أثبتت الدراسات العلمية أن اللغة قادرة على رفع المعنويات، ورفع المعنويات بدوره يؤدي إلى رفع مستوى الإنتاج. لذلك ترى الكثير من الناس غيرتهم كلمة؛ لأن الكلمة الـمشجعة تدفع الإنسان إلـى التطور، على خلاف الكلمة المثبطة فإنها تقتل فيهم قابلية التطور.

ومما لا يمكن إنكاره، أن الكلمة كائنًا ما كانت لها تأثيرها، والتأثير غير مشروطٍ بالآنية، فكم من كلمةٍ قيلت في الطفولة ظهر مفعولها في الشباب، وكمْ كلمةٍ قيلت في الشباب ظهر أثرها في الشيخوخة، ولأن يظهر الأثر متأخرًا خيرٌ من ألا يظهر ألبتة.

كما أن الكثير من الأطفال – إن لـم يكن جلهم- هم نتيجة ما يقال لهم داخل بيوتهم، والـمتأمل في سيرة العالم توماس إديسون يلحظ أن توماس إديسون مخترعٌ أنجبته أمه ولادةً واختراعًا، فرغم الانتقادات اللاذعة التي تعرض لها من معلمه فإن أمه لم تقصر في تعليمه في بيته.

العظماء لا تنجبهم الـمدرسة دائمًا، إذ ما أكثر الذين أنجبتهم بيوتهم الـمتواضعة.

كم من تلميذٍ صنعته جملةٌ من معلمه، وكم من جملةٍ من معلمٍ أجهضت نابغةً!

كم من شخصٍ انتحر بسبب جملةٍ، وكم من شخصٍ أنقذ بسبب جملةٍ، حياتنا ليست إلا نتيجة جملٍ تقال لنا!

ومن الأخطاء التي يلزم تصحيحها، أن الكلمة لا تزيد على كونها مجموعة من الـحروف الهجائية، كلا الكلمة ليست مجرد حروفٍ تخرج من الـحلق، إنما هي وسيلةٌ من وسائل الدعوة.

وأفشل الدعاة هم ليسوا إلا أشخاصًا فشلوا في الوصول إلى قلوب الأتباع. حتى إن هناك الكثير من الأشخاص الذين نميل إلـى التعامل معهم، لأجل أنهم ينتقون ألفاظهم، في حين هناك من ننفر منهمْ وليس ذلك إلا لخشونة ألفاظهم، ومعلومٌ أن اللفظ الـخشن سبيلٌ إلى نفور الـمستمع.

«ولوْ كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حوْلك» لا شيء يسبب نفور الناس، مثل الحديث دون انتقاء الألفاظ، ومراعاة الأسلوب.

هناك الكثير من الدعاة لا نحب أسلوبهم الدعـوي؛ لأنهم لا يحسنون التعبير عن أفكارهم بلغةٍ مرنةٍ وأساليبٍ لينة. ولعله من ألزم الشروط التي يجب أنْ تتوفر في الداعية، قدرته على استخدام الكلمات المناسبة، وما من داعيةٍ لا يجيد انتقاء ألفاظه إلا فشل في حجز مقعدٍ في قلوب الناس.

ومن فشل فـي كسب حب الناس، أنى له أن ينجح فـي دعوته؟

ولعل من بين الأسباب التي جعلت أدولف هتلر زعيمًا ألـمانيًّا، أنه عرف أهمية الكلمة في التأثير في الشعوب، لذلك اشتهر عنه اهتمامه البالغ بالكلمة؛ لأن هتلر يعرف أن الكلمة القوية تعرف طريقها إلـى القلوب، لذلك قال: «ليعلم فرسان القلم أن الـجماهير تخضع دائمًا لقوة الكلمة».

معرفة هتلر بمدى تأثير الكلمة في أذهان الـشعوب، جعله يحرص على أن يكون لديه وزير إعلام ناجح؛ لأن الإعلام يصنع الأعلام، فلولا الإعلام ما سمع أحدٌ عن هتلر. والدارس لـحياة هتلر يدرك جيدًا أنه كان يولـي اهتمامًا ملحوظًا بفن الخطابة، حتى إنه صار خطيبًا مفوهًّا، إذ جعل الناس يرون أشياءً لا توجد في الواقع أساسًا. وليس هتلر وحده من فعل ذلك، بلْ إن أغلب القادة الـمؤثرين في التاريخ كانوا على حظٍ كبيرٍ من الفصاحة.

