في بداياتنا مع الكتابة كان يدهشنا اللفظ الذي يدعونا للعجب، إما لغرابته عن المألوف، أو لعذوبة موسيقاه، أو لأنه حيًرنا في تعاريج فكرته .

فكنا نراوح الانتقاء ما بين المعاجم التراثية حينا، وما انتقل إلينا من المعرب والمترجم والدخيل حينا آخر، متوخين دوما أن نعثر على اللفظ الذي يدهشنا.


ثم مع نمو ذوقنا الكتابي، صرنا نعرج على إعمال الفكر في المعنى الذي بحمله اللفظ، أو الاحتمالات التي قد يشي بها. فأخذنا نتدرب على اقتفاء المعنى من العبارة. والمعنى قد نقصد به محض المعنى المعجمي، أو ما يسوقنا إليه اللفظ من دلالات خفية نقيس ذكاء قارئنا في استنباط تعقيداتها.

والمعنى قد يروح -أيضا- لمقصود "المغزى" الذي يؤديه فعل الكتابة وجهدها في حد ذاته، (لماذا نكتب ما نكتب؟)، إنه رسالة الكاتب ، وهوية الكتابة معا.


فهل انتهينا، ومعنا حرفة الكتابة ، إلى ثنائية اللفظ والمعنى، ولا  شيء وراء الأكمة؟ 


إن الكتابة وحي يترجم عن نفسه بالعلاقات التي يبدعها الكاتب بين اللفظ والمعنى، هذه العلاقات هي السياقات التي تتجمع فيها الأرواح المتشاكسة للكتابة: الكاتب الذات، الكاتب الفاعل ، اللفظ المادة، اللفظ الفعل، والمعنى الضابط، والمعنى المتضمن. وقليلا - ومع كل كتابة معاصرة تزداد هذه القلة كثرة- ما نجد عناية من الكاتب مصروفة لحسن توظيف أدواته وموهبته في السياقات التي يخترعها لنصه المكتوب.


إن المعاجم توقفت عند ضبط اللفظ والمعنى، فهناك معاجم للألفاظ ومعاجم للمعاني، ولكن السياقات تُرِكت طليقة لعقل الكاتب المخترع. والسياقات تنشئ الروابط التي تشد الألفاظ والمعاني لهوية حيواتها، وخلق الحيوات التي تشكل ملعب الأحداث ؛ هي مهمة الكاتب. لدلك كانت الفنون "خَلقا" وليست "نقلا" وحسب.