لقد أغدق الله علينا بالكثير من النعم التي لا يعدُّها عادٌّ ولا يُحصيها مُحصٍ، ومن جُملة هذه النعم "موهبة الكتابة"، فالكتابة ليست سوقًا يدخلها كل من ملَكَ بضاعةً للبيع، وإنما هي ميدان لا يلج بابه إلاَّ اثنان: "كاتب بالفطرة، أو مكتسبُ الكتابة".
لكن ينبغي أن تُدرك شيئًا بالغ الأهمية هنا؛ أنَّ الكتابة لها ضوابطها التي إذا لـم تتقيَّد بها صُنِّفتَ متطفِّلاً؛ لذلك لا بد قبل نشر كتابكَ أن تتأكَّد من ثلاثة نقاط جوهريَّة: "الفكرة الصائبة، اللغة السليمة، الهدف النبيل"، فمتى تخلَّفت نقطة واحدة من هذه النقاط الثلاثة عن أُخْتَيْهَا، عُدَّ كتابكَ بلا أدنى شك أذيَّة للكاتب قبل القارئ.
لذلكَ يلزمكَ أن تُنَمِّي حسَّ الأمانة في داخلكَ، إذْ ليس أمرًا سهلاً أن تنشر كتابًا للناس بمجرد امتلاككَ لـمادة حَرْفية كافية لطبعها؛ لأن الغاية من نشر الكتب لا تكمن في توفُّر الـمادة الـمراد نشرها، وإنما صلاحيتها للنشر.
وأنت تكتب حاول الكتابة عن أشياء تستحقُّ القراءة، أشياء تجعل القارئ يمتلئ بما ينفعه بعد فراغه من قراءة كتابكَ، أشياء تجعل بها القارئ يمحي مصطلح الفراغ ليُخْلِفهُ بمصطلح المطالعة، فليس يمحلُ عليكَ أن تُقنع القارئ بأنَّ وقته أثمن مِن أنْ يُمضيه بعيدًا عن القراءة، وأنتَ تملكُ لغةً حوَّلت قلوبًا كانت تحارب المسلمين إلـى قلوب صارت تحارب معهم، ألـمْ يقولوا لـمَّا يئسوا من إسلام عُمَر: "لا يُسلم ابن الخطَّاب، حتى يسلمَ حمار الخطَّاب"، وفي النهاية أسلم بسبب: "طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى"!؟
وهذا ما عبَّر عنه بشار بن بُرد من زاوية أخرى بقوله:
يا قَومُ أُذْني لبعـض الـحيِّ عاشِقَةٌ
وَالأُذنُ تَعشَقُ قـبل العَينِ أَحيانا
قالـوا بِمَن لا تَرى تَهذي، فَقُلتُ لَهُم:
الأُذنُ كَالعَينِ تُؤتي القَلبَ ما كانا
فرغم أنَّ بشار بن بُرد أعمى إلاَّ أنه جاءنا بفلسفة عشقٍ جديدة تمثَّلت في أنَّ العشق لا يُصنع بالنظر فقط وإنما بالسمعِ أيضًا، وهذا إن دلَّ على شيءٍ فإنما يدل على أنَّ الله جعلَ للكلمة سُلطانًا على القلوب.
وبما أنَّ الكلمة لها سُلطتها ونفوذها، فهذا يعني أنَّ التأثير في الآخرين متاحٌ لمن يملكون موهبة الكتابة أكثر من غيرهم، الأمر الذي يحدو بنا إلى استثمار هذه المَوهبة فيما يخدمنا خدمةً تتجاوزنا إلى الآخر ولا تقف عندنا، فلذة نجاحكَ أيها الكاتب لا تكمن في تحقيق شهرتكَ من خلال الكتابة؛ بل من خلال صناعة الأفكار في الآخرين، واستثمار عقولهم عن بعد بما تكتبه.
وبما أن الكتابة "فطرة توهَب، أو عِلم يُكتسب" باتَ من اللازم ألاَّ يمارسها إلاَّ هذين، فإن أبى من لا ناقة له فيها ولا جمَلٍ إلاَّ وُلوجَها حلَّت بنا طامَّة كبرى، لعلَّ منها فقدان الأثر من خلالها، وإذا فَقد الآخرون التأثُّر بـما يُكتب فقدت الكتابة هيبتها.
