(محاولة للفهم خارج الصندوق!؟)

*************************************

قد يبدو هذا السؤال غريبًا للكثيرين [1] بل وقد يقابله الأغلبية بالإنكار والاستهجان!، فهو قد يصدم عاداتنا ومعتقداتنا الموروثة وتصوراتنا التقليدية المكرورة والمجترة عن (الله) عز وجل!، فقد تعودنا على تصور معين موروث لله قد يختلف كثيرًا عن الله كما يريدنا القرآن تصوره، والقرآن هو بطاقة هوية وشخصية الله!.. هو الكتاب الوحيد والأكيد الذي يُعرّفنا بهوية وشخصية وطباع وأخلاق خالقنا وربنا!.... فالله عند الدواعش يختلف عن الله عند السلفيين، ويختلف عن تصور الله لدى الأشاعرة والصوفيين، ويختلف عن الله عند المعتزلة والفلاسفة!.. إله الدواعش إله جبار منتقم دموي يعشق الغزو والحرب وضرب الرقاب ويفرح بممارسة الإرهاب وحرق الأعداء بالنار أحياء!، إله يشبه إله الحرب عند الوثنيين وبعض طوائف اليهود والمسيحيين!... إله يمتشق سوطًا وسيفًا يقطران بالدماء!... فهل هذه هي صورة إله القرآن، وإله محمد ورب العالمين!؟؟؟... وأما إله الفلاسفة فهو إله عاطل عن العمل!!، إله نظري!، هو مجرد (علة وسبب للوجود) خلق أصل وبذرة العالم والحياة - ربما مع الانفجار الكبير - ثم أدار لهذه الخليقة ظهره وتركها تتطور وفق القوانين العمياء الصماء الصارمة التي زودها بها!.. فهو عندهم يخلق لمجرد اثبات قدرته على الانشاء والاختراع أي لغرض إثبات الذات لا غير!.... وهكذا تتزاحم الكثير من التصورات البشرية الفلسفية أو التصورات والظنون البشرية المختلطة ببعض العقائد والنصوص الدينية، فتكون النتيجة صورة مشوهة أو ناقصة أو قاصرة عن (الله الحق الحقيقي) كما وصف نفسه وعرّف عن نفسه وهويته وشخصيته في القرآن العظيم!.

* * *

لقد دار جدال فلسفي قديم ونقاش سفسطي عقيم بين الفرق الاسلامية حول بعض الصفات المنسوبة لله ذات الطابع المادي الجسمي العضوي في بعض الآيات (المتشابهات) مثل اليد والعين والاستواء كقوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) والاستواء يعني الجلوس والاستقرار بعد قيام وحركة!.. كما في قوله عن نعمة الأنعام ونعمة الفُلك أي السفن وما في حكمها: { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}، فالاستواء لغةً، وفي مفردات القرآن، هو الاستقرار على ظهر الشيء، وقد ركز (الحنابلة) - كفرقة وليس كمذهب فقهي - ومن بعدهم (السلفيون) على أن هذه الصفات يجب أخذها على الحقيقة وفهمها على ظاهرها بدون تأويل وتمثيل ولا يجوز نفيها ولو بدعوى تنزيه الله عن الجسمية ومشاكلة خلقه، أي أن مذهبهم في فهم هذه الآيات (المشتبهات) ضرورة اثبات أن لله يدًا أو يدين أو أيدٍ بالفعل، وعينًا أو عينين أو أعين بالفعل كما جاء في نصوص بعض الآيات عرضًا!، بينما أصر الفلاسفة وكذلك الأشاعرة على أنها جاءت من باب المجاز اللغوي وأن اليد يُقصد بها القدرة على الفاعلية، والعين يُقصد بها البصر والمراقبة، وأن الاستواء على العرش يُقصد به السيطرة والتحكم وادارة أمور مملكته الكونية بنفسه والاشراف على مجريات القدر، فليس لله عرش على الحقيقة - بزعمهم - وإنما كل هذه (التعابير القرآنية) المتعلقة بصفات وتصرفات الله جاءت من باب المجاز اللغوي الذي يُراد به لغيره ويُقصد به إيصال معنى إيماني وعقدي للمُتلقي!....

