صرخة في وجه التراتبية  "الأكاديمية"


ليس غريبا ، بعد أن كثرت النماذج الإنسانية في الواقع،  أن نرتضي القناعة بأن الشهادات والدرجات العلمية العالية لم تكن الدافع الوحيد لإنجاز الأعمال المجيدة والخالدة في المعرفة والثقافة. 


إن الذكاء والشغف والمثابرة هي من تصنع الفكرية البحثية والشخصية العلمية ، وبعد ذلك يصبح تحصيل الشهادات "قيمة مضافة " لتقدير ما هو قائم حقيقة في الحياة والنفوس.


في هذا الفيلم نكتشف -دون تخفيف من هول الصدمة- أن مؤلف معجم أكسفورد العظيم هو شخص هاوِ لتعلم اللغات الحية في زمنه ، ولم يتحصل على أي درجة جامعية ، حيث ترك المدرسة في عمر الرابعة عشرة كي يعمل ليعيل أسرته الفقيرة، ومع هذا قد تجاوز  أساتذة أكسفورد العالين بالأكاديمية، حين اجتهد في إخراج أول معجم للغة الإنجليزية ليحفظها من الغرق في اللغات  الحية الواقعة تحت احتلال بريطانيا العظمى ، وقد اكتسب الإنجليزية عظمتها من شدة ضبط هذا  المعجم العريق " معجم أكسفور - الأصول التاريخية " . 

هذا عن المثابرة ، فماذا عن الذكاء؟


عبر تواصل غير مباشر- كان بمثابة بعث الحياة حبن جمدت بين يدي هيئة التأليف العلمية- نشأ تواصل بريدي عن بعد بين جراح ذكي متقاعد من الجيش يعاني من مرض نفسي ومتورط في جريمة قتل ومسجون في مستشفى الأمراض العقلية- وبين الباحث المثابر، حيث كان يرسل الجراح المتعب اجتهاداته اللغوية المذهلة إلى ورشة العمل فيحل ما استعصى ، ويقرُِب ما بعُد، ويفتح مغاليق اللغة من خلال حفظه للشعر القديم وقدرته الذهنية الفريدة على استحضار الاقتباسات والمصطلحات من النصوص القديمة. 

ومعا -الباحث المثابر و الجرّاح الدكي- أرسيا الحروف الأول من معجم أكسفورد الضخم.

والفيلم لا يتوقف في إدهاشنا عند هذا الحد، فالأكثر من هذا،   أن الباحث المثابر لم يكن إنجليزيا، إنما أسكوتلانديا تقبع بلاده تحت الاحتلال البريطاني، وعلى الجانب الآخر ، كان الجراح الذكي أمريكيا هاربا من جحيم الخدمة العسكرية يعيش في بريطانيا، فذلك المعجم الأصيل وضعه "الأجانب" وليس أهل اللغة الأصليين.


إن إهدار الطاقات الإنسانية بحجة العنصرية جريمة في حق الوجود الحضاري للإنسان على هذه الأرض. كما أن تقييد الإبداع وقياس القدرات بمحض الثبوتات الرسمية كالشهادات والدرجات العلمية -وحسب- هو الوأد الرجيم للهبات الفريدة التي حُرِمت الظروف الواتية من الفرص .

لعل الدرجات العلمية استحقاق هام في منهجية عصرنا، وكل عصر تنويري، ولكن يظل الارتكاز على المزايا الوهبية، والإقبال النفسي، والاستعداد العقلي لخوض عويص المعارف التي تتطلب التبحّر الحر غير المساوَم عليه بجوائز دنيوية عاجلة؛ كالترقيات، والرواتب، والألقاب.


ومع هذا، فقد رضخ المجتمع الأكاديمي الرفيع في أكثر الأنظمة الترابية تعقيدا، في إنجلترا- جامعة أكسفورد، ومنح الباحث المثابر درجة الدكتوراه رغم أنه لم يسجّل في دراسة ولو فصل دراسي واحد  فيها، ووضع على المعجم شكرا تقديريا للجّراح الذكي اعترافا بفيوضات عقله الذي طمسه الجنون إلا من حب المعرفة، وكما قال لطبيبه المعالج في السجن : أريد هذا العمل، فالعمل يشفيني.


هكذا نتذوق بعضا من الجمالية الفنية الراقية في فيلم (البروفيسور والمجنون) ، وهناك غيره المثير مما  يستحق المشاهدة في الفيلم.


وفِي ظني ، أن هذا الفيلم لا بد وأن يكتسب أعلى إشادات المشاهدة من القائمين على شأن الأكاديمية اليوم في كل مكان.