فالحجاج بن يوسف الثقفي كان إذا نطق يوشك ألا يكذبه مستمعٌ لفصاحته، حتى قيل إنه واحدٌ من أربعةٍ لم يلحنوا في جدٍ ولا هزلٍ.

الكلمة ليست بالأمر الهين حتى يمكن إهمالها، هناك حروب يمكن أن تقوم بسبب كلمةٍ، وهناك حروبٌ توقفت بسبب كلمةٍ، لذلك لا تنس أن للكلمة طاقتها. الكلمة لها وزنها باختلاف ميادينها، فالذين يحبون العمل ويرون فيه أكبر من مجرد راتبٍ يحصلون عليه في نهاية الشهر، لا بد وأنهم يعملون لصالح رجلٍ قدْ أثر عليهم بحسن كلامه؛ لأن العمال أوفياءٌ لرب العمل الذي يجيد التعامل معهم بلباقةٍ.

في حين هناك عمالٌ لولا أن الحاجة إلـى العمل فرضت عليهم البقاء تحت إمرة رب عملهم، لـما توانواْ لحظةٍ في العمل تحت إمرته؛ لأنه فظٌ غليظ القلب.

وعندما نتحدث عن الكلمة الطيبة فنحن لا نعني الكلمة الطيبة في نفسها فحسبٌ، أيضًا حسن توظيفها؛ لأن هناك الكثير ممن يملك الكلمات الطيبة لكنه لا يحسن توظيفها، فيحيلها سوء التوظيف من الحسن إلـى القبح.

ومن جهةٍ أخرى، يجب أنْ نفرق بين النصيحة والتدخل في حياة الناس، فليس كل مخطئٍ يجب عليك نصحه، ولا كل مخطئٍ أنت أهلٌ لنصحه، لأن امتلاك النصيحة لا يعني أبدًا أحقية نطقها.

إذ لا بد من مراعاة حال المنصوح ومقام الـمقال؛ لأن هناك نصائح تتطلب وقتًا ومكانًا وأشخاصًا؛ لأن من أهم الأشياء التي تعين الـمتحدث في توظيف كلامه بشكلٍ صحيحٍ، معرفته لطبيعة من يسمعه.

لذلك ينبغي للناصح أن يعرف كيف يفرق بين كونه ناصحًا وبين كونه متدخلًا فيما لا يعنيه؛ لأن الكثير من الناس يتدخلون في خصوصيات غيرهم باسم النصيحة، وتدخلاتهم في حد ذاتها غير مشروعةٍ لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ. ومعلومٌ أنه لا أكثر عبقريةً من شخصٍ يقدم لك نصيحةً دون أن يشعرك بأنك تتدخل في خصوصياته.

قدْ تكون الكلمة أشد وجعًا من الضرب، وقد تكون الكلمة أنفع من الدواء، وقدْ تكون الكلمة أخطر من السلاح الأبيض، وقدْ تكون الكلمة أكثر أمانًا من البيت.

يقول تعالى: «قوْلٌ معْروفٌ ومغْفرةٌ خيْرٌ من صدقةٍ يتْبعها أذًى» فالكلمة الطيبة أفضل من الـمال حينما يتبعه الأذى.

والقرآن أوصانا بتحسين القول مراعاةً للطرف الآخر، فقال تعالـى: «وقولوا للناس حسنًا»؛ لأن كل كلمةٍ تطلقها إنما تترك أثرًا في دماغ الـمتلقي، وهذا الأثر لا يزول بمر العصور وكر الدهور.

ويقول أيضًا: «واجتنبوا قوْل الزور» فكل كلامٍ يفتقد الأثر الطيب قدْ يكون زورًا.

ويقول تعالى: «ادْع إلى سبيل ربك بالْحكْمة والْموْعظة الْحسنة» فالحكمة أنْ تحسن التصرف في حديثك، والـموعظة الحسنة أنْ تنطق خيرًا؛ لأن خيرية الـمنطوق وحدها غير كافية، ما لـم توجدْ له مكانًا لائقًا، لذلك قال أهل البلاغة قديـمًا: «لكل مقامٍ مقالٌ، وليس كل ما يعرف يقال».

