منذ أن أدرك الإنسان معنى الحياة، عرف أيضا معنى الحب. وعندي أن الحب من أهم الأشياء في حياة البشر، وأن أي نظام اجتماعي يضع العراقيل في مسار الحب الطبيعي لهو نظام قاصر، بل فاسد!
والحب عندي ليس فقط العلاقة بين الرجل والمرأة، بل هي عاطفة الحب والتي تندرج تحتها تلك العلاقة.
والعجيب من أمر الحب أنه المحور الرئيسي الذي تدور حوله معظم قصائد الشعراء ومسرحيات الأدباء وروايات القصاصين في أكثر البلدان والمجتمعات، ومع هذا فإن الكثيرين من علماء الاجتماع في هذه البلدان يتجاهلونه، ولا يعدونه من العناصر الحيوية التي يجب مراعاتها في كل برنامج للإصلاح والتنظيم، تستوي في هذا البرامج الاقتصادية والسياسية.
وأعتقد أن ازدهار الحب في بعض المجتمعات وانكفاؤه في أخرى سببه الإختلاف في التقاليد والتعاليم المتوارثة، أو سوء فهمها أو سوء فهم الحب نفسه، وليس السبب أن الأفراد في ذواتهم يختلفون. ولهذا لا أجد مبررا للعداء التقليدي القديم بين الدين من جهة، والحب من جهة أخرى، وهو العداء الذي مايزال أثره راسخا في النفوس.
والعصر الحديث أوجد للحب منافسا جديدا لدودا، إنه المال. فقد أصبح الناس يحرصون كل الحرص على جمع أكبر مقدار من الربح ولو كان ذلك على حساب الحب، وأنا طبعا لا أنكر أن النجاح في العمل أمر مرغوب به، بيد أن المرء يجب ألا يسرف في أي أمر، كما ينبغي ألا يقصر فيه، بل يتخذ لنفسه طريقا معتدلا بين هذا وذاك. وقد يكون من الحماقة أن يضحّي الإنسان بمستقبله من أجل الحب، ولكن من الحماقة أيضا أن يضحي دائما بالحب في سبيل مستقبله أو نجاحه المادي.
والتضحية من النوع الأول قد تعدّ لوناً من ألوان البطولة أحيانا، ولكن التضحية من النوع الثاني لا تعدّ بطولة على الإطلاق، غير أنه مما يدعو للأسف أن الناس في زماننا هذا تغلب عليهم نزعة التضحية بالحب، ذلك لأنه مجتمع مبني على اساس التزاحم في سبيل جمع المال، ولا شيء غير المال.
وأمامنا مثلا حياة أي رجل عصري من رجال الأعمال، فهو منذ يشب عن الطوق يكرس أفكاره ونشاطه ومواهبه للسعي في سبيل النجاح المادي، وهو يرى كل شيء عدا هذا النجاح المادي لهواً وعبثا لا أهمية له. وعندما يتزوج، يظل في وادٍ وزجته في وادٍ آخر. فهو يعود للبيت مجهدا منهكا في ساعة متأخرة من الليل، وغالبا ما يستيقظ قبل أن تستيقظ زوجته، وفي أيام العطلة ينصرف إلى ممارسة رياضة القولف أو التنس، لأن الرياضة ضرورية لاحتفاظه بنشاطه وحيويته اللذين يحتاجهما في معركته لكسب المال!. أما هوايات زوجته فتبدو تافهة في نظره، ولذلك لا يحاول مشاركتها فيها، وتكون النتيجة أن يفتر الحب وربما بدأت تكرهه وتعاديه. وهو بدوره سيضيق صدره ويشعر بأسى خفي لا يعرف مصدره، وعبثا يحاول أن ينسى هذا الضيق فيلجأ إلى العمل أكثر وأكثر مستغرقا فيه، ثم لا يلبث النفور بين الزوجين أن يبلغ أشده فيتحول الذي بهما إلى ضيق وقلق وكراهية عامة متعددة الصور للمجتمع الذي يعيشان فيه.
