إنّه يوم رماديّ ممطر في مدينة "تيقاسلا".
قال مقدّم النّشرة الجويّة:
"أعزائي المشاهدين، يعلمكم المعهد الوطني للرّصد الجوّي بإمكانية تساقط الأمطار في كامل تراب البلاد و خاصة بالشمال الغربيّ لذلك نحذركم من التواجد بالخارج نظرا لإمكانية وقوع الفيضانات."
نعم، إنّه يوم مناسب لإنهاء حياتك، أليس كذلك ؟!
ها أنا أجلس متقوقعا داخل شقّتي الصغيرة النّتتة على كرسيّي الوحيد، أمامي طاولة قديمة، فوقها زجاجة خمر و شمعة تكاد تصل إلى نهايتها.
إنّها مثلي تماما، مثل كثيرين. تريد فقط الإنتهاء من كلّ هذا التّعب و الألم و الملل، أليس كذلك؟!
أوه! نسيت إخبارك عن مسدّسي الجديد.
إنّه على الطّاولة كذلك.
لقد إشتريته هذا الصّباح بواسطة مدّخرات زواجي الذي كان سيحصل بعد شهر من الآن لولا رؤيتي لحبيبتي تركب سيّارة "إبن الحيّ الرّاقي".
كما أنّني إستعملت نصف راتبي كذلك.
إنّه راتبي الأخير لأنّني أهنت رئيسي صاحب العقل الصغير و البطن الكبير.
لماذا ؟
لأنّه كان يهين الجميع يوميّا بدون داع، محرّكا آلة الطّحن التي يسمّيها فما ليخرج إهانات لا يمكن حتّى لحيوان أن يقبلها.
لأنّ هذا الدبّ كان يستمع إلى تقارير النّحيل القصير الذي رقّي ليكون مساعدا له.
عليّ الإعتراف بأن ذلك الشعور كان رائعا !
كأنّ شيئا بداخلي قد إنفجر فأراحني من كلّ هذا الضغط.
لهذا نلت تصفيق و إحترام الجميع و..طردا نهائيّا من العمل.
لكنّني كنت سأستقيل على أيّة حال.
خرجت من هناك مرفوع الرّأس، حاملا لمشاعر مختلطة، مستنشقا رائحة الحريّة.
لم أكن أعرف أنّ رائحة الحريّة شبيهة بروائح قطّ ميّت و دخان السيّارات و السجائر و..النّدم.
إن كنت تتساءل عن ما الذي حدث لبقيّة راتبي فلقد تبرّعت به لمتسوّلة عجوز قد سُرقت من قبل مجموعة من المتشرّدين الصّغار.
لن أدفع قرشا واحدا من راتبي للإيجار لأنّني أريد الإنتقام من صاحبة المبنى عديمة الرّحمة.
أتصدّق أنّها تأتي في اليوم الوحيد من الشهر الذي أكون فيه مفلسا ؟! لكن ليس هذه المرّة.
عندما عدت إلى المبنى بعد ما حصل في العمل قمت بطرق باب جاري ففتحه رجل سمين، شبه عاري، أحمر الوجه، أصلع، ذو لحية بيضاء مصفرّة و متّسخة.
ظللت أحدّق للحظات بأعينه المتخاذلة فسألني :"ماذا تريد ؟".
أجبته بلكمة أفقدته وعيه.
لا تقلق أنا لم أجنّ بعد.
كلّ ما في الأمر أنّ هذا الجار هو رجل لم يجد أيّ هواية بعد تقاعده من الجيش سوى الثمالة و إزعاجي طوال الليل بواسطة غنائه و نحيبه و ضحكه و تكسيره لزجاجات الخمر و شتمه لكلّ شيء تقريبا.
هذا كلّ شيء.
ها أنا ذا على هذا الكرسيّ أمام هذه الطاولة و المسدّس فوقها بينما أتجرّع ما بقي من زجاجة الخمر و التي -بالمناسبة- قد أخذتها من غرفة جاري الثّمل.
ها قد إنتهت الزجاجة.
لقد حان الوقت لكي أنتهي من كلّ هذا الهراء.