فانظر ما للكلمة من قيمةٍ في الإسلام؛ لأنه بكلمةٍ قدْ تدخل الإسلام، وبكلمةٍ تخرج منه.

بكلمةٍ قدْ تؤلف بين قلبين، وأخرى تفرق بينهما.

بكلمةٍ قدْ تنصر مظلومًا، وأخرى تعين ظالـمًا.

الكلمة ميثاق شرفٍ، ولـها ثباتها حينما تقال، لقدْ فاق هجاء الـمتنبي لكافور الإخْشيدي، مدحه لسيف الدولة الـحمداني، مع أن بعض الـمصادر التاريخية تذكر أن لكافور خصالاً حسنةً تفوق ما وصف به الـمتنبي سيف الدولة، ولكن كلمة الـمتنبي الـمقدمة في قالب الشعر كانت أبقى؛ لأن الإنسان يموت لكن الكلمة لا تـموت.

وكما أن الكلمة بمقدورها أن تكون سببًا في إحياء الـنفوس، بمقدورها أن تكون سببًا في موتها.

ألف الباحث سمير مصطفى فراج كتاب: «شعراءٌ قتلهم شعرهم»[1]، وذكر من أشهر الشعراء الذين قتلتهم الكلمة قيصر الشعر العربي أبي الطيب الـمتنبي الذي يقال إنه قتل ببيت شعر قاله، والغريب أن المتنبي قتل بسبب الهجاء؛ على الرغم من أن الهجاء لا يمثل ركنًا أساسيًّا في ديوانه.

وهدبة بن الـخشْرم الشاعر الراوية، إذ يذكر بعض الرواة أن هدبة بن خشْرم أول من أقيد منه في الإسلام.

وهدبة ممن يستشهد بشعره في كتب النحو واللغة لما اتسم به شعره من جزالة وقوة، وهو شاعر كثير الأمثال في شعره، ومن شهير شعره:

عسى الكرْب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فـرجٌ قـــــــــــريب

فـيأمن خـائفٌ ويفـك عـــــــــــــــــــانٍ ويأتي أهله النائي الغـريب

والكلمة هي من قتلت طرفة بن العبد الشاعر الجاهلي وصاحب الـمعلقة، الذي لقي مصرعه إثر هجائه لـملك الـحيْرة عمرو بن هند، وقال بأنه لا يصلح للملك، وأن نعجة تخور خيرٌ منه. ولما خشي الـملك من مواجهة الشاعرالسليط بحكْم موته، كتب الـملك إلى عامله بالبحرين «الـمكعْبر» أن يقتل طرفة، فسجنه ثم قتله وهو في نحو السادسة والعشرين من عمره.

وهناك روايةٌ تقول إن شاعر عبسٍ عنترة بن شداد هو من قتل طرفة بن العبد، ولكن ليس هذا مقام مقالنا، وإنما الذي يعنينا أن كلمةً قالها طرفة وضعت طرفًا لـحياته.

ضفْ إلـى ذلك صريع أم البنين «وضاح اليمن» عبد الرحمن بن إسماعيل، وسمي وضاحًا لجمالة، وكان أحد ثلاثةٍ من العرب يردون المواسم مقنعين يسترون وجوههم خوفًا من العين، وحذرًا على أنفسهم من النساء لجمالهم. وهؤلاء الثلاثة هم: المقنع الكندي، وأبو زيد الطائي، ووضاح.
وقد بدأ وضاح يدق أول مسمار في نعشه عندما رأته أم البنين زوجة الخليفة الوليد بن عبد الملك وهي تؤدي فريضة الحج، فهوته وطلبت منه، ومن كـثـيـرٍ أن ينسبا إليها شعرًا، ولكن كثيرًا أدرك عاقبة ذلك فلم ينسب لها، وانطلق لسان وضاح برقيق الشعر نسيبا في أم البنين، وتغافل عن أن الوليد قد كتب يتوعد الشعراء جميعًا، إن ذكرها أحد منهم.

0

نشرت بتاريخ:

05/04/2019