من علامات نقص العقل مقاطعة المتكلم، حتى لو كان قوله معروفًا عند من يسمعه، عن خالد بن صفوان قال: «إذا رأيت محدثًا يحدث حديثًا قد سمعته، أو يخبر بخبر قد علمته، فلا تشاركه فيه حرصًا على أن يعلم من حضرك أنك قد علمته، فإن ذلك خفة فيك وسوء أدبٍ».

ولقد كان من كان قبلنا يتركون المتكلم يتكلم حتى يفرغ من حديثه، فإن هو فرغ منه استهلوا في كلامهم؛ لأن قطع الحديث تشويش للمتحدث وسوء أدبٍ من المستمع، قال سفيان الثوري: «إن الرجل ليحدثني بالحديث قد سمعته أنا قبل أن تلده أمه، فيحملني حسن الأدب أن أسمعه منه».

فلا تترك أسبقية معرفتك تذهب حسن أدبك.

ومن أدب الإنصات للمتحدث النظر في وجه المتحدث، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه على شر القوم يتألفه بذلك، وكان يقبل بوجهه وحديثه علي حتى ظننت أني خير القوم».

ونستقي من حديث عمرو بن العاص: أن المتحدث وإن كان في معرض الحديث فهو عارف بالذي ينصت له عمن هو مدبر عنه.

وفي عبارة «يقبل بوجهه» إشارة إلى أن الإنصات ليس خاصية سمعية فحسب، بل مرئية أيضًا، أي: أن تكون منصتًا جيدًا ليس معناه أن تنصت بأذنيك فقط، وإنما بعينيك أيضًا. وفي عبارة «حتى ظننت أني خير القوم» إشارة إلى أن حسن الإنصات تشجيع للمتحدث. وإلى أن حسن الإنصات شق طريقٍ إلى قلب الناطق.وليس العجب في اهتداء عمرو بن العاص إلى إنصات النبي صلى الله عليه وسلم له، إنما العجب في حسن إنصات النبي صلى الله عليه وسلم حتى جعل عمرو بن العاص يظن خيرته على غيره.

فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم ينصت لشرار الناس أدبًا معهم، فكيف الحال مع خيارهم؟ وكذلك شأن كل منصتٍ، إن ما من شخصٍ ينصت إليك، إلا وقد رسم لك لوحةً فنيةً عن رفعة أخلاقه، إذ لا ينصت إلا متخلق. وما أكثر الذين نأنف الجلوس معهم، لا لشيءٍ إلا لأنهم يرفضون الإصغاء، ويريدون أن يستأثروا بحصة الأسد في الحديث، وليس هذا دأب الأدباء.

إن حسن الإصغاء أدب من المصغي، وسبيل إلى رفعته في أعين الناس؛ لأن حسن الإصغاء للآخرين صورة مشرقة من صور الاهتمام بهم، وكما قیل: «إذا أردت أن تكون مهمًا، فكن مهتمًا». والمتأمل في سيرة المصطفى يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقاطع متحدثًا قط، حتى مع المخالفین له، وهذا إن دل على شيءٍ فإنما يدل على أن حسن الإصغاء من عظيم الأخلاق، ومظنة إلى إدراك العلم، كما قال العلماء: «أول أبواب العلم الاستماع»، فما قاطع حديث متحدثٍ إلا جاهل بأصول العلم. ولو أننا نقضي الوقت الذي نتحدث فيه للآخرين في الإنصات إليهم، لتوطدت علاقتنا بهم أكثر؛ لأن حسن الإصغاء يجعل علاقتك مع الآخرين دائمًا في بناء غير قابلةٍ للهدم.

على خلاف تغليب الحديث عن الإنصات فإنه موجب لتنافر القلوب بعد تجاذبها، وما أكثر الذين خسرناهم بسبب أننا تحدثنا مطولاً. وما أكثر الذين خسرناهم بسبب أننا لم نفسح لهم وقتًا للتحدث، فآثرنا أفواهنا على آذاننا، وليس المحب من يطرب بحديثه لمحبه، إنما المحب من يطرب للإنصات لحديث محبه له، حتى يود لو أن كل أعضائه أسماع.

والمتأمل في خلقة الإنسان يلحظ أن الله خلقنا بلسانٍ وأذنين، ليلفت الإنسان أن حاجته إلى الإنصات أنفع له من الحديث. قال بعض الحكماء: «إذا جالست الجهال فأنصت لهم، وإذا جالست العلماء فأنصت لهم، فإن في إنصاتك للجهال زيادة في الحلم، وإن في إنصاتك للعلماء زيادة في العلم».

إذا أردت أن تترك أثرًا طيبًا في نفوس الآخرين، فامنحهم أذنًا مصغية، فأقرب الناس إلى الناس، من أنسوا بحديثهم إليه. لنبذل قليلاً من التضحية، لنسمع الآخرين أكثر مم نتحدث إليهم. ولقد صرح الكثير من الناس أنهم يفضلون في صحبتهم من يحسنون الاستماع عمن يحسنون الكلام.

ولقد سئل أحد الأطباء عن أسباب نجاحه فأجاب أن مرد ذلك إلى الإصغاء، كون كثير من المرضى يأتون إليه، لا لأنهم مرضى حقيقةً، ولكن لأنهم يريدونه مستمعًا إلى شكواهم النفسية ومشكلاتهم الصحية. لذلك تجد أن أكثر الأطباء إقبالاً، أتقنهم لفن الإصغاء لمرضاه.

وما أكثر الذين لا يفرقون بين الإنصات والاستماع، ومنهم من يعتقد أن الإنصات هو مجرد الاستماع، كلا بل إن الإنصات هو الاستماع دون الكلام، لذلك زاوج الله بينهما فقال تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}.وكلمة (الإصغاء (تعني الميل، ومنه قوله تعالى: {ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة} وعليه يكون الإصغاء هو الاستماع مع الميل.

قال حكيم لابنه: «تعلم حسن الاستماع، كما تتعلم حسن الكلام، فإن حسن الاستماع إمهالك للمتكلم حتى يفضي إليك بحديثه، والإقبال بالوجه والنظر، وترك المشاركة له في حديث أنت تعرفه»، وأنشد:

ولا تشارك في الحديث أهله … وإن عرفت فرعه وأصله

وما أحسن قول أبي تمام:

من لي بإنسان إذا أغضبته وجهلت، كان الحلم رد جوابه

وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه، ولعله أدرى به

ولقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم لأبعد من ذلك، فإنه لم يكن يقاطع متحدثًا قبل فراغه من حديثه فحسب، بل كان يسأله بعد فراغه من حديثه: (هل فرغت؟) وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن المتحدث أن يتحدث، وفي ذلك أدب عظيم. وليس هذا فحسب، بل إنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا ينصت فحسب، بل يناول أذنه الشريفة إلى من يحدثه.

اعلم علمك الله أن من أقبح أساليب الحوار أن يستأثر المرء بالحديث، فلا يعط غيره حق الكلام، والأثرة بالحديث آفة قبيحة، يغفل عنها كثير من المتحدثين، ظانًا منه أن سكوت جليسه إنما هو إعجاب بمقالته، وموافقة له على إطالته، وربما كان الأمر على خلاف ذلك ألبتة.