* * *

وقد خضتُ في شبابي في هذه المسألة مع الخائضين ثم انتصرتُ للمذهب السلفي لزمن طويل والذي مفاده ومنتهاه أن هذه العبارات المذكورة في حق الله و(الذات الإلهية) كاليدين والعينين هي على الحقيقة بالفعل وليست على المجاز والتشبيه، ولكنها ليست كمثل اعضاء المخلوقات، فالله ليس كمثله شيء، مما يترتب عن هذا المذهب - باللزوم المنطقي - أن لله جسمًا وشكلًا وصورةً ليس كجسم وشكل وصورة المخلوقات، وهو ما ألمح اليه (ابن تيمية) في بعض فتاويه واجاباته عن أسئلة طُرحت عليه!.... وأصدقكم القول أنني بتُ اليوم أكثر انفتاحًا على كل هذه المحاولات التفسيرية (لا أنفي ولا أثبت)، ولا أتشدد فيها بل إنني بتُ اعتبرها من اللغو والخوض فيما لا طائل منه ولا ثمرة فيه على قضية (الإيمان) و(التقوى)!، لهذا في مثل هذه الآيات (المتشابهات)(المشتبهات) بتُ أمررها على عمومها كما جاءت، وأمر بها مرور الكرام مركزًا على المفهوم الكلي للآية لا على المفردات فبلا شك ليس المقصود في هذه الآيات هذه المفردات في حد ذاتها كاليد والعين بل المقصود السياق العام الذي وردت فيه للآيات، ثم أن مسألة اثبات أن لله جسمًا وشكلًا وصورة مغايرة لصفات وصور وأجسام المخلوقات مسألة غير مفيدة لقضية الإيمان والتقوى، وقد يكون الخوض فيها من اللغو الذي يبدد الطاقات والأوقات على غير جدوى!، وقد تكون مما ورطنا فيه شياطين الجن والأنس لتبديد الطاقات الروحية وصرفها في الجدل العقيم الذي لا ينتهي عبر القرون والذي يعود بالقسوة على قلوبنا وعلى (المخالف!) بدلًا عن التركيز على (روح عقيدة التوحيد) وعلى العمل المفيد ، إذ أن إثبات أن لله يدًا وعينًا على الحقيقة أو على المجاز مسألة هامشية لا يترتب عنها أي انفعال نفسي وجدي أو عمل جدي ومُجدٍ يفيد المرء المؤمن بخلاف المسألة المهمة التي نطرحها هنا وهي (هل لله شعور؟)(هل الله يحس بنا ويتأثر شعوريًا بما نقول ونفعل وبما يحصل لنا ويصدر عنا!!؟؟)، فهذه هي المسألة الأهم التي غابت عنها الأبصار وهمَّشها كل ذلك الجدال السفسطي القديم والعقيم حول (هل لله يد وعين بالفعل!؟) و(هل الله يتحرك ويهبط للسماء الدنيا لسماع نداء الداعيين؟) و(هل الله استوى على العرش بالفعل عقب فراغه من خلق السماوات والأرض في ستة أيام؟) فكل هذه المسائل الجدلية لا يترتب عليها انفعالات وتصرفات فعلية وآثارًا عملية مفيدة للإيمان بعكس مسألة (هل الله يشعر بنا ويتأثر بما نقول ونعمل بل وبما نظن ونشعر في أعماقنا؟!)