قد يتبادر إلى ذهن كثير من أبناء هذا الجيل أن مفهوم الوطن هو مفهوم فطري نبيل سامي، نتيجة القدسية الكبيرة التي أحاط بها الساسة والحكام والأحزاب بهذا المفهوم وعملوا على تلقينه للشعوب ليتبنوه بشدة دون أن يدركوا حداثة نشأة هذا المفهوم والهدف من إيجاده وتبنيه.

لذلك سأحاول تسليط الضوء على بعض الحقائق المرتبطة بهذا المفهوم ابتداء من نشأته :
سنبدأ بمفهوم القومية التي هي الأب الروحي لما سمي لاحقا بالوطن

القومية :

لم تعرف القومية، نظرياً، بمعناها الحديث إلا في نهاية القرن الثامن عشر وتطورت في القرن التاسع عشر لدرجة إنشاء دول على أساس الهوية القومية. قبل ولادة عصر القوميات بنيت الحضارة على أساس ديني لا قومي، وسادت لغات مركزية مناطق أوسع من أصحاب اللغة. مثلاً ، كانت الشعوب الأوروبية تنضوي تحت الحضارة المسيحية الغربية وكانت اللغة السائدة في الغرب هي اللغة اللاتينية. بينما سادت في الشرقين الأدنى والأوسط، الحضارة الإسلامية واللغة العربية.

و منذ استخدم جويسيبى ماتزينى الزعيم والسياسي القومي الإيطالي هذا المصطلح للمرة الأولى ـ نحو عام 1835ـ ومنذ تنبه المؤرخون والسياسيون لدلالته المهمة في الثقافة الغربية، احتل مفهوم القومية مكانة بارزة في الفكر السياسي والتاريخي والاجتماعي والثقافي، ولكن تناقض دلالته واختلاف الدور التاريخي والاجتماعي والفكري للنزعة القومية وللفكرة القومية نفسها هو ما يثير الاهتمام غالبا.

ما يهمنا من ما سبق ذكره عن القومية هو أن نشأة هذا المفهوم كانت في أوائل القرن التاسع عشر وأن نشأته أتت ضمن ما يسمى "نظريات العقد الإجتماعي"، حيث أوجد هذا المفهوم مفكرون أوربيون ليكون بديلا عن الانتماء العقائدي الديني بعد أن تسبب حكم الكنيسة في أوربا بكوارث أوقعت القارة بما نسميه عصر الظلمة

Image title

فكان لا بدّ للمفكرين الأوربيين - لكي يتخلصوا من حكم الكنيسة- من إيجاد صيغة جديدة ورابطة جديدة تجمع الشعوب، من هنا ولدت القومية والتي على أساسها شكلوا أوطانهم الجديدة ودولهم السياسية المعروفة اليوم، ولكي يحافظوا على هذا الرابطة الجديدة عملوا على إحاطتها بالقدسية وأسسوا الأناشيد الوطنية والرايات الوطنية ودعموا كل ما اطلق عليه اسم الأدب الوطني.

لذلك لا عجب أن نجد الأدب العالمي في كل مكان يتغنى بالوطن والوطنية، لكن علينا أن لا ننسى أن عمر هذا الأدب الذي نتحدث عنه لا يتجاوز 200 عام، لا أن تقودنا مخيلتنا للاعتقاد أن هذا التعلق بالوطن قديم قدم الإنسان!!

بصيغة أوضح :

الوطنية والقومية والشيوعية والعلمانية والليبرالية كلها انتماءات وضعية أو بتعبير آخر نظريات انتماء وجدت لتكون بديلا عن الانتماءات العقائدية التي سادت من قبل، وحاولت خلال القرن المنصرم تقديم نفسها كأنموذجات وبديل عن تلك الانتماءات العقائدية و سوقت لنفسها عبر الأدب والشعر والموسيقى مستغلة فترة العصور الوسطى السوداوية التي ساهمت فيها الكنيسة بتشويه الانتماء إلى الدين ، فنجحت تلك النظريات بالتسويق لنفسها كبديل عن الانتماء للدين وحظيت بالاقبال واستغلها الساسة لتشكيل كيانات سياسية سلطوية تحت مسمى أوطان.
من هنا لا عجب وليس من قبيل المصادفة أن تجد أدباء القرن الماضي قد تغنو بالوطن والوطنية من مختلف الثقافات والانتماءات، ولكن في ضوء ما تقدم نجد أن ذلك ليس دليلا على فطرية أو أصالة الانتماء الوطني

