يقُول الـجَاحظُ: "الفَرزدقُ زيرُ نِساءٍ ولَيسَ لَه فِي هَذا بَيتُ شِعرٍ، وَجريرٌ عَفيفٌ لـمْ يَعشق امرَأةً قَطْ، لكنَّه أَغزلُ النَّاسَ شِعرًا"
قدْ نَكتبُ عنْ أشياءٍ لـمْ يسبق لنَا أن عِشناها، وقدْ نَعيشُها ولاَ نكتبُ عنهَا.
لاَ تحكُموا علَى الآخرينَ بـما تسمعونهُ عنهم، ولاَ بـما ترونهُ مِنهم، فإنَّ النَّاسَ فِي الظَّاهرِ غيرَ النَّاسِ فِي الحقيقةِ.
كمْ منْ شخصٍ ظُنَّ أنَّهُ فِي سَعَةٍ منَ العيشِ، ولو اقتربتَ منهُ مسافةَ ثلاثةِ أذرعٍ لبانَ لكَ كأنه يتنفَّس منْ خُرمِ إبرة منْ شدَّة مَضايِقهِ.
الحُكمُ علَى الآخرينَ مظنَّة الوُقوعُ فِي اتِّهامهم، لذلكَ كثيرًا ما ترَى العُقلاءَ يتحَاشونَ الحديثَ عنْ غيرهم.
بخلافِ الغافلينَ عنْ جريرةِ ذلكَ، فتراهُم يحرِصون الحرصَ كلَّه علَى ما يصدُر منَ الآخرينَ.
ولاَ عجبَ إنْ قُلنَا أنَّ منَ النَّاسِ منْ يعرفونَ عنْ غيرهِم أكثَر مـمَّا يَعرفونَ عنْ أنفسِهم، وهذَا عيبٌ ينبغِي أنْ يُصلَّح، وإلاَّ قادَ إلـى غيرهِ منَ العُيوبِ الكبيرة، فالعُيوبُ الكبيرة وليدةُ عُيوبٍ صغيرةٍ تراكمت بدلَ أنْ تُصلَّح.
أخرجُوا النَّاسَ منْ رُؤوسِكم، وعيشُوا حياتَكم بعيدًا عنْ فُلانٍ وعَلاَّنٍ، فالعاقلُ منْ تركَ الخَلْقَ للخالقَ، وشغلَ نفسهُ بنفسهِ، ففيهَا شُغلاً عنْ غيرهِ.
ومنَ النَّاسِ منْ يجُرُّكَ جَرًّا إلـى الحديثِ عنِ النَّاسِ لحاجةٍ فِي نفسهِ، والسَّليمُ منْ فطنَ لذلكَ فتحاشَى الحديثَ عنهم.
قِيلَ للربيعُ بنُ خُثَيم: ما تقولُ فِي الَّذين قتلُوا الحُسين بنَ عَلِي؟
قالَ: إلـى اللهِ إيَّابُهم وعلَى اللهِ حِسابُهم.
لاَ يُريدُ أنْ يُلطِّخَ لسَانهُ بالجَوابِ عنْ حادثَة سَلمَ منهَا سَيفهُ.
ليسَ بالضَّرورة دائِمًا أنْ نُجيبَ عنِ الأسئِلة، بلْ إنَّ هُناكَ أسئلةً ينبغِي أنْ يكونَ الجَوابُ عنهَا درسًا للسَّائلِ، قبلَ أنْ تكونَ جوابًا عنْ سُؤاله.
لستَ مُلزمًا بالحديثِ عمَّا يفعلهُ الآخرونَ، كيفَ بالحُكمِ عليهم؟
الحُكمُ علَى الآخرينَ منحدرٌ لتشويهِ العلاقةِ بينكَ وبينهم، وربَّما تطَاولَ الأمرُ إلـى التَّلاسُنِ والأَيادي، وقدْ كانت علاقتكَ بهم مُشرقةً.
لستَ مُجبرًا أنْ تُدلـي برأيكَ فِي غيركَ، ولاَ أنْ تُحدثَ غيركَ عنْ غيركَ، الأذْكياءُ لاَ يردُّونَ عن غيرهم راحةً لهم، أمَّا الفارغونَ فيشترونَ عداوةً هُم فِي غِنًى عنها، ومن يشتري ما لا يحتاجهُ سيخسرُ ويضلُّ بدليل قولهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}[1].
فالشراءُ الذي لا يكونُ عن هِداية، يُوصلَ صاحبهُ إلـى الضلال، أيًّا ما كانَت البضاعة، ملموسةً أم محسُوسةً.
كان آينشتاين كثيرًا ما يُطلبُ منه تفسير "النسبية" فيعتذر قائلاً: "عذرًا... دائـمًا يتمُّ الـخَلطُ بيني وبين البروفيسور آينشتاين"!
فـي الحقيقة: أنتَ لستَ مُطالبًا بتفسير كلَّ ما تفعله للناسِ، ولكن عليكَ فقط أن تتأكَّد أنَّ ما تفعله على حق.
لاَ تحكُمْ عن الألفاظِ بمجرَّدِ سماعهَا، أعطِ متَّسعًا للردِّ، فكمْ شخصٍ قالَ لكَ: "دعْني وشأني"، وهُو يقصدُ اقتربْ أكثر.
كم من شخصٍ قالَ لكَ: "أنا ذاهبٌ"، وهو يُريدكَ أن تقولَ لهُ: "ابقَى".
كم من شخصٍ لـوَّحَ لكَ بيديهِ "وداعًا"، وهو يقصدُ بتلويحتهِ: "لاَ تُصدِّق أنني لا أريد بقائي".