... فمعرفتنا أن الله كائن حسّاس يحس ويشعر، بمعنى أنه (يحب) و(يكره) وأنه (يرضى) و(يغضب) وأن الله يشعر بـ(الرحمة) و(الرأفة) على العباد بل وقد يشعر بالنقمة والسخط على بعضهم ممن اختاروا طريق الظلم والفواحش والفساد، بل أحيانًا بشعر بـ(الأسف) على بعضهم الآخر ممن أنكروا ربوبيته وجحدوا نعمته وأداروا ظهورهم له وذهبوا مع عدوه وعدوهم الشيطان الرجيم!، وقد يشعر بالأسف حيال المسلم والمؤمن إذا انتكس ووقع في المعاصي والفواحش بعد احسان واحصان!!، ويشعر بالرضا والفرح حينما يعود لرشده ويقفل راجعًا تائبًا لله نادمًا على ما فعل! ... فهذه المسألة (مسألة أن الله يحس ويشعر ويتفاعل مع أفعالنا!) هي مسألة مهمة لها انعكاس على تصرفاتنا، وكذلك الحال مسألة معرفتنا أنه تعالى قد يكنُّ (مودةً) خاصة لبعض عباده حتى يصبح الواحد منهم حبيبًا وخليلًا له بصفة شخصية!، تخيّل معي أن ملك بلاد عظيم وكريم أحبك واتخذك صديقًا شخصيًا له!، فكيف بملك الكون كله، الله رب العالمين!؟؟، بل إن الله إذا أحب عبدًا فقد يرفعه مكانًا عليًا ومقامًا محمودًا ويتخذه رفيقًا في الملأ الأعلى في الحياة الآخرة ويجعله من خاصته المقربين!... فهذه المسألة معرفتها أهم من معرفة (قصة هل لله يد وعين على الحقيقة أم لا!؟) التي ركز عليها (الحنابلة) السلفيون (مدرسة الظاهر والنقل والرواية) وخصومهم من الفلاسفة والاشاعرة والمعتزلة (مدرسة المقاصد والعقل والدراية)!... وكذلك مسألة معرفتنا أن الله قد ينقم - والنقمة شعور - على بعض العباد فينتقم منهم بعد طول صبر وحلم وعفو، فهي مسألة معرفتها لها أثر على قلوبنا وبالتالي على عقولنا وتصرفاتنا!، إذ لو عرفنا أن الله (ربنا ورب العرش العظيم، ملك ورب وإله الناس) قد يتأذى معنويًا من بعض كلماتنا وتصرفاتنا - حتى لو كنا مؤمنين - والتي قد تُؤذي مشاعر الله - بالغة الحساسية فيما يتعلق بالعدل والطهارة والاستقامة والاخلاق - فيشعر حيالها بالأسف وربما بشيءٍ من الغضب الذي ربما مع تكرار الخطأ وعدم الندم قد ينتهي بسخط الله على هؤلاء العصاة بعد طول صبر وحلم فتكون العقوبة شديدة على طريقة (اتقِ غضبة الحليم!)، ولعل قصة بني اسرائيل المكررة في القرآن تحكي هذه الحقيقة وتنبه إليها وتحذر من تكرارها واستنساخها!، فمعرفة أن الله كائن أخلاقي بالغ الحساسية فيما يتعلق بالأخلاق كالصدق والأمانة والعفة والعدالة تجعلنا في يقظة شديدة وحذر كبير!، فنحن سنعرف أننا حينما نتكلم بكلام لا يحبه الله أو نتصرف تصرفًا لا يليق بنا كمؤمنين أو حتى نظن ظنًا في أذهاننا فإن هذا القول أو الفعل أو الظن مما لا يرضاه الله!.. بينما سواء أقلنا أن لله يدًا على الحقيقة أو أنها على المجاز وتعني قدرته على البطش والفعل، فلا فرق فيما يتعلق بمشاعرنا!!.

