د. إبراهيم البيومي غانم

أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة

لماذا -مثلا- لا نطرح على بساط البحث الأصولي ما تشير إليه ثورات الربيع العربي وتأثيراتها على (الخير العام) من منظور أصولي؟ وهل لنا أن نتساءل مثلًا عن علاقة العمل الخيري بالفعل الثوري؟. هذا السؤال تثيره الملاحظة المباشرة التي تفيد بأن القوة الضاربة في هذه الثورات هي قوة (الخير) بمعناه الواسع الذي يشمل جميع مبادرات التحرر من أسر أنانية الذات وحرصها على الحياة، ومن شهوة التملك وحب الدنيا، ومن قيود الاستبداد وأغلال الطغيان، ويشمل أيضًا التضحية بالنفس والاستشهاد في سبيل الله من أجل (التحرر) من ظلم الاستبداد وجهالاته.

    قد يظن كثيرون أن الصلة منفكة بين (العمل الخيري)، و(الفعل الثوري)، وقد يستهجن آخرون الحديث عن وجود علاقة ما بين هذا وذاك أصلًا. يقول هؤلاء وأولئك: إن العمل الخيري ينتمي إلى حقل الأخلاق ومكارمها التي حضت عليها الأديان والفلسفات الراقية. وقد يقولون أيضًا إن العمل الخيري يتغذى على المبادئ السامية وفضائل النفس الإنسانية التي تتطلع دوما إلى الكمال والنقاء؛ بينما (الفعل الثوري) ينتمي إلى حقل السياسة ورذائلها، ويتغذى على الأهداف والغايات المادية، ويرتكز على تطلعات الشعب بصفة عامة، وعلى طموحات النخب التي تتصدر العمل الثوري على نحو خاص. وحسب رأيهم فإنه لا يوجد في الفعل الثوري ما يحصنه من الانزلاق نحو هوة الأنانية واللا أخلاق عموما، بينما العمل الخيري ينطوي على معايير صارمة تبعده عن هذا المنزلق، وتضمن له درجة عالية من النقاء والتجرد.

    لكننا نعتقد أن هذا الرأي غير صحيح، ونرى أن (الثورة) وإن كانت عملًا سياسيًا من الطراز الأول، إلا أنها (فعل خيري) في عمقها وجوهرها. ونرى أيضًا أن (الخير) وإن كان عملًا أخلاقيًا من الطراز الأول، إلا إنه (سياسي) في عمقه وجوهره. صحيح أن (عمل الخير) و(فعل الثورة) يظهران متباعدين في الواقع؛ إلا أن هذا التباعد ظاهري وشكلاني فقط؛ حيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر فصلا حقيقيًا.

    الثورة والخير ينتميان إلى مبدأ واحد، وينموان في حقل معرفي واحد، ويرويهما نبع واحد، ويصبان في مصب واحد. إنهما ينتميان إلى مبدأ (الحرية) وليس غيرها. وهما في ساحة الحرية يترعاعان، ومن صفو مائها، أو من قاني دمائها يرتويان، وفي غايتها العليا يصبان تلك هي فكرتنا عن علاقة العمل الخيري بالفعل الثوري. وإليك بعض حيثيات الاستدلال النظري والعملي على ما ذهبنا إليه:

    إذا بدأنا بفعل الخير، سنجد أن أصله وجوهره عبارة عن عملية تحرير للنفس من أسر الشهوة، ومن قيد الذنب، ومن سجن الظلم، ومن أوزار الاستبداد. هو عمل تحريري بامتياز. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه القرآن الكريم بشكل مباشر في مواضع متعددة بلغت 88 موضعًا، إضافة إلى مواضع أخرى كثيرة وردت فيها إشارات إلى الخير باعتباره عملًا تحريريًا للنفس وللمجتمع.

    وينظر الأصفهاني إلى الخير نظرة فلسفية تجعله معادلًا للحرية. ففي المفردات في غريب القرآن يقول: إن (الخير ما يرغب فيه كل البشر؛ كالعقل، والعدل، والنفع، والفضل. وضده الشر). ولهذا نجد أن كثيرين من فلاسفة الإسلام وحكمائه أقاموا ضربًا من التوحيد بين (الخيرية)، و(الحرية) و(الإبداع) أيضًا؛ فكلمًا كان الإنسان خيرًا، ومحبًا للخير، كان أقرب للحرية، وأقدر على الإبداع والابتكار والتجديد وإفادة البشرية وإعمار الأرض. يقول ابن سينا إن الخير هو (ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجوده).

    ويربط كتاب الحكمة السياسية في التراث الإسلامي بين (الخير) و(الحرية) ومكارم الأخلاق، والعدل، وعمارة البلدان؛ أي تنميتها وتطويرها. سبط بن الجوزي مثلًا يربط الخير بعمارة البلدان، فيقول: (إذا اتسع الرزق، كثرت الخيرات، وإذا كثرت الخيرات عمرت البلدان)، وابن خلدون اكتشف قانون الظلم وخراب العمران، وإذا حضر الظلم غابت الحرية وعم الاستبداد.