لقد إخترت المسدّس لأنّه أسرع طريقة و ربّما أكثرها أناقة و فاعليّة.
طلقة واحدة و سينتهي كلّ هذا الألم و الغضب.
كنت سأقطع أوردة معصميّ و أنا في حوض الإستحمام مثل ما يفعلون في الأفلام لكنّني لست من محبّي الدراما.
و الآن حان الوقت.
ها أنا أوجّه المسدّس نحو رأسي و أضغط الزناد.
لقد أصبح المكان مظلما.
ما هذا ؟! كيف يمكنني سماع صوت الطّلقة ؟!
لقد قرأت في إحدى المرّات أنّ الطّلقة أسرع من الصّوت لذا إن كنت قد سمعتها فهذا يعني أنّني لم أمت بعد.
إنتظر ! كيف لم أمت ؟!
أنا متأكّد من أنّني قد أطلقت النّار إلى رأسي.
فجأة إنطلق ضحك مرعب :
- حقّا !
صرخت قائلا:
- ماذا ! من هناك ؟
- أنا لست شخصا حتّى تسأل "من" ، و لست شيئا حتى تسأل "ماذا"
- إذا ما الذي تكونه ؟ و لماذا المكان لايزال مظلما؟
فجأة تحوّل المكان إلى اللّون الأبيض.
قال ذلك الصوت :
- أتريده هكذا ؟
ثم أضاف:
- أنا الحقيقة.
- ما الذي تقصده ؟
- لا توجد طريقة تمكّنني من أن أعرّف ما أكونه كي يستطيع عقلك البشريّ إستيعابي لكن هذا...
فقاطعته قائلا :
- أظهر نفسك أمامي و لنرى إن كان "عقلي البشري" يستطيع إستيعابك أم لا
فجأة بدأ يظهر أمامي كيان غريب شبيه بظلّ شخص ما دون وجه ثمّ ظهرت إبتسامة عملاقة على ما لا يمكنني تسميته بالوجه.
تحرّك ذلك الفم قائلا:
- و الآن أيمكنني أن أكمل ؟
لم أجبه فقال:
- سأعتبر صمتك موافقة.
ثم أضاف:
- و الآن هلّا بدأنا.
- نبدأ ماذا ؟
- مراجعة أحداث ما بعد موتك.
- إذا فأنا قد متّ حقّا، قلت في نفسي.
ثم صرخت :
- ما الذي تتحدّث عنه ؟
- سترى الآن.
خلال لحظات تحوّلت أرضيّة المكان إلى شاشة تعرض كوكب الأرض من الأعلى ثمّ بدأت الصّورة تقترب بسرعة هائلة حتى وصلت إلى حيّي ثم مبنى شقّتي ثم شقّتي نفسها.
كانت شقّتي لا تزال كما هي ما عدا إختلاف واحد فقط : جثّتي ملقيّة على الأرض و غارقة في بركة من الدّماء.
قال الكيان الغريب :
- أنظر إلى نفسك.
كنت أريد قول الكثير من الأشياء لكنّني ظللت صامتا فحسب بينما هو أضاف :
- ها أنت ذا غارق في نتيجة تهوّرك و هروبك من الحياة فماذا ستفعل الآن ؟
- لا شيء، سأظلّ جالسا هنا فقط، أجبته ببرود.
- إذا عليّ إخبارك أنّك ستُبتلع قريبا من قبل الظّلام حتّى تختفي تدريجيّا من الوجود.
- حسنا، سأجلس هنا حتّى أُبتلع من قبل الظلام.
- هذا فقط.
- نعم.
- ياللهول ! لولا مشاهدتي لكلّ ما حدث لظننت أنّك قد قتلت الملايين من البشر فشعرت بالذنب و قتلت نفسك.
- لا تقلق ذلك النّوع من الأشخاص لن يشعروا أبدا بالذنب.
- لماذا قتلت نفسك ؟
- إذا كنت تدّعي أنّك شاهدت كلّ شيء فأنت تعرف السّبب.
- أريد سماعه منك.
- و أنا لا أريد.
- أخبرني بالسبب و أعدك بأنّني سأرحل بعدها.