* * *

والله تعالى كما يبين لنا ما ومَنْ يُحب؟ وما ومَنْ يُبغض؟ فإنه بعد كل الحجج التي أقامها على عباده وكل ذلك التكريم للإنسان وكل ذلك الانعام ونفخه فيه من روحه لكي يملك الاستعداد على الارتقاء الروحي والاخلاقي والعقلي فإنه يُبدي أسفه وحسرته على هؤلاء العباد الذين خلقهم في أحسن تقويم وأعطاهم (الحرية الوجدانية والعقلية) المطلقة في أعماقهم، فاختاروا الانحطاط إلى أسفل سافلين!!، فيقول: (( يا حسرةً على العباد!))[2] كحال الأب الطيب الحليم الذي قدم كل النصح الأمين لابنه وأنعم عليه بنعم كثيرة وكبيرة ثم إذا بهذا الابن ينقلب على أبيه وولي نعمته ويتمرد عليه ويمضي في طريق الأشرار!، فيقول هذا الأب الطيب الرؤوف في لحظة أسف على هذا الابن العاق الذي اختار طريق الشر : ( يا أسفي على هذا الولد!).. هذا الولد الشقي الذي اختار طريق الشر والضلال والهلاك!.

* * *

وإيذاء البشر لله هو إيذاء معنوي شعوري ويعني اثارة غضب الله أو إثارة أسفه على بعض خلقه!، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا}(الأحزاب)، فالله كائن حي سميع بصير، كائن اخلاقي كامل الاخلاق، رفيع الدرجات، وهو بالتالي كائن حساس قمة في الحساسية الخلقية والذوقية والشعورية والمعنوية، وعلى المؤمنين مراعاة هذه الحقيقة وهذه الصفة التي يتصف بها ربهم، فلا يستهينون بكلمة تخرج من أفواههم فإنهم قد يؤذون الله من حيث لا يشعرون!!، الله لا يحب الجهر بالسوء ولا يحب الجهر بالمعاصي ولا يحب الفواحش ما ظهر منها وبطن، ولا يحب الاستهتار بتعاليم الدين كما لا يحب الغلو والتنطع في الدين، فهو يحب الاستقامة في القول والعمل، والاستقامة تتضمن أمرين (العدل والاعتدال)، لذا على المؤمنين أن يراعوا ربهم في كلماتهم وتصرفاتهم وألا يتعمدوا إيذائه معنويًا!، فهذا الايذاء لا يعود بالضرر على الله بل عليهم هم أنفسهم!، بل يجب عليهم الحرص كل الحرص على نيل مرضاته في كل كلمة وفعلة بل وكل ظن وشعور!، فهو لا يراهم من الخارج فقط أي ما يقولونه ويفعلونه في العلن بل يراهم ويراقبهم من الداخل أيضًا ويعلم ما يدور في عقولهم وقلوبهم فعليهم بالتالي مقاومة الأفكار والخواطر والظنون الشريرة التي تلوح وتدور في أذهانهم، ومقاومة المشاعر والرغبات الشريرة التي تظهر وتثور في وجدانهم!، وأن تكون هذه المقاومة - الجهاد الروحي والاخلاقي الذاتي للنفس - غايتها نيل مرضاة الله!، فهو يريد منهم ولهم الترقي في مجال الخُلق الحسن والذوق الرفيع أي في درجة الحساسية الأخلاقية والذوقية تجاه ربهم وتجاه عباده حتى يبلغوا درجة قريبة من درجة الملائكة أو في مثل درجات الملائكة أو حتى أعلى من حيث مرتبة الإحساس الخلقي والعدلي والروحي والايماني!، فيتفوقون بهذا الترقي الشعوري الوجداني والاخلاقي والادراكي والسلوكي على أنفسهم البشرية الإنسانية التي تموج بالطبائع الأنانية والحيوانية، فالإنسان مجبول على نكران الجميل حتى مع والديه (!!) لهذا قيل (اتقِ شر من أحسنت إليه!!)، فالإنسان الشاكر هو من يقابل الاحسان بالإحسان في التعامل مع جميل صنيع الله ومع جميل صنيع البشر، فهو قد تفوق على طبيعته الإنسانية الأنانية الجاحدة!!.