    ونحن نلاحظ أن عمل الخير شأنه شأن العمل التحرري؛ كلاهما يطرح في النفس الارتياح والطمأنينة، ويطرح في المجتمع الاستقرار والسكينة، ويجعله مهيأ لعيشة هنيئة، ولحياة أفضل، ويجعله مكانًا يسمح للناس بالإبداع والابتكار، والقيام بالمبادرات التي تستهدف تحسين نوعية الحياة والتغلب على مشكلاتها، والإسهام في سعادة أهلها.

    تنظر الفلسفة الإسلامية إلى العمل الخيري نظرة عميقة إذ تربطه بمفهوم الحرية، ومن ثم بالثورة من أجل تمكين الذات الإنسانية من التمتع بنعمة الحرية التي فطر الله الناس عليها. إن العمل الخيري عندما يكون عطاءً بلا مقابل مادي هو تحرير للنفس إما من قيد الأثرة وحب التملك، أو من قيود الآثام واجتراح الخطايا، أو من قيد الكبر واستعلاء النفس على الآخرين ممن يتشاركونها الانتماء إلى أصل واحد (كلكم لآدم وآدم من تراب).

    إن العمل الخيري هو عمل تحريري للمجتمع من قيود الفقر والمرض والعجز والجهل، والفعل الثوري هو فعل تحريري أيضًا يهدف إلى استرداد حالة التوازن في المجتمع بعد أن اختلت بفعل الاستبداد والإكراه وشيوع الأنانية والتمركز حول الذات. الثورة عمل تحرري وتغييري، وكذلك يفعل العمل الخيري في النفس وفي المجتمع.

وثمة ثلاث زوايا لعلاقة العمل الخيري بالفعل الثوري من واقع التحديات التي تطرحها الثورات العربية الراهنة:

- الزاوية الأولى هي زاوية الاقتصاد السياسي للعمل الثوري، ولهذه الناحية مستويان:

الأول: هو اختلال ميزان العدالة وانتفاء حالة التوازن بسيادة الفساد والاستبداد والظلم، وهذا هو ما يذكي الفعل الثوري ويشجع العمل الخيري لاسترداد حالة التوازن المفقود.

والثاني: هو الاقتصاد الخيري الذي يسهم في تغذية الفعل الثوري ويتجلى في صور كثيرة منها تبرعات المتطوعين، وصبر المتضررين من الفعل الثوري على ما يصيبهم من أضرار.

- الزاوية الثانية هي أن الفعل الثوري يفتح المجال لإزالة القيود القانونية والإدارية من طريق العمل الخيري، فالنظم الاستبدادية لا تعيش إلى على القيود والتقييد، وتكره رؤية أي نشاط حر أو مبادرات تحريرية، ولهذا نجدها تقيد الجمعيات بقانونها، وتقيد الأوقاف بقانونها، وتحذف أي محفزات على العمل الخيري أو المبادرة به من القوانين الضريبية - مثلًا - حتى ييئس الناس من هذا الطريق. وتفعل نظم الاستبداد كل هذا لأنها تدرك العلاقة الوثيقة بين عمل الخير والفعل الثوري وأشواق الحرية.

- أما الزاوية الثالثة لعلاقة العمل الخيري بالفعل الثوري؛ فهي تتجلى في اتساع فرص أوسع للعمل الخيري العابر للقطرية. وهذه الفرص مرهونة بنجاح العمل الثوري في تحطيم السدود التي أقامتها أنظمة الاستبداد بين أبناء الأمة الواحدة. ومرهونة أيضًا بقدرة الفعل الثوري على توفير مناخ ملائم لتمدد شبكات العمل الخيري خارج الوطن للتفاعل وتتعاون وتستفيد من غيرها وتفيد غيرها. وتبدو علاقة العمل الخيري العابر للقطرية وثيقة الصلة بحالة الحرية واللا توازن الداخلي في كل قطر؛ حتى إنه يمكننا أن نلاحظ علاقة طردية إيجابية بين حرية وانفتاح النظام السياسي في الداخل، وانتشار وفعالية المؤسسات الخيرية في الخارج. وهذا ما نلاحظه مثلا في حالة أفريقيا بوضوح، حيث تنشط مؤسسات العمل الخيري القادمة من البلدان الديمقراطية في أوربا وأمريكا، بينما لا تكاد توجد منظمات تنتنمي إلى البلدان العربي والإسلامية إلا باستثناءات قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.

لا يقبل الإسلام أي مساس بـ(الحرية)؛ لأن أي مساس بها يزلزل إنسانية الإنسان، والإسلام يريد للإنسان أن يكون حرًا كامل الحرية. وتؤكد مبادئ الإسلام وتعاليمه على أن أي إضرار بالحرية يفسد تعبير الإنسان عن ذاته، وأن الإنسان لا يكتمل