في عام 1992 كنت طالبا جامعيا، وكان من ضمن المواد المفروضة علينا مادة "الثقافة القومية"، التي وضعها حزب البعث لجميع المراحل الدراسية، يفرض من خلالها أهدافه وشعاراته وينبغي على الطلبة حفظها، والنجاح في مادتها وإلا فإنه لن يعبر الى المرحلة الأخرى.

    كانت المحاضرة الأخيرة في نهاية الإسبوع، ولعدم رغبتي في مضمونها.. كثيرا ما يغلبني النعاس فيها، فلم أشعر إلا والأستاذ "الرفيق" يصرخ بإسمي ويسألني عن دور حزب " البعث" في الوحدة العربية ؟ بالكاد أفقت من غفوتي حتى أجبته : إحتلال الكويت أستاذ !!

   تطاير الشرر من عيني الأستاذ غضبا، وصار يرميني بشتى التهم، وبأني " غوغائي " ومعادي للوطن والحزب، ويجب أن أحال الى المحاكمة جراء قولي هذا، فرحت أنا وزملائي الطلبة نتوسل به من أجل أن يعفو عني، وينسى ما قلت ولسان حالي يقول : " أستر علي الله يستر عليك " ورحت أقسم بأشد الأيمان أني كنت نائما، لم أفهم من سؤاله شيئا، وشهد زملائي بذلك، فأنجاني نومي من العقاب.

   في ذلك العام تأسس الأتحاد الاوربي؛ جامعا غالبية دول القارة العجوز، بعد إنهيار المعسكر الإشتراكي، المختلفة في ثقافاتها ولغاتها والأنظمة التي تحكمها، وأستطاع أن يحقق وحدة إقتصادية متكاملة بين دول الإتحاد، جعلت من عملته " اليورو " تنافس  الدولار  الأمريكي، وجيشا موحدا له أمكانيات كبيرة، هو العمود الفقري لحلف شمال الأطلسي، فكان نتيجة ذلك ثورة عمرانية وتكنلوجية وإجتماعية، ولما يمضي على تأسيسه أكثر من 27 عاما.

    تأسست جامعة الدول العربية عام 1945، بين دول تجمعها حدود وثقافات مشتركة، ولغة وديانة واحدة لغالبيتها، وإرتباطات قبلية وإجتماعية واحدة، ورغبة من الشعوب العربية في الوحدة والتكامل وإزالة الحدود المصطنعة، ومواجهة التحديات والأخطار المشتركة، مما يحقق صلاح أحوالها، وتحقيق أمانيها وتأمين مستقبلها، لكن الشعوب العربية ظلت تنتظر 74 عاما، كي ترى تحقيق واحدة من تلك الأمنيات، فلم تتحقق ولسان حالها يقول : " ياريت الي جرى ما كان ".

    قضية فلسطين؛ القضية الاولى للعرب، إبتلعها إعصار التخاذل والمهادنة، مع الكيان الصهيوني عدو العرب الأول، حين إنهزمت الجيوش العربية ضد مرتزقة العدو، وراح يجبن بعضهم بعضا، تاركين الفلسطينيين تحت سياط القهر والتشريد والقتل وسجون الإحتلال، بل وصل الحال بالبعض أن يتأمر على الأمة، في النهار يصيح بشعارات العروبة والمقاومة، وفي الليل يتناول الخمر مع أعدائها، وما كان يجري في الخفاء من تآمر ومهادنة، صار اليوم " على عينك يا تاجر "، مما جعل الجولان تلحق بفلسطين، ولا نعلم غدا ماذا يتبع أيضا !

    بل إن بعض الدول العربية، وإستجابة لأوامر الإستكبار العالمي، أخذت تنهش في جسد الأمة، وتضرب بمعولها في خاصرة الدول العربية الأخرى، فكانت سببا في إحداث الفتن والفوضى والقتل والتهجير في كافة ارجاء الوطن العربي، فإجتاح الإرهاب المبني على أسس طائفية والمدعوم بأموال عربية، أغلب دول ما تسمى " الجامعة العربية "، وأنتقلت العداوة من العدو المشترك الى ما بين الدول نفسها، بينما الشعوب تئن من الفقر والجهل والقتل والتدمير، وحكامهم يتنعمون بالثروات، ويبيعون الشعارات لشعوبهم التي صارت تردد : " إبعد عني يا إبن الناس .. خليني بعذابي وروح ".

    لم تعد الشعوب العربية تهتم بقمم القادة العرب، وهي تعرف جيدا إن  " الوجوه متوالفة والقلوب متخالفة " ولم تعد تعنينها الشعارات البراقة والخطب الرنانة، التي تنقلها التلفزيونات العربية من على منصة الجامعة، ومعظم القادة الحاضرين نيام ! يعلمون أن ما يقال " لا يسمن ولا يغني من جوع " إنما هي مسرحية إعتادوا على تأديتها، في وقت هجر فيه الجمهور العربي المسرح، وأمسى مشردا بين مخيمات النازحين، يستمعون الى إنشودة  " الشعب العربي وين .. وين الملايين ".

   عقدت القمة العربية الأخيرة في تونس، وفيها تم إتخاذ قرارات جريئة، فقد قرر الحكام أثناء نومهم تحقيق " الحلم العربي "، وإزالة الحدود وإلغاء التأشيرة، وتوحيد العملة وتأسيس جيش عربي يحرر فلسطين المحتلة والجولان، أما البقية؛ إنتظروهم في الحلم القادم، فمبروك للعرب إنطلاق القمة .. ونيام الأمة.