* * *

وهكذا ما لم نعلم أن لله تعالى (مشاعر وأحاسيس) تليق بجلاله وعظمته وأننا بكلماتنا وتصرفاتنا السلبية السيئة قد نؤذي مشاعره تعالى، فيشعر نحونا بالأسف أو الغضب وعدم الرضى وأننا بكلماتنا السديدة وتصرفاتنا الخيرة والرشيدة ننال رضى الله ويشعر حيالنا بالفرح والرضى إلى درجة أنه قد يباهي بنا الملائكة (أرأيتم من جادلتموني في منحهم الخلافة على كوكب الأرض!؟؟.. انظروا كيف يتفوقون على بشريتهم ويتسامون في أخلاقهم!، انظروا إلى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد!!، وأية درجة من التفوق الروحاني والأخلاقي قد بلغوها مع أنهم مخلوقون من طين، ومن نطفة من ماء مهين، نمت في قرار مكين وظلمات ثلاث!!).. ما لم نعلم هذا ونراعيه دائمًا في علاقتنا بالله فإن قوة تأثير عقيدة الإيمان تكون ضعيفة وغير فعالة، فهذه العقيدة بالذات التي تقوم على أن الله كائن حي سميع بصير وأنه يراقبنا 24 ساعة وأنه يحس ويشعر بنا وبتصرفاتنا وأن له شعور حساس جدًا خصوصًا حيال القضايا الإيمانية والاخلاقية هي ما يغذي الإيمان والتقوى في قلوبنا وبالتالي يدفع إلى المزيد من الطاعات والقربات والأعمال الصالحات، وهذه العقيدة في الله هي ما جعل النبي والصحابة المقربين يرتقون إلى تلك القمة السامقة من السمو الروحي والأخلاقي العظيم!.

* * *

إن الله كما أخبرنا القرآن والنبي، طيب يحب الطيبين ولا يحب الخبثاء، بل هو حييٌّ يستحي من رؤية عباده في مواطن الفحشاء والسفالة الأخلاقية يخوضون في الفحشاء والسفالة والسفاهة خصوصًا إذا خط المشيب شعرهم وتجاوزوا الأربعين من عمرهم!... إنه شيء مخجل ومعيب جدًا أن يبلغ المرء الأربعين ثم لا يرعوي ولا يتقي الله ولا يحاول أن يرتقي في سلم الإيمان والأخلاق والفضيلة!!.. فالطفل والمراهق معذور، وضعيف العقل والقوى الذهنية معذور، فما بال هذا الذي تجاوز الأربعين وهو بعد كالدودة يلتصق بطين الأرض ولا يحاول الارتقاء!!؟؟؟.