إن التقاليد العتيقة التي شوهت الحب في نظرنا تعمينا عن النواحي السامية التي ينطوي عليها بوصفه الوسيلة الناجحة الأولى لتبديد الإحساس بالوحدة والوحشة، ذلك الإحساس الذي ينتابنا في في كثير من الأوقات. وهو أيضا يبدد بذور الخوف الكامنة في نفوسنا من مفاجآت الحياة وتقلباتها. وهو الذي يحطم أسوار النفس التي تحجب عنا الهواء وضوء الشمس، فيستحيل الإنسان كائنا حيا من نوع جديد يشعر بما حوله من جمال، وينظر إلى المستقبل بتفاؤل وثقة.
إن الطبيعة لم تخلق الكائنات البشرية لتعيش وحدها، والرجل لا يستطيع تحقيق رسالته البيولوجية من دون امرأة، وكذلك الحال بالنسبة للمرأة، فهي لا تستطيع بغير رجل أن تحقق الرسالة.
والإنسان المتحضر لا يستطيع إشباع غريزته الجنسية إشباعا صحيحا بغير حب. ذلك أن الغريزة لا يمكن إشباعها حقا إلا بأن يشترك الرجل والمرأة بكل كيانهما –ذهنيا وجسديا، لا جسديا فحسب- في ممارسة هذه العلاقة، والذين لم يتذوقوا متعة الامتزاج الروحي الوجداني العميق، والانسجام النفسي الذي ينطوي عليه الحب المتبادل، قد فاتهم أمتع شيء أعدته الحياة للإنسان، وهم به –عن طريق اللاشعور- يدركون هذا، فيتملكهم اليأس، واليأس يدفعهم للحسد والحقد والقسوة والميل إلى الاضطهاد أو الشعور به.
ومن هنا كانت تهيئة الطريق لفهم الحب الصحيح أمرا ينبغي أن يُعنى به الآباء والأمهات والمربون وعلماء الاجتماع، وإلا تعذرت تنشئة جيل ينطوي إحساسهم تجاه غيرهم على ذلك الشعور الجميل الخلاق الذي يمنعهم من أن يتجه نشاطهم إلى النواحي الضارة والهدامة. فلنعمل إذا بكل مافي وسعنا لاستئصال الإحساس بالإثم، ذلك الإحساس الذي تقرنه التقاليد بالحب والحياة الجنسية، حتى بعد الزواج، فيسبب الكثير من الاضطرابات النفسية والعاطفية.
وثمة عقبة سيكولوجية أخرى تعيق ازدهار الحب في العصر الحديث، أعني بها الاعتقاد الشائع عند الناس أن العزلة والانطواء على النفس يحفظ للمرء كرامته وشخصيته، وهذا خطأ محض. فالشخصية ليست هدفا لذاتها، ولكنها وسيلة لتمهيد الاتصال بالناس. والشخصية التي تُحفظ في صندوق من الزجاج تذبل وتضعف، بينما الشخصية التي تنفق منها بغير حساب في الاتصال بالآخرين تزداد قوة وقدرة على مر الأيام.
وما هي فائدة الحب في حياة الإنسان؟ إن كانت الفائدة تتعلق في الإمتلاك فحسب، فهذا عبث لا طائل من ورائه. ذلك أن الحب الحقيقي هو المشاركة في الميول والرغبات، وإحساس المحب بأن ذات المحبول لا تقل في أهميتها عن ذاته. ومما يدعو للأسف، أن مجتمعنا المعاصر – بما فيه من صراع وتطاحن- لم يعد تربة صالحة لمثل هذا اللون من الحب، ذلك أن التنافس والتناقض قد طغيا على العواطف الإنسانية حتى كادت تختنق وتختفي من الوجود.
هذ ومن جهة أخرى، نجد أن القيم الخلقية والمعيارية لم تعد ذات أثر فعال بالنسبة لحياة الناس، ولعل هذا ايضا من أسباب نضوب الحب كما نفهمه. فلقد أصبح الاتصال الجنسي شيئا يندفع إليه الناس لأقل دافع كان، وبأي وسيلة، حتى تحول إلى عملية ميكانيكية خالية من العاطفة، بل أقرب إلى خلق الكراهية والشعور بالاشمئزاز.
------------------------------------------------------------------
المرجع:
كتاب (العالم كما أراه) - ترجمة: نظمي لوقا