الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :

فإن الله يقول في كتابه

(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا)

فأوجب الله الحج على من وجد إليه سبيلا .

ومعلوم أن الإنسان قد لا يجد السبيل ، وقد لا يجد السبيل إلى السبيل ، وهو في ذلك كله إنما يطلب أداء واجب .

غير أن الأمر قد يقع على خلاف المراد ، وقد يحول بينك وبين بيت الله مانع وصاد .

ولما رأيت كثيرين طمعوا بالحج ، وعظمت منهم فيه الآمال ، غير أن الأمل لم يتفق والحال .

أحببت أن أواسي إخواني بما عساه أن يكون تسلية لكل صرورة منهم ، لم تطأ قدمه الحرم ، ولا مست يده الحجر .

فأقول - والله المقصود والمأمول - :

قد تمنى قبلك أعلام الحج فلم يحجوا ، وماتوا قبل أن يلبوا ويعجوا ، ومن هؤلاء الأعلام :

1) المعتز بالله (الزبير بن جعفر) ت 255 .

(رسائل ابن حزم 152/2)

2) شيخ المالكية ابن الحداد ت 302 . (السير 207/14)

3) العلامة الظاهري أبو محمد علي بن حزم ت 456 .

(زاد المعاد 213/2)

4) العلامة اللغوي ابن سيده ت 458 (لسان الميزان 205/4)

5) العلامة الأصولي أبو إسحاق الشيرازي ت 476 .

(طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 239/1)

6) العلامة المالكي محمد بن عمر الخزرجي ت 504 .

(الصلة لابن بشكوال 537)

7) الإمام البغوي ت 518 . (طبقات الشافعية الكبرى 77/7)

8) العلامة المالكي أحمد بن عبد الله بن الحسن الأنصاري ت 652 . (الديباج المذهب 46/1)

9) العلامة المالكي عبد العزيز بن أبي القاسم المعروف بالدروال ت 733 .

( الديباج المذهب 159/1)

10) العلامة الشافعي محمد بن أبي بكر بن جماعة ت 819 .

( بغية الوعاة 64/1)

11) العلامة الشافعي شهاب الدين أحمد بن محمد بن نشوان ت 819 .

(طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 18/4)

12) العلامة الشافعي علي بن محمد بن عثمان نور الدين العمري الأشليمي ت 866 .

(الضوء اللامع 317/5) .

ومعلوم أن الظن الحسن بأهل العلم يقتضي أن نحمل عدم حجهم على عدم سبيلهم إلى الحج .

يقول الشيخ العلامة ابن سحمان - رحمه الله - [ولا نظن بعلماء أهل الإسلام إلا الخير وعدم الاستطاعة لشيء من الأعذار الموجبة لتركهم ذلك] ( إقامة الحجة والدليل 50)

فالسبيل إذا انعدم قد يمنع كل أهل المصر من الحج ، وكتب التأريخ ملأى بشواهد ذلك .

فلعدم السبيل : لم يحج أحد من أهل العراق سنة 314 .

(تأريخ الإسلام 210/7)

ولا حجوا سنة 316 .

(المصدر السابق 216/7)

ولا حجوا سنة 319 .

(المصدر السابق 227/7)

ولا حجوا سنة 320 .

(المصدر السابق 225/7)

ولا حجوا من سنة 322 إلى سنة 327 .

(المصدر السابق 406/7)

ولعدم السبيل : لم يحج أحد من أهل مصر والشام سنة 357 .

( المصدر السابق 23/8)

ولم يحج أهل الشام واليمن سنة 384 .(المصدر السابق 510/8)

ثم لتعلم يا فاقد السبيل : أنك وإن فاتك الحج هذا العام ، فقد فتح الله لك أبواب أجور عظام ، بعشر ذي الحجة وهي أفضل الأيام .

يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله - [من كان عاجزا عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج]

(لطائف المعارف 272)

يا فاقد السبيل : إن صدقت نيتك ، لحقت بالقوم وأنت قاعد .

فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصحابة في غزوة تبوك [إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم] قالوا : يا رسول الله ، وهم بالمدينة ؟ قال

[وهم بالمدينة ، حبسهم العذر]

أخرجه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه .

قال الحافظ في (الفتح 47/6) [فيه أن المرء يبلغ بنيته أجر العامل إذا منعه العذر عن العمل]

ويقول العلامة ابن القيم - رحمه الله - في (زاد المعاد 500/3)

[إلا كانوا معكم : فهذه المعية هي بقلوبهم وهممهم]

ويقول الحافظ ابن رجب - رحمه الله - في (لطائف المعارف 273)

[القاعد لعذر شريك للسائر ، وربما سبق السائر بقلبه السائرين بأبدانهم]

يا سائرين إلى البيت العتيق لقد

سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا

إنا أقمنا على عذر وقد رحلوا

ومن أقام على عذر كمن راحا

ثم إن فضل الله واسع ، فقد جعل الله أجر بعض الأعمال كأجر الحج ، مع أن هذه الأعمال لا تجزئ عن حجة الإسلام كما هو معلوم .

ومن هذه الأعمال التي جعلها الله عوضا عن الحج : الإكثار من ذكر الله .

جاء في الصحيحين من حديث أبي أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلا والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجون بها، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون قال: ((ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه، إلا من عمل مثله تسبحون وتحمدون، وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين)

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في (الوابل الصيب 76)

[فجعل الذكر عوضا لهم عما فاتهم من الحج والعمرة والجهاد ، وأخبر أنهم يسبقونهم بهذا الذكر]

ومن الأعمال التي جعل الله أجرها كأجر الحج ما جاء

عند الترمذي في جامعه من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

[من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة و عمرة تامة تامة تامة]

ومن الأعمال التي جعل الله الأجر فيها كأجر الحج : الاختلاف إلى المساجد للتعلم والتعليم .

فقد روى الطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال

[من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان له كأجر حاج تاما حجته]

(صحيح الترغيب 86)

فمن فاته الحج فليحرص على هذه الأبواب .

يقول الحافظ ابن رجب - رحمه الله - في (اللطائف 287)

[من فاته في هذا العام القيام بعرفة : فليقم بحق الله الذي عرفه

، ومن عجز عن المبيت بمزدلفة : فليبت عزمه على طاعة الله وقد قربه وأزلفه ،

ومن لم يمكنه القيام بأرجاء الخيف : فليقم لله بحق الرجاء والخوف ،

ومن لم يقدر على نحر هديه بمنى

: فليذبح هواه هنا وقد بلغ المنى ،

ومن لم يصل إلى البيت ﻷنه منه بعيد : فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلى من دعاه ورجاه من حبل الوريد]

نسأل الله أن يكتب لنا أجر الحج ، وأن يرزقناه في قابل ،

والحمد لله رب العالمين .

كتبه : أسامة الفرجاني

5 ذي الحجة لعام 1436 هجري