* * *

ولكي أقرب لك الصورة – أيها القارئ النجيب والصاحب الحبيب - أضرب لك مثلًا - ولله المثل الأعلى - بأبٍ فاضل طيب، للفضيلة والاخلاق في نفسه وشعوره وتفكيره مكانة رفيعة وكذلك للعدالة، فمحور حياته كلها يدور حول قيم الفضيلة والعدالة والصدق والأمانة، وهو يحب أولاده ويحب لهم الخير ويرجو لهم الاستقامة ويرجو أن يمتثل عياله كل هذه المُثل الاخلاقية الفاضلة والعادلة وأن يتخذوه قدوة لهم في سلوكهم في الحياة، فإذا رأى بعضهم يبذلون جهدًا جديًا في التزام هذه القيم النبيلة والاخلاقيات الجليلة والعادات الطيبة والجميلة ورآهم يرتقون يومًا بعد يوم في سلم الفضيلة، فإنه يشعر بالرضى نحوهم، وقد يدفعه هذا الرضى أنه يباهي بهم أمام أصحابه المقربين!، ليس بكثرة مالهم ولا بجمال صورهم وكمال أجسامهم، ولا بحسبهم ونسبهم الكريم، إنما بارتقائهم في سُلّم الفضيلة والأخلاق النبيلة!، فهذا هو محور تقييمه لأولاده والحكم عليهم والتمييز بينهم!، وأما إذا انحرف بعضهم وانتكس ووقع في الرذائل وولغ في الفضائح وارتكب الفظائع فإنه سيسعى إلى تأديبه ومحاولة رده إلى الجادة مرارًا وتكرارًا، فإذا أبى هذا البعض واستمرأ حياة الرذائل والفحشاء والظلم والفجور فإنه قد يسخط عليه وقد يطرده حتى من بيته ويتبرأ منه!.... وهكذا حال الله مع عباده، ولله المثل الأعلى!..... لكن ولكي تكتمل صورة هذا المثل التقريبي - ولله المثل الأعلى - فإن هذا الأب بالرغم من عدالته الصارمة والكاملة وحبه الأخلاقي للفضيلة إلا أنه (حنّان منّان) يتصف بالرحمة والرأفة والحلم والعفو ويُدرك حقيقة الضعف الآدمي البشري ويعرف صعوبة التحديات وقواطع وقُطاع الطريق (!!) فسلوك درب الرذيلة أيسر على النفوس من سلوك درب الرذيلة!، فدرب الرذيلة هابط مع الجاذبية بينما درب الفضيلة صاعد ضد الجاذبية الأرضية، لذا فالنزول والسقوط أيسر بكثير جدًا من الصعود والصمود!، ولأنه يدرك هذه الحقيقة فهو لا ينقم وينتقم من أولاده لمجرد الوقوع في الخطأ أو الخطيئة بل يتيح لهم فرصة بعد فرصة ولا ينقم عليهم أو ينتقم منهم أو يطردهم الا بعد استنفاد كل محاولات التنبيه والتذكير والتأديب والتأنيب والاصلاح والتهذيب، ثم هو بعد ذلك يفرح – أشد الفرح - بعودة (الابن الضال) إلى البيت كفرحة ذلك الاعرابي الذي فقد ناقته التي تحمله في الصحراء، فانقطعت به السبل ثم وبينما هو نائم تحت ظل نخلة بعد يأس من العثور على ناقته تلك، إذا به يستيقظ فيجد راحلته تربض بجواره تحت ظل النخلة!!.. الله تعالى كذلك يفرح بتوبة العبد (الضال) (الشارد) إذا تاب اليه!، ويفرح كذلك بنجاح عباده الآدميين في الاختبارات (الأخلاقية) و(الإيمانية) وتفوقهم على أنفسهم وغرائزهم وسموهم على حبهم للدنيا والشهوات وعلى حبهم للانتقام من خصومهم مع المقدرة!، وهو إذا ارتقوا في سلم النجاح في مجال الاخلاق والعدل والأمانة والعفة، أخذ يباهي بهم الملائكة في الملأ الأعلى الملائكة باعتبار هؤلاء الآدميين نجحوا في تجربة التفوق الروحي والاخلاقي والتحكم في النفس عند الغضب وعند الخوف وعند الشهوة الشديدة وتفوقوا على غرائز أجسامهم وشهوات أنفسهم!، على الرغم من أنهم كائنات انبثقت من طين الأرض، حالها كحال بقية الكائنات الحيوانية الأرضية المخلوقة من طين الأرض!، إنه تفوق روحي وأخلاقي يستحق الاحترام والاكرام والاشادة!.

* * *

وعلى رأس هؤلاء الخلق المفلحين والمتفوقين والناجحين الذين أعلنت نتائج نجاحهم مقدمًا - حتى قبل ظهور موعد النتيجة النهائي - يأتي النبي المكرّم (محمد) – أحمد بني آدم لله على الاطلاق[3] - الذي كرمه ربه الأكرم ومنحه شهادتي تقدير تعبران عن شهادة الله الخالق له لا بالنجاح فقط بل بالتفوق الروحي والأخلاقي على بقية بني آدم وكونه من العشرة الأوائل العظام من البشر إن لم يكن أولهم!، وهاتان الشهادتان هما:

- الأولى في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(سورة القلم)

- والثانية في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(سورة الشورى)

وما بلغ النبي - محمد صلى الله عليه وسلم - هذه المكانة العلية والنفس الزكية الراضية المرضية إلا لأنه كان يراعي بتصرفاته وكلماته بل حتى بظنونه الباطنية - وفي حساسية إيمانية وأخلاقية عالية - مشاعر وأخلاق وذوق ربه الله تعالى، فهو يعلم أن الله كائن أخلاقي رفيع الدرجات، بالغ الحساسية من الناحية الأخلاقية والذوقية، يحب الفضيلة ويكره الرذيلة، يحب العفة والطهارة ويكره الإباحية والدعارة، يحب المحسنين الاتقياء ويكره الفجار والخبثاء، يحب الصادقين ويكره المنافقين، يحب التوابين ويحب المطهرين الذين كلما سقطوا في أوساخ الطين، قاموا من جديد يستغفرون ويتطهرون دون يأس من روح ورحمة وعفو الله!، بل ربما قضى الواحد منهم حياته كلها حتى وفاته، وهو يقوم ويسقط في الطين ثم يقوم يستغفر ويتطهر!، ثم يسقط فيقوم يستغفر ويتطهر!، فهذا من الناجين إن شاء الله الغفور الرحيم لأن الله لا يجازي عباده على نجاحهم في الوصول لقمة جبل الإيمان والفضيلة فقط بل يجازيهم على مجرد (المحاولة المستمرة) التي لا تنتهي إلا بوفاتهم، أي السعي للفضيلة والطهارة والرقي الاخلاقي!، فمن حاول الارتقاء فله أجر المحاولة وإن لم يبلغ القمة، ومن بلغ القمة ووصل إليها بجهادها وصبره فله أجران، أجر المحاولة وأجر البلوغ!.