ولو مررنا على دلالة كلمة وطن باللغة العربية نجد أن :

كلمة "وطن" في العربية لم تكن متداولة اطلاقاً بالمعنى الذي صارت تُتداوَل به ابتداء من عصر النهضة، عصر اللقاء أو الصدام بالحداثة الغربية.

ففي "لسان العرب" الوطن هو "المنزل تقيم به، وهو موطن الانسان ومحله. وأوطان الغنم والبقر مرابضها. ومواطن مكة مواقفها. وفي التنزيل: "لقد نصركم الله في مواطن كثيرة". وفي الحديث "نهى ص عن ايطان المساجد، أي اتخاذها وطناً".

- في الواقع، ان الرحلة الدلالية لكلمة الوطن تتطابق إلى حد بعيد مع رحلة الحداثة نفسها. فإلى نهاية القرون الوسطى اللاتينية كانت كلمة "الوطن" تشير الى بلد المرء أو مدينته أو قريته. وقد كان أول ظهور للكلمة في اللغة الفرنسية في عصر النهضة. وكانت لا تزال تعد حتى نهاية القرن السادس عشر كلمة "دخيلة"، أو "رطانة" ادخلها الايطاليون.

ومع أن الحس القومي كان قد بدأ يتبلور في القرن السابع عشر، إلا أن كلمة "الوطن" كانت لا تزال تشير الى شخص الملك والولاء الواجب له على رعاياه: فالناس، كما كان يقال، على دين ملوكها وأوطانهم.

وفي تلك الحقبة التي شهدت تطور الصراع بين الملوك "القوميين" والكنيسة "الكونية" صارت كلمة "الوطن" تعني ذلك الشيء الذي من أجله قد يضحي الانسان بحياته، أي الدين أو الملك.

تجدر الإشارة إلى أن هناك تعريفات ونظريات عدة لمفهوم القومية، ابرزها ثلاث نظريات:

    • القومية على أساس وحدة اللغة: وتسمى النظرية الألمانية

    • القومية على أساس وحدة الإرادة (مشيئة العيش المشترك)

    • القومية على أساس وحدة الحياة الاقتصادية

Image title

من هذا المنطلق كانت ادبياتنا تنص على أن الوطن هو الوطن العربي وأنه لا يمكن تسمية البلدان التي تشكلت بحدود رسمها الاستعمار بأوطان، فليس هناك وطن اسمه سوريا أو وطن اسمه العراق أو مصر أو الجزائر... إلخ بل جميعها أقطار مؤقتة تنتمي إلى الوطن( الوطن العربي )

ومن مفارقات هذا الزمن أن وطنيوا اليوم تخطوا كل هذه القواعد وكل تاريخهم السابق ليحدثونا يوميا عن الوطن والوطنية على أساس القطر ( البلد السياسي بالحدود المرسومة من الاستعمار كما كانوا يقولون ) فأصبح اليوم الوطن هو سوريا والوطن هو مصر والوطن هو السعودية... الخ، فيا لي مفارقات الساسة يديرون الدقة كما يشاؤون وتبقى الشعوب هي الضحية.

في الختام أعتقد وآمل أن يسجل القرن الواحد والعشرين نهاية وسقوط هذا النظرية ( من نظريات العقد الاجتماعي ) ويعود الناس إلى الترابط بروابط حقيقة لا روابط وضعية هشة.


المصادر:
- ويكيبيديا
- ما ضمن الاقتباس مأخوذ من مقالة بعنوان ( كيف تطور مفهوم "الوطن" و"الوطنية" حتى ... الالغاء - الحياة 2000 )