إذا كانت الفلسفة الدهرانيّة تتوسل بالعقل المجرّد وحده، واقعة في شبهات الانقلاب والانتكاس، فإن الفلسفة الائتمانية تنبني على العقل المؤيّد، متّقية مفاسد العقل المجرّد وعوائق العقل المسدّد؛ ففي مقابل مبادئ العقل الأولى التي تتحدد بها الفلسفة غير الائتمانية والتي هي "مبدأ الهوية" و"مبدأ عدم التناقض" و"مبدأ الثالث المرفوع"، هناك مبادئ العقل الأولى التي تتحدد بها الفلسفة الائتمانية، وهي على التوالي:

أولا، مبدأ الشهادة؛ يقوم هذا المبدأ في تقرير أن الشهادة بمختلف معانيها تجعل الإنسان يستعيد فطرته، محصّلا حقيقة هويته ومعنى وجوده، بدءا بشهادة الإنسان في العالمين: الغيبي والمرئي التي يقر فيها بوحدانية الله وشهادة الخالق على هذه الشهادة.

فإذا كان "مبدأ الهوية" يقضي بأن الشيء هو هو، فإن "مبدأ الشهادة" يقيّد هذه القضية المجردة، إذ يقضي بأن الشيء هو هو متى شهد عليه غيره.

ثانيا: مبدأ الأمانة، يقوم هذا المبدأ في تقرير أن الأمانة بمختلف وجوهها تجعل الإنسان يتجرّد من روح التملّك، متحمّلا كافة مسؤولياته التي يوجبها كمال عقله، بدءا بالمسؤولية عن الأفعال.

فإذا كان "مبدأ عدم التناقض" يقضي بأن الشيء ونقيضه لا يجتمعان، فإن "مبدأ الأمانة" يقيد هذه القضية المجردة، إذ يقضي بأن الشيء ونقيضه لا يجتمعان متى كان العقل مسؤولا.

ثالثا: مبدأ التزكية،يقوم هذا المبدأ في تقرير أن التزكية بمختلف مراتبها خيار لا ثاني له يجعل الإنسان يجاهد نفسه للتحقق بالقيم الأخلاقية والمعاني الروحية المنزلة.

فإذا كان "مبدأ الثالث المرفوع" يقضي بأن الشيء إما هو وإما نقيضه، فإن "مبدأ التزكية" يقيد هذه القضية المجردة، إذ يقضي بأن الشيء إما هو وإما نقيضه متى كان العمل مطلوبا، بدءا من الأعمال الخارجية (=أعمال الجوارح)، وانتهاء بالأعمال الداخلية (=أعمال القلوب)، وعلى هذا فلا خيار للإنسان إلا بين أمرين: إما أن يأتي العمل الذي يزكّي نفسه، وإما أن يأتي العمل الذي يدسّيها.


[بؤس الدهرانية ص١٤-١٩ بتصرف]