* * *

وهكذا فإننا إذا عرفنا أن الله له مشاعر أو إن شئت عواطف تتعلق بالقيم الأخلاقية وبكل من يتعلق بها، وأنه يحب العدل ويكره الظلم، يحب الرحمة والرحماء ويكره من يقطعون أرحامهم ولا يحضون على اطعام المساكين والرفق باليتامى والضعفاء من الكائنات بما فيها الحيوانات والحشرات!، يحب من يتواصون بالحق ويتواصون بالصبر ويبغض من يحثون على الباطل واشاعة الفواحش ونصرة الظلم والظالمين... فإن هذه المعرفة سيكون لها - مع تذكيرنا بها - آثار ايجابية روحية وأخلاقية عظيمة بخلاف مسألة هل لله يد وعين على الحقيقة أم على المجاز؟؟؟ فهي مسألة لغوية من اللغو الذي لا جدوى فيه ولا طائل منه!!.

* * *

هكذا رأيت الله وتصورتُ شخصيته وصفاته وهكذا وجدته وعرفته حسب نصوص القرآن والسنة الصحيحة المتوافقة مع كليات العقيدة وكليات الشريعة، الله الكائن الحي السميع البصير، الرحمن الرحيم، المتصل بعباده والمتواصل معهم والمتفاعل معهم ومع كل ما يقولون ويفعلون ويظنون ويشعرون!، هو معهم أينما كانوا وأقرب اليهم من حبل الوريد، حاضر بشكل دائم يراقب تصرفاتهم ويريد لهم الفلاح والنجاح ولكنه لا يفرضه عليهم فرضًا بل أعطاهم (حرية الاختيار) وهداهم النجدين!، حرية مطلقة في أعماق العقل والضمير باتت تقلقني وتخيفني حتى بتُ أستعيذ بالله منها (اللهم اني أعوذ بك من شر حريتي وسوء اختياري!!) ، فإنك - أيها الانسان - لأنك كائن حر فيما يتعلق بوجدانك وضميرك وتفكيرك وعالمك الداخلي، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فإنك على خطر عظيم!، خطر وجودي عجيب وغريب!، وامتحان رهيب!، فهذه الحرية الخطيرة قد توصلك باختياراتك الوجدانية العميقة إما للخلود في النعيم أو الخلود في الجحيم!، وهذا هو محور القلق الوجودي عند (الوجوديين المؤمنين) بالله واليوم الآخر!، إنهم يشعرون بالخطر العظيم بسبب هذه الحرية الوجدانية الفردانية الطليقة العميقة التي يشعرون بها في أعماقهم بشكل مباشر ويخشون سوء الاختيار والرسوب في الاختبار وسوء العاقبة وبئس القرار!... وما لم نتعامل نحن المسلمين مع الله على هذا الأساس (الاستشعاري المرهف!)، أي على أساس معرفتنا بأنه كائن حي بالفعل ، كائن أخلاقي، كامل الاخلاق، كائن حسّاس جدًا، يسمع ويرى ويحب الفضيلة جدًا ويحب الفضلاء ويكره الرذيلة جدًا ويبغض الخبثاء والأدنياء، عديمي الأخلاق النبيلة، يبغض من يظلمون الناس ويأكلون أموالهم بينهم بالباطل!، وأن تصرفاتنا وكلماتنا قد تفرحه وترضيه وتفيض علينا بمحبته ومودته، أو قد تغضبه وتؤذيه معنويًا وقد تثير نقمته!!، إذا لم نفهم هذا عن الله (ربنا الأكرم)(الودود الحبيب) (السميع البصير القريب) (الرقيب الحسيب) ونتعلم هذا منذ طفولتنا كمسلمين ونعلمه لأولادنا، فإننا سنظل قاصرين على السمو الروحاني الإيماني والعلو الأخلاقي كأفراد وكمجتمع، ونظل أذلاء إذ أن السمو الروحي والرقي الأخلاقي عند الله هو أساس النصرة والتمكين!.