ولا منجى لنا هنا إلاَّ أن نفعِّل خاصيَّة "النقد" ونقبله بصدر رحبٍ وقلب مُحبٍّ، لأنَّ بالنقد يُعرف الغثُّ من السمين، والصالح للاستهلاك من الذي انتهت صلاحيته، فجلُّ الكتَّاب إن لـم يكن كلُّهم معجبون بأقلامهم، لكن قلة قليلة تُجري الأقلام من أجل رؤية الأثر!
الأمر الذي يُحتِّم علينا استيعاب أنَّ الكتابة حرفة للمتأهلين، وليست سوقًا لبيع الأقمشة، لأنَّ تهافتنا الشديد على الكتابة ليس بُشرى خير، بقدر ما هو نذير شُؤم، إذْ كلَّما زاد عدد الكتَّاب نقصَ عدد القرَّاء، ومصلحتنا لا تكمن في زيادة الكتَّاب وإنما في زيادة القرَّاء، ولكَ أن تتساءل لَــمَ كانت أوَّل كلمة وحيٍ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم هي "اقْرَأْ"، وليست "اكتبْ"!؟
ولعلَّ من أخطر ما ينتج عن التطفُّل الكتابي فائض الكتب التي اثَّاقلت بها رفوف المكتبات، علمًا أن وعي الشعوب لا يقاس بعدد الكتب التي تؤلَّف وإنما بعدد الكتب التي تُقرأ، وهذا ما دعا العبقري محمود عبَّاس العقاد للقول: "اقرأ كتابًا جيدًا ثلاث مرات، أنفع لك من أن تقرأ ثلاث كتب جديدة"! فإنْ كانت قيمة القراءة بحدِّ ذاتها لا تقاس بعدد الكتب المقروءة وإنما بجودتها، كيفَ الـحال عند الكتابة؟!
كنَّا بالأمس نُرجع سبب تخلُّفنا عن ركب الأمم لكوننا لا نقرأ، أمَّا اليوم فتخلَّفنا أكثر لأننا أضفنا إلـى إهمالنا للقراءة تهافتنا على الكتابة، فصار يُطبع للتلميذ من الكتب ما لا يُطبع للأستاذ، ويُقرأ للرويبضة ما لا يُقرأ للفقيه... وانقلبت الـموازين ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله!
ولتعلم يا حامل القلم أنَّ القضية ليست في نوعية المواضيع التي تكتب عنها فقط، أيضًا في كيفية تناولها، فقد يكتب كاتب في الشؤون الإصلاحية بطريقة أقرب إلـى الفساد منها إلـى الإصلاح، وقد يكتب آخر في شؤون مسكوتٍ عنها فينقذُ بها أقوامًا شارفوا على التهلكة.
للوهلة الأولى تعتقد أن الكتابة عن الجهاد أمر مستحسن، لكن ما أكثر الذين كتبوا فيه فتحوَّل قُرَّاؤهم إلـى إرهاب، خلعوا ثوب الأنْسَنَة ليرتدوا بدلهُ ثوب الدَّعشنة، ربَّما كتبوا عن حسن نية لكن ليس بحسن النوايا فقط تؤلَّف الكتب!
في حين هناك من كتبَ عن طابوهات الـمعاشرة الزوجية، فأنقذ آلافَ الـحبال الأُسريَّة من سكين الطلاق، ولا أعني هنا أنَّ الكتابة في النكاح خير من الكتابة في الجهاد، وإنما أعني أنَّ كيفية تناول المواضيع أهمُّ بكثير من اختصاصها، اكتبْ فيما شئتَ لكن لا تكتبْ بمنأى عن الجودة، جودة الطرح فكرًا ولغة.
وبعد الفراغ من كتابة نصكَ، لا تتسرع في نشره قبل مراجعته مرة وثانية وثالثة، فالأخطاء التي نراها أثناء مراجعة النصوص لا يمكن رؤيتها عند كتابتها، سواءً كانت أخطاء لها علاقة بالقالب أو الـمضمون، واستحضر دائمًا أن اللمسات الأخيرة في اللوحة هي التي تصنع سرَّ جماليتها، وأنَّ التسرُّع نقيضُ الإتقان.
خذ وقتًا في جمع أفكاركَ، ووقتًا في سكبها إلـى لغة، ووقتًا في تلاحم فقرات النص بعضه ببعضٍ، فرُبَّ موضوع رفيع تشوَّه بفعل غياب اللُّحمة بين فقراته، وحبَّذا أنْ تتحفَ كتاباتكَ ببعض الـمعلومات التي تصبُّ في نهر موضوعكَ، لأنَّ المعلومة ليست سلاحًا لتقوية الحجَّة فقط، أيضًا هي لـمسة من لـمسات الجمال النصِّي، وخاصَّة إذا سيقت صياغة أدبية سلاَّبة للقلوب، فإنها تضمن لكَ سعادة القارئ جاعلة منه يقع صريعًا في حبِّ نصكَ، لا سيَّما إن كان في ذلك إضافة لرصيده المعرفي.
هناك كُتَّابٌ سِمان الألفاظ نحيفي المضمون، وهناكَ كُتَّاب رغمَ جودة مضامين مواضيعهم إلاَّ أنهم بخسوا الألفاظ حقَّها، وكلا الـمَسلكين عيبٌ فضَّاح خير لكَ ألاَّ تقع في شَرَكِهِ، لذلكَ حظيٌّ بكَ أن تعمل على جودة الـمضمون وسحر اللغة، فتصطاد قارئين بنصٍّ واحدٍ، من تعنيهم المواضيع ومن تعنيهم اللغة، وكلاهما يؤتى بهما بعد البحث والدُّربة، وعلى قدر المجهود يكون النوال.
وأحبُّ أن أصحِّح للذين يزعمون أنَّ اللغة "موهبة فطرية" غير قابلة للاكتساب، أنَّ هذا الزعم لا يزيد عن كونه "ذريعة" للعجز، ذلكَ أنَّ مَثل اللغة مَثل بقية العلوم، ما يكون منها بالفطرة لا يعني أبدًا انتفاء كسبها بالممارسة.
وعليه: تأكَّد أن اللغة تكتسب بعد عدمها، وتُصَقَّل بعد كسبها، ما عليكَ إلاَّ أن تكثِّف من قراءاتكَ، ثم ريثما تجدُ نفسكَ شيئًا فشيئًا قد ارتقيتَ لغويًّا، وكوَّنتَ قاموسًا تستطيع التعبير به عن أفكاركَ، ولذلك يرى الفلاسفة القدماء أنَّ عجز الإنسان التعبيرَ عن أغراضه لا يرجع لعدم استيعاب اللغة لأفكارنا، وإنما لافتقارنا إلـى اللغة ذاتها، فلا يوجد فكرة غير قابلة للتجسيد لغويًّا، ولكن يوجد أشخاص لديهم فقر لغويٌّ في قواميسهم.
وهذا ما قال به "هيملتون"، حيث شبَّه الألفاظ والمعاني بظهر الورقة ووجهها
وأكَّده "هيجل" بقوله: "إننا نفكر داخل الكلمات"، أي أننا عندما نفكر فإننا نفكر بالألفاظ.
وعَنَاه"ميرلو بونتي" بقوله: " إن الفكر لا يوجد خارج الكلمات"!
لذلك يجب أن تؤمن أن أفكاركَ السابحة في خيالكَ، يمكن ترويضها باللغة، وأنَّ ما لا يفهمه الناس شعوريًّا يمكننا ترجمته لغويًّا ليسعهم فهمه، لأنَّ اللغة وسيلة لتوصيل أفكارنا.
ولأننا نتحدَّث عن نقل الفكرة، فهنا حقيق بنا أن نتريَّث قبل أن نتحدَّث، فالكلمة ثمينة وليس مجانيَّة، وما من فكرة نُلبسها ثوبًا لفظيًّا دون فحصها إلاَّ كانت مادة مُسرطنة للأذهان قبل الأبدان.