أجبته متنهدا :
- كلّ ما في الأمر هو أنّني أردت الإرتياح من كلّ هذا الألم.
أضاف هامّا بالرّحيل:
- غيرك كان ليستعمل العديد من الطّرق للتّخلّص من الألم دون أن ينهي حياته.
- تلك الطّرق ستجعله يختفي مؤقتا لكنّني أردته أن يختفي إلى الأبد.
- قبل أن أرحل عليّ حقّا أن أريك هذا.
تغيّرت الأرضيّة فعرضت سيّارة "إبن الحيّ الرّاقي" ثم إخترقتها.
وجدت ذلك الفتى يهمّ بتقبيلها فقامت بصفعه و خرجت من السيّارة باكية.
"كنتُ سأمنح نفسي لها لو طلبت ذلك." قلت في نفسي.
قال الكيان:
- هاهي الحياة تعاقبها دون أدنى تدخّل منك.
ثم عرضت الأرضيّة المبنى الذي كنت أعمل فيه ثم إخترقته.
وجدت رئيسي -السابق- في مكتبه، يلتهم شطيرة بحجم الذراع إلتهاما و فجأة إذ به يختنق فيرمي الشطيرة في الهواء و يمسك رقبته و يخرج من الغرفة جريا ثمّ يسقط على الأرض بينما وجهه الشبيه بالفطيرة يتحوّل تدريجيّا بدءا من الأزرق وصولا إلى الأرجواني.
أضاف الكيان:
- هل تعلم أن ما جعله يختنق هو حبّة زيتون ؟
ثم عادت الأرضيّة إلى عرض مبنى شقّتي و إخترقته حتّى وصلت إلى شقّة صاحبة المبنى.
كانت الشقّة أوسع ممّا هي عليه بسبب قلّة الأثاث المتفرّق عند الأركان، و هناك كانت صاحبة المبنى جالسة تغسل الملابس في حوض صغير.
- هذا لا يصدق!،قلت متعجّبا، أكانت تسكن معنا في المبنى ؟
- نعم، تحديدا في أعلى شقة.
- لكنّ مجموع الإيجار الذي تجمعه منّا كلّ شهر يمكنّها من الحصول على منزل جيّد بل ربّما أفضل بكثير من جيّد.
- إصبر و ستعرف الحقيقة.
بعد لحظات دخل ولد صغير ملابسه تكاد تكون أشبه بملابس المتشردين لولا كونها نظيفة. أخبرها بأنّه جائع فأجابته بأن عليه بأن يصبر قليلا حتى الغداء فانطلق إلى الخارج غاضبا مغلقا الباب بقوّة.
- أوّلا عليك أن تعلم أنّها ليست أرملة كما يقول جميع من في المبنى،قال الكيان، لم يتوفّى زوجها بل حوكم بخمسة عشر عاما في السّجن.
- ماذا ؟! ليست أرملة و زوجها في السّجن، ماالذي فعله ؟
- بعد أن وقعت في شباك غرامه و تزوّج منها أصبح شريكا في ملكيّة المبنى الذي ورثته هي من أبيها لذا إستطاع أن يقترض الملايين ثمّ حدث مثلما يحدث مع الكثير منكم أيّها البشر، فور فوزهم في أوّل لعبة قمار يضعون كلّ ما لديهم ثمّ يخسرون.
- إذن فلقد غرق في الدّيون و لم يستطع تسديدها لذا دخل السّجن، إختفى هو من حياتها لكنّ الدّيون لم تختفي لذا عليها هي أن تسدّدها.
"أظنّني ظلمتها"، قلت في نفسي.
- كان عليها أن ترتدي قناع الأرملة القويّة كي تعيش، و ذلك القناع لا يمكنه أن يميّز بين الأفراد.
صمتنا لبرهة ثمّ قال الكيان أثناء عودة الأرضية إلى الأبيض :
- هذه هي الحقيقة أيّها البشريّ، أنا لا أحاسبك على أيّ شيء، أنا فقط أقول أنّ عليك حقّا أن تفكّر جيّدا حول كلّ هذا.