***************

سليم نصر الرقعي

14 شعبان 1440 هجري/عربي

19 إبريل 2019 ميلادي/غربي

[1] هذه المقالة هي محاولة - من محاولاتي الفكرية - لتجديد فهمنا لله - خالقنا والهنا وربنا الأكرم - وتحسين علاقتنا به لتكون صورة الله في أذهاننا ووجداننا مشحونة بالعاطفة والمشاعر والاحاسيس بدلًا من هذه العلاقة (الجافة)(الباردة) التي تشبه علاقة (الجندي) بآمر المعسكر وأمير الجماعة!!، أو علاقة العبد المتبوع بالسيد الجبار المطاع!.. هي محاولة لاستعادة صورة الرب الرحمان الرحيم الودود الرؤوف، الرب الاخلاقي المحب للعدل والأمانة والمحب للجمال والاحسان ذي الذوق الرفيع، رفيع الدرجات، من بين أنقاض الفكر الداعشي الدموي الغليظ!!

[2] ذهب المفسرون إلى أن قوله تعالى: (( يا حسرةً على العباد!)) ليست على ظاهرها وأن الله لا يشعر بالحسرة والأسف، ولكنني أرى أن الله هنا بالفعل يُبدي أسفه وحسرته على هؤلاء العباد الذين أكرمهم وأنعم عليهم وبعث لهم الرسل مبشرين ومنذرين فاختاروا طريق الجحود والهلاك واتباع عدوهم الشيطان الرجيم!، فالله يأسف ويتحسر على حالهم ومآلهم الذي اختاروه بأنفسهم واضاعوا فرصة النجاة والخلود الأبدي في النعيم والعيش مع الله والملائكة الاطهار، وليس شعور الله بالأسف على هؤلاء العباد بمعنى أنه (ندم على خلقهم) كما ورد في الكتب السماوية السابقة التي تعرضت للتحريف بسبب سوء الترجمة بل هو الشعور بالأسف والحسرة على هؤلاء العباد الذين اختاروا بأنفسهم اتباع طريق الهلاك!...وهذا يبين مدى محبة الله لخلقه ورغبته في أنهم ينجحون ويتفوقون ويفوزون برضاه والخلود في الجنة لكنه اتخذ نظامًا كونيًا صارمًا جعل بموجبه الكائنات حرة طليقة من حيث حرية الاختيار الوجدانية الذاتية!، وتعهد بأنه سيساعد كل من يريد الهداية ويجاهد نفسه ولجأ إليه بالدعاء طالبًا منه الهداية والرعاية، وفي القرآن: ((قل: ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم!!))!... لهذا لا حرج في بيان أن هذه العبارة ( يا حسرة على العباد) مفهومها أن الله يعبر عن شعوره بالأسف على هؤلاء العباد الذين أداروا ظهرهم له ولرسله واختاروا رفقة عدوهم (إبليس)!!!.... فلو كان شعور الله بالأسف والحسرة نقيصة فيمكن اعتبار أن شعوره بالرأفة والمودة نقيصة وفق معايير الفلاسفة التي تعتقد أن الاله كائن عقلاني كامل العقل ولا يحتاج للعواطف والمشاعر!، فهو مجرد من كل شعور!، وهذا يخالف ما وصف الله به نفسه في القرآن!.

[3] النبي المصطفى أسمه (محمد) في الأرض وأسمه في السماء (أحمد) على وزن (أفعل) أي هو أكثر بني آدم حمدًا لله، أي بمعنى أحمدهم لله!.