختصة إعادة قلبي لمكانه في جسمي وكذلك قلوب بقية الأشخاص التي وُجدت في حالة التجميد ببيت الساحرة، حتى يتم اغلاق هذا الملف وهذه القضية المحيرة! .... وهكذا في غضون أيام قام فريق من الأطباء المشهورين بإجراء عملية زرع قلب لإعادة قلبي الي مكانه الطبيعي وسط تغطية اعلامية عارمة وغير مسبوقة!.

ثم بعد مرور عدة اسابيع بدأتُ اتعافى تدريجًا من أثر العملية، ولكنني حينما انتبهت لما حولي في غرفتي بالمستشفى لاحظت أنه لا وجود للصحافة ولا رجال الشرطة الذين كانوا يحرسون غرفتي ولا شعرت بتلك المعاملة الخاصة والمميزة التي كان يعاملني بها طاقم المستشفى من اطباء وممرضات!!، فمنذ أعيد الي قلبي ورجع كما كان ينبض ويضخ الدم في عروقي أصبح الجميع يتعامل معي كنزيل عادي من نزلاء المستشفى العاديين (!!!) ولم يعد أحد يتذكر أو يذكر تلك الأعجوبة التي كنتُ أجسدها حينما كنتُ اعيش منذ أسابيع خلت بلا قلب!!، فيومها كان العالم كله شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا يلهج بذكري ولا تخلو صحفية من صحف المحلية والدولية من الحديث عنّي تحت لقب (الرجل المعجزة، الرجل الخارق، السوبرمان!، اعجوبة العصر، الرجل الخالد.. قمة التطور البيولوجي البشري !! ، آدم الجديد !! .. المسيح المنتظر!...إلخ ..الخ)، واليوم هأنذا طريح سريري نزيل المستشفى لا أحد يزورني أو يُلقي لي بالًا!، لقد عدتُ كما كنتُ شخصًا هامشيًا مُهمْشًا يعيش على هامش الدنيا لا يكاد يلمحه أحد من العابرين!، حتى محافظ المدينة لم يتذكرني ولا أرسل لي باقة ورد على  اقل تقدير!، ظللت هناك في المستشفى وحيدًا لا القى من الاهتمام الا ما هو في حدود الاهتمام العادي بكل مريض ونزيل حتى تماثلت للشفاء وتأكد الاطباء من خلال اجراء الفحوصات أن وضعي بات مستقرًا وعاديًا وأن قلبي المسروق عاد للعمل بشكل طبيعي كمضخة للدم، وأن الدورة الدموية تجري كالمعتاد وتزود الدماغ وبقية خلايا واعضاء الجسم بالمواد اللازمة للبناء وانتاج الطاقة !!!.

وحان يوم مغادرتي المستشفى وعند الباب لم اجد احدًا في انتظاري، لا قريب ولا حبيب، لا شرطة ولا رجال صحافة ولا إعلام، لا أحد اعترض طريقي أو استقبلني عند باب المستشفى غير شحات متسول، رث الثياب، كان يقف بالقرب من باب المستشفى مستغلًا فرحة خروج المرضى من هذا المكان كي يحصل منهم على ما تجود به أنفسهم!، وحتى زوجتي السابقة لم تفكر حتى الاتصال بي هاتفيًا للاطمئنان عني أو على الأقل لشكري جراء تنازلي خطيًا عن اتهامها بأي شيء بالرغم من أن التحقيقات تشير إلى تورطها ووقوفها خلف تحريض تلك الساحرة على سرقة قلبي مقابل مبلغ مالي!!، حتى وإن كان تنازلي من الناحية القانونية لا يضر ولا ينفع إذ أن القضية برمتها لا محل قانوني لها فهي أغرب من الخيال!، فضلًا عن أن زوجتي التي هجرتها أنكرت في تصريحات صحفية  ضلوعها في تلك الحادثة وسخرت مما قيل عن تورطها في عملية سرقة قلبي، خصوصًا وأن السلطات أغلقت ملف هذه القضية الفريدة والغامضة وغير المعقولة بعد قرار إعادة زرع قلبي واعادته لمحله!!.

وهكذا خرجتُ من المستشفى وحيدًا واستقللتُ سيارة أجرة (تاكسي) إلى البيت، ووجدتُ البيت موحشًا كما كان وجلستُ هناك على الأريكة أقلّب محطات التلفاز المحلية والدولية لعلني اجد قناة تتحدث عن خبر إعادة قلبي لي وشفائي وخروجي من المستشفى ولكن لم أجد شيئًا من ذلك على الإطلاق!، كأن شيئاً لم يكن!!، كل ما هنالك الاخبار المعتادة المكرورة، انتخابات، الأزمة الاقتصادية العالمية، أسعار البورصة!، الحروب، العمليات الارهابية، تظاهرات واحتجاجات ، تجارب نووية، ذوبان الجليد، فيضانات، افلام جديدة، دعايات استهلاكية مغرية، حفلات غنائية، موسيقى صاخبة مجنونة، خروج قطار عن مساره ودهسه لبيوت فقراء بجوار السكة، المجاعات والفقر والأوبئة  في أفريقيا وأسيا، سقوط طائرة لأسباب مجهولة وغامضة وادعاء البعض أن هناك جهة ما تخترق منظومة الطائرات الآلية من الأرض وبالتالي التحكم فيها عن بُعد وتسييرها حيث تريد أو حتى العمل على تعطيلها و اسقاطها لتسجل القضية فيما بعد ضد مجهول أو تنسب لجماعة القاعدة الارهابية!، .....الخ ... هكذا هي أحوال وأخبار العالم المعتادة سواء أيام كنت أعيش بلا قلب أو حينما أستعدت قلبي من جديد!!.

***

تعلق المسحور بالساحرة ..!؟

0

نشرت بتاريخ:

09/05/2019