منْ غيرِ الـمعقولِ أنْ تلجأَ لِشخصٍ فِي حلِّ مَشاكلِكَ، وأنتَ تعلمُ منْ هُو أقدرُ منهُ علَى حلِّهَا، فضلًا على أنْ تَذهبَ لِـمنْ لاَ ناقةَ لهُ ولا جملَ فيمَا تَستشيرهُ.

وليسَ اللَّومُ علَى منْ أساءَ الجوابَ لوحدهِ، بلْ إنَّ اللَّومَ علَى منْ أخطأ فِي السؤالِ أيضًا، إذْ ليسَ منَ الصَّوابِ أنْ يلجأَ الـمرءُ إلَـى فاقدِ الأهليَّة ليُؤهِّلهُ، وإلاَّ كانَ كمنْ طلبَ لُقمةً منْ فمِّ الأسدِ، هيهاتَ هيهاتَ.

وكمَا أنَّه لا يُتصوَّرُ عقلاً أنْ تذهبَ إلـى إسكافـيٍّ لقلعِ ضِرسكَ، ولاَ أنْ تَخيطَ حِذَاءكَ عندَ طبيبِ أسنانٍ، فمنَ عدمِ العقلِ أنْ تطرحَ قضاياكَ العقليَّة والـعاطفيَّة علَى منْ لاَ حيلةَ لهُ فِي فَكِّ العُقَدِ.

واللُّجوءُ إلـى أهلِ التَّخصص إنَّما هوَ علامةٌ منْ علاماتِ نُضجِ اللاَّجئ، وتفعيلٌ لآيةٍ قُرآنيَّة وليسَت ترفًا ثقافيًّا فحسب، بدليلِ قولهِ تعالَـى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} فالردُّ هنَا يَعنِي الرُّجوعُ إلَـى أَهلِ الاخْتصاصِ.

ـ ما فائدةُ الرُّجوعِ إلـى أهلِ الاخْتصاصِ؟

ـ الـجوابُ:

أوَّلاً: إنَّ منْ سلامةِ إيمانِ الـمرءِ الرُّجوعُ إلـى أهلِ التخصُّصِ بدليلِ قولهِ تعالـى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.

ثانيًا: إنَّ منْ عواقبِ الرُّجوعِ إلـى أهلِ التَّخصُّـصِ، خيريَّة النتائج وحُسنُ الحُلول، بدليلِ قولهِ تعالـى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.

فمنْ لجأ للمؤهَّلِ كانَ أهْدَى لأنْ يجدَ ضَالتهُ، علَى خِلافِ منْ لجأَ لِغيرِ الـمؤهَّلِ فإنَّهُ ورَّطَ نفسهُ وورَّطَ منْ لجأَ إليهِ، بدليلِ قولِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ) أيْ: مسؤولٌ عنْ النَّتائج، والضامنُ إنْ أفسدَ عوَّضَ.

والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أكَّدَ علَى احْترامِ التَّخصُّصِ فِي غيرِ مَا مَوضعٍ، فأمرَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عبدُ اللهِ بنُ زَيدٍ أنْ يُعطيَ الأَذانَ لِبلالٍ لأنَّهُ أَندَى منهُ صَوتًا.

وقالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (أَفْرَضُكُمُ زَيْدٌ) أيْ: أَعلمكمُ بعِلمِ الفَرائضِ زيدٌ بنُ حارِثةَ، وعلمُ الفرائضِ هوُ علمُ الـمواريثِ.

وقالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (أَقْرَؤُكُمُ أُبَـيٌّ) أيْ: أَحسنكمُ قِراءةً للقرآنِ الكريمِ أُبَيُّ بنُ كَعبٍ.

وأشادَ بِحسّانِ بنُ ثَابتٍ عَلَى أنَّه أشْعَرُ الصَّحابةِ.

وأنَّ مُعاذًا أَعلمُهمُ بِالـحَلالِ والـحَرامِ.

وأنَّ عَليـا أَقضَاهُم.