- لقد حدث ما حدث و لا يمكن الرّجوع إلى الوراء..أو هل يمكن ؟
ضحك الكيان مجيبا :
- لا تحلم كثيرا أيّها البشريّ.
ثمّ أضاف :
- هاهي الحياة تكمل مسيرها دون أن تلتفت إليك أو تعيرك أيّ إهتمام.
- أنا لا أهتمّ.
- أظنّك تهتمّ لذلك قتلت نفسك.
لم أجبه.
- عدم نضجك جعلك تريد إثارة الإهتمام.
ثم تنهّد ضاحكا:
- لطالما كنتم أطفالا أيّها البشر..قليلون منكم إستطاعوا أن ينضجوا.
- "ينضجوا" ! أنت لا تعرف عمّا تتحدث عنه.
- بلى أنا أعرف.."الألم" الذي لاطالما كنت تخافه و تحاول تجنّبه هو مجرّد خيط من خيوط نسيج الحياة فأغلبكم تخافونه ليس لقوّة تأثيره عليكم بل لأنّك تجهلون فقط ماهيّته الحقيقيّة لذلك بعضكم يتجنّبه بالإلهاءات أمّا أنت فقد تجنّبته عبر القضاء على نفسك. كم أنت أبله ! ألم تحاول و لو للحظة أن تتقبّله ؟!
- أتقبّله ؟! أأنت مجنون ؟! أتريدني أن أتقبّل ما يؤذيني.
- إنّه يؤذيك فقط لكي يجعلك تنضج.
قلت في نفسي :"ما هذا الجنون؟! الألم يجعلني أنضج"
قال الحقيقة : "تقبّل الألم..إعتنق الألم..لا تتجنّب الألم.."
صرخت:"لا !"
فجأة بدأ شكل ذلك الكيان يتغيّر ببطئ إلى كائن بشريّ (مع ذلك ظلّت الإبتسامة كما هي) حتّى تحوّل إلى شكل تلك المتسوّلة العجوز قائلا -بصوتها- :"تقبّل الحياة كنسيج واحد"، ثمّ عدت إلى الظّلام من جديد.
"إذن هذا هو كلّ شيء، قلت في نفسي، لقد أبتلعت من قبل الظّلام كما قال ذلك الكيان الغريب لذا أظنّ عليّ البقاء هنا إلى الأبد بعد أن آذيتهم و ظلمت بعضهم، ترى هل ظلمت حتّى ذلك الرّجل الثّمل ؟ أوه تبّا ! ما الذي فعلته ؟"
فجأة بدأ ألم يسري في قفاي ثمّ بدأت أصوات تردّد إسمي كأنّها صدى : "نوح..نوح..نوح..أرجوك أجبني".
بعدها بدأت الأصوات تزداد وضوحا، كان صوت رجل مألوف و صوت أنثوي أدركت أنّه صوت حبيبتي.
بعد لحظات إنقشع الظلام...فتحت عينيّ ببطء فوجدت نفسي داخل سيّارة إسعاف ثمّ سمعت صوتها و هي تقول :"أنظر لقد إستفاق !".
إزدادت الرّؤية وضوحا فوجدتها هي، الرّجل الثّمل و ممرّضا جالسين بجانبي.
كانت تنظر إليّ بعينين غارقتين في الدّموع السّاخنة و هي لا تردّد سوى كلمة واحدة :"الحمدللّه" بينما ظلّ الرّجل الثّمل -و قد إنتفخت عينه اليمنى- ينظر إليّ بوجه أب حنون.
لم أستطع فتح عينيّ لفترة طويلة لذا أغلقتهما فقط.
في وقت لاحق علمت أنّني بفضل إفراطي في الشّرب أخطأت التصويب فمرّت الرصاصة من قفاي مسبّبة جرحا غير خطير إضافة إلى إرتجاج بالمخّ و لن تصدّق من أنقذني...نعم إنّه ذلك الثّمل.
لا أعلم ما الذي عليّ أن أكتب في النّهاية لذا سأتوقف عن الكتابة هنا فقط و قبل ذلك عليّ أن أخبرك أنّه لا بأس إن لم تصدّق قصّتي لكن ما أتمنّاه حقّا هو أن تتمعّن و لو قليلا فيها.