عوِّد نفسكَ على النظر إلـى الأمور من زاوية مُشرقة، ولا تَظلمْ غيركَ فتظلمَ نفسكَ، ومن أخسرُ ممن ظلمَ نفسهُ؟
الـحُكمُ علَى الآخرينَ إذَايةً لهم، ويزدادُ الأذى إنْ صدرَ الـحُكمَ عنْ شخصٍ يُشهدُ لهُ بالنُّضجِ، ومن أخطرِ ما يُـمكنُ أن يتعرض له الإنسان بعد النضجِ، أن لا يكون نُضجُه نافعًا للآخرين.
أنتَ ناضجٌ إذنْ لاَ تحكمْ علَى غيركَ، فقدْ تتغيَّرُ الظُّروف ويبقَى حُكمكَ السَّيءُ عالقًا فِي ذاكرة التَّاريخ.
لاَ تحكُم علَى الآخرينَ، فقدْ يصيرُ حُكمكَ مَظْلَمةً فِي حقِّهم، فيقَودُكَ ذلكَ لـمُخاصمتهم، وليسَ بعاقلٍ منْ يصنع الخُصومات، فقدْ تحتاجُ منْ خاصمتهُ يومًا، والأيَّام دُوَل، يومٌ تُسرُّ ويومٌ تُساءُ.
مهمَا عَلِمتَ منْ عُيوبِ الآخرينَ، لاَ تجعلْ ذلكَ ذريعةً للحُكمِ علَى معائِبهم، فحسبُكَ عُيوبًا لوْ كتبَ سُكانُ القارَّات الخمسِ عنهَا فكأنَّما لـم يكتُبُوا حرفًا.
مُصيبةُ كثيرٍ منَ النَّاسِ أنَّهم يَحكُمونَ علَى منْ لاَ وِصايةَ لهم، ويُهملونَ منْ لهُم الحقُّ فِي الحُكمِ عليهم، و مَا أكثَر ما يخرجُ الآباءُ إلـى الصَّلاةِ، وأبناؤُهم نِيامٌ فِي فُرشِهم، فأينَ {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصَّلاَةِ}؟ ثمَّ لاَ تلبثُ عنْ تراهُم يُدخلونَ ويُخرجونَ الجنَّة أبناءَ غيرهِم.
لا تكُن سريعَ الحُكمِ بطيءَ الاعتذَار، إذا لـم تمنحْ نفسكَ أنْ تُعطيني عُذرًا، أكرمنِي بألاَّ تُسيءَ الظنَّ بي، هذَا هُو الإسلامُ الـمُنظَّم وإلاَّ فأعدْ ترتيبَ فوضَى إسلامكَ.
كان الربيع بن خُثَـيْم يغضُّ بَصرهُ، فمرَّ به نِسوةٌ فأطرقَ، حتَّى ظنَّ النسوة أنَّهُ أَعمَى، فتعوَّذنَ باللهِ منَ العَمى.
حكمنَ عليهِ بالعَمى بمجرَّدِ أنْ رأينهُ قدْ أمالَ رأسهُ إلـى صَدرهِ، وهُو البصيرُ بَصرًا وبصيرةً.
تأكّد أنَّ حقيقةُ الأشياءِ تُدركُ بالـمعاشرة ولا تُدركَ بأخبارٍ سمعتها الآذان أو مظاهرٍ رأتهَا العيان.
هُناكَ منْ نسمعُ عنهُ فيَشُوقنَا أنْ نعرفَ عنهُ أكثر، وهُناكَ منْ نسمعُ عنهُ فنودُّ لو أنَّنا خُلقنا فِي زمانٍ غيرَ زمانهِ.
هُناكَ كثيرٌ منَ الشَّباب لاَ تبدُو عليهم مظاهرُ التَّديُّن، إلاَّ أنَّهم يُحبونَ اللهَ ورسولهُ.
هُناكَ مُلتحينَ يُسيؤونَ إلـى اللِّحية، وهُناكَ حليقي الأذْقانِ لـم يُر منهم إساءَةً للِّحَى، ليستِ حقائقُ الأشياءُ بما تراهُ الأبصار، إنَّما بـما تُدركه البصائر.
فلاَ تحكُم قبلَ أنْ تتبيَّن، بلْ حاولْ ألاَّ تحكُم حتَّى لو تبيَّنَ لكَ الأمرُ، فليست كلُّ الأمورِ تحتاجُ أحكامًا منَّا.
ليس علينا أن نحكم بأن شخصًا ما يحب غيره، بـمجرد عملٍ لطيف صنعه الأول للثاني، الحب أكبر من أن يكون عملاً لطيفًا، واللطف قد نُقدِّمه حتى لأولئك الذين لا نتصور أننا نحبهم، بل أحيانًا حتى لأولئكَ الذين نكرههم.
قد يُسيؤون بفعلِ ظرفٍ قاهرٍ، فلا تُسقطهم من قائـمة الـمُحسنين.
قد يُغيرون آراءهم وليس لأنهم أصحاب وجهين، إنـما لأن الضرورة أباحت الـمحظور.
لا تظلموا باتهاماتكم أولئك الذين زُجَّ بهم فـي السجن، فقد ألَّف سيد قُطب عن "العدالة الإسلامية" عديد التآليف، فكان أن سُجنَ ظُلمًا، وعُدمَ عُدوانًا.
وتذكروا في حِلِّكم وترحالكم أنَّ الأمور ليست بظواهرها، وأن ما وراء ما نعرفه أشياء لا نعرفها، وإذا غاب عنا من الأمر شيئٌ فليس من الحكمة الحكم عليه والحقيقة غير مستوفية!
[1] البقرة: 16.