وأنَّ خَالدُ بنُ الوَليدِ أَخبَرهمُ عَسكريًّا…

وهذَا إنْ دلَّ علَى شيءٍ فإنَّمَا يدلُّ علَى أنَّ اللهَ خلقَ النَّاسَ ذوِي كفاءَاتٍ مُتباينةٍ، فأَمْهَرَ بعضَهُم علَى بعضٍ ليَحتاجُوا بَعضَهم بعضًا.

فالقاضِي لا يتعالـج عند القُضاة، والـطبيبُ لا يرفعُ القضايَا إلـى الأطباء، والـمُعلّمُ لاَ يتعلَّم على يدِ الفلاَّح، والفلاَّح لا يتفلَّحُ على يد الـمُعلِّم؛ لأن أخصَّ الناسِ أمكنهم.

وليسَ العيبُ فِي أنْ يرجعَ الـمرءُ إلـى أهلِ التخصُّص ليُفتوهُ، إنَّما العيبُ أنْ يُكابرَ عنْ ذلكَ فيضِلَّ ويُضِلَّ.

لأنَّهُ ما منْ إنسانٍ إلاَّ ويُولدُ محظوظًا فِي شيءٍ مَا، وليسَ بالضَّرورة أنَّ الـمسؤولَ أفضلُ منَ السائلِ، ولاَ أنَّ الـمُستشيرَ أخيرُ منَ الـمُشيرِ، بقدرِ ما يعنِي أنَّ الأمرَ سُنَّة اللهِ فِي خلقهِ، فقد تَناقشتِ الفَقيهةُ فَاطمةُ بنتُ عَبَّاسٍ مَعَ الإِمامِ صَدْرِ الدِّين بنُ الوَكيل فِي مَسائلَ الـحَيضِ فغَلبتهُ، وقالت لهُ: «أنتَ تَدرِي هَذَا عِلْمًا، وأَنا أَدريهِ عِلمًا وعَملاً».

هُناكَ أمورٌ لاَ حيلةَ للمرءِ فيهَا لأنْ يكونَ أفضلَ منْ غيرهِ، ولا بدَّ فوقَ كلِّ فقيهٍ منْ هُو أفقهُ منهُ، وهذَا ممَّا لاَ يُـتفلْسَفُ فيهِ.

وحقيقٌ بالـمرءِ أن يكونَ علَى دِرايةٍ بمنْ يسألُ؛ لأن الرُّجوعَ إلـى غيرِ أهلِ العلْمِ فتنةٌ للسائلِ والـمسؤولِ، وقدْ رأَى رجلٌ ربيعةَ الرَّأيِ «شَيخُ مَالكٍ بنُ أنسٍ» يبكي، فقالَ: مَا يُبكيكَ؟

فقالَ: اسْتُفتِي مَنْ لاَ عِلمَ لَهُ، وظَهرَ فِي الإِسلامِ أمرٌ عظيمٌ!

فليعلمِ الـمُسلمُ أنَّهُ مَسؤولٌ عنْ سُؤالهِ، وليسَ مَسؤولاً عنْ جوابهِ فحسبٌ، قالَ ابنُ الـجَوزي: «إذَا كانَ الـماءُ موجودًا كانَ تَحريكُ اليدينِ بِالتَّيمُّمِ عبثًا»[1]، بمعنَى: لاَ تتكلَّمْ فِي مَوضوعٍ ليسَ منْ اخْتصاصكَ، وإنْ كانَ لاَ بدَّ أنْ تَتكلَّم فتكلَّم علَى قدرِ الـحاجةِ، فإذَا حضرَ منْ هوَ أهلٌ لِلكلامِ لاَ جُناحَ عليكَ أنْ تُحيلَ إليهِ الخطَّ، ذلكَ أنَّهُ منَ العبثِ أنْ تُحدِّثَ الأَعْرابَ عنِ الإِعرابِ، وقديمًا قالوا: «لا تعلِّم اليتيم البكاءَ»! في إشارة أنَّ ذلك من اختصاصه في تلكَ اللحظة، وليس من يُفتيكَ عن اختصاص كمن يفتيكَ عن ثقافة!