منذ صغري وأنا أتقوقع في منطقة الراحة حتى أدمنتها. لم يكن الموضوع كُرهًا بالإذاعة المدرسية، أو زُهدًا بالسُلطة بأن أكون من طلّاب النظام في المدرسة، ولكن كأي "مدمن راحة" كانت الجملة اللتي لا تفارق لساني هي "وش الله حادّني".

تخرّجت من الثانوية وقُبلت في رغبتي الأولى في كلية إدارة الأعمال وبدأت الدراسة. خلال تلك الفترة كان أخي يؤسس مشروعه التجاري، وكنت أشهد التطوّرات أولًا بأول وكنت عنصر فعّال في تجارب الأداء للنكهات المختلفة من الحلويات والساندوتشات - أو كنت أحسبني كذلك-. في كل مرة أزور المحل أتمنى له التوفيق ولا أكُفّ عن "التلحوس" حتى يُبادر ويطلب مني أن أجرّب نوع جديد كي أساهم في التطوير والتحسين وإبداء الملاحظات، وبردة فعل مُتفاجئة أقبل وكأنني مغصوب لكي أساهم في هذا الصرح العظيم. حتى أن الـChef أصبح كل ما وطأت قدماي على المحل، قدّم لي طبقي المفضّل وهو يسأل ما إذا كان اليوم أفضل من أمس بناءً على تعليقاتي المستمرة. أنا وهو نعلم أنه لم يغيّر شيء، ولكنها ضيافة أخويّة كي لا أشعُر بالتثقيل عليهم.

انتهت فترة التجارب ولم يبقى صنف لم أتذوّقه وأعرف تفاصيله والوقت المتوقّع لتحضيره، حتى اقتربت ساعة الصفر. بقي على الافتتاح بضعة أيام، سألت أخي من باب الفضول "من بيداوم معك في المحل؟" وردّ بسرعة عجيبة وثقة تامّة وبدون تردّد "أنت ان شاء الله". 

أبتسمت في البداية ظنّا مني أنه يمزح ولكنه كان مشغول جدًا بحديثه الحادّ مع المقاول كي يفتتح المحل. أستوعبت وقتها جدية الموقف، وأخذت أفكر لماذا؟ هل هذا عِقاب؟ أم أنه "حق الساندوتشات اللي كنت اطفحها الشهرين اللي راحت". 

لم أردّ في وقتها، وتأنيت في الاجابة حتى أفكّر بالأعذار اللتي سوف تُعفيني بما أن "وش الله حادّني" لن تنقذني. أنا شاب أدرس وعندي اختبارات ومستقبل وهذا ممكن يؤثر علي. 

استجمعت حُججي وأفكاري وبراهيني ونثرتها عليه مُبرّرًا سوء الفكرة، وتأثيرها السلبي على أخيه الأصغر. دحضها بثانية وكأني لم أُفكّر بالموضوع قط. وأقنعني أن أبدأ وقت الافتتاح حتى تبدأ الدراسة والوجه من الوجه أبيض. وافقت على مضض، وأنا أتحسّب على الساعة اللي ذقت فيها ذاك الحلى. أصبح الافتتاح همّ وكأنه اختبار نهائي لم أبدأ بالتحضير له. 

دقّت ساعة الصفر وتم الافتتاح والاحتفال وسط بهجة مؤقتة، ابتسامة مزيّفة بداخلها زملة شديدة. لم يأخذ الموضوع بضع ساعات حتى لم يبق في المحل أحد. أغلقنا المحل وتسحّرنا بالداخل وكأنه كان حلم. 

في اليوم الثاني وبعد أن فُتح المحل، سألته عن كيفية التعامل مع الجمهور وأن يتكرّم علي من واسع علمه، وقال: "بسيطة، خلّك عفوي" وقبل أن يكمل حديثه، قاطعتنا أول عميلة بدخولها للمحل وأنا اتسائل في داخلي عن العفوية وكيف لها أن تقنع العملاء بالشراء. أشّر لي بأن أذهب وأرحّب بها. 
ذهبت إليها وانا مُفعمٌ بالعفوية، منتظرًا أن تسأل سؤال واحد كي أُبهرها بعفويّتي. ولكنها كانت تتمشّى وتشاهد المنتجات المعروضة وأنا انظر لها بكل عفوية ولكن بدون ترحيب. ما أن أخذت بضع ثواني حتى أستوعبت هذا الشاب الواقف على الكاونتر ينظر وكأنه يُريد أن يتكلّم ولكنه هنالك ما يمنعه. حدث التواصل البصري الأول وأكملت التمشّي ولسان حالها يقول "يا أبن الحلال والله منيب سارقة شيء". 

خرجت العميلة الأولى دون أن تنطق بحرف، فرجعت لأخي وأنا أقول "هه شفت، ما يصلح لي الموضوع". فقال الموضوع بسيط وأخذ يُدرّبني حتى بدأت بالترحيب بالعملاء الجُدد، وعرض المساعدة والمحادثات العفوية. تمكّنت من البيع، وتعلّمت بعض الحيل لكسب العملاء والعجيب أن العفوية كانت أبرزها. 

بدأت الدراسة وبما أن هذا العمل أصبح من منطقة الراحة، لم أمانع الاستمرار. بل أن أحد أساتذة الجامعة عرض 5 درجات إضافية لأي طالب يعمل بشكل جزئي، فذهبت له فخورًا بعملي مسلّمًا أياه شهادة الخبرة والموقّع في أسفل الصفحة أخي. فأبتسم وقال "ايه يا فهد بس أنك تداوم عند أخوك". فبرّرت له المصاعب والمشاكل اللتي تواجهني فقاطعني قائلًا "بس ساعات العمل ميب نفس اذا اشتغلت عند أحد ثاني". فتحدّيته على الفور: شرّفني في المحل أي وقت من الساعة الرابعة حتى الحادية عشر مساءً، وأن لم تجدني، فأخصم علي الخمسة درجات. وبابتسامة لطيفة قال "على خير ان شاء الله". تلقّيت الدرجة الكاملة في المادة دون أن يزورني، وكان هذا الأستاذ أعظم من درّسني وأستفدت منه، حتى أنّي أذكّره بالموقف حتى بعد التخرّج وأتشرّه عليه لعدم زيارته لي. 

أستمر عملي بشكل روتيني حتى دخلت أم خالد إلى المحل. إمرأة فاضلة ويبدو أن أصغر أبناءها أكبر مني. 

بدأت مُرحّبًا "حياك الله طال عمرك" (لا تقُل يا خالة مهما بلغ عمرها، ص١ كتاب المبيعات 101). نظرت لي بفخر بأن الشباب السعودي بدأ بالعمل بنفسه في الأعمال التجارية (وكان شيء نادر في ذلك الحين). عرضت المساعدة فطلبتها وخدمتها على أكمل وجه حتى أنها خرجت وهي مليئة بالسعادة على الخدمة الأكثر من رائعة وهي تدعي لي بالتوفيق والسعادة. 

عادت بعد عدة أيام لاستلام طلبها، فعرفتها مباشرةً ورحّبت بها قائلًا "حياك الله أم خالد" علمًا أن المحل لم يكن خالي. فَرَحت أم خالد بهذا الترحيب الحارّ واستلمت طلبها ولكن لم تذهب. فتوجّست خوفًا من أن خطأ غير محسوب قد حدث، فنظرت إليها وهي تؤشر لي بالاقتراب. طرأ في بالي آلاف السيناريوات ولكن حسن النيّة قدّم شيء واحد فقط. كأي أم فخورة بإبنها، توقّعت أن تكافئني وتبخششني بمية ريال، فجهّزت كل ردودي اللتي سوف أرفض بها هذه الهدية. 

عندما أقتربت منها سألتني بشكل مباشر "وش مقاس شغالتكم؟

أخذت لحظة للاستيعاب، ولكنّي لم استوعب. توقّعت أني لم أسمع بشكل واضح فقلت "سمّي؟" فأعادت نفس السؤال بشكل أوضح. أجبتها على الفور "ما قستها الصدق بس آمري". 
أستوعبت أم خالد أني منلخم، وأن السؤال كان مُباغتًا ولم يكُن متوقعًا، فبدأت بالتوضيح قائلةً: "أنا عندي مشروع يونيفورم عاملات، وودّي أهديك مقابل هذه الخدمة" فتنفّست الصعداء بعد أن فهمت، واستخدمت نفس ردود البخشيش لرفض الهدية ولكنّها أصرّت قائلة "عطها أمك" قبل أن تخرج. عاد سائق أم خالد بعدها بعدة أيام حاملًا عدة يونيفورمات بمقاسات مختلفة وبتصاميم عصرية. 

علِمت وقتها أن أم خالد ستنجح بالتجارة والبيع، ولكن تحتاج إلى تخفيف العفوية قليلًا. 


التوقيع:
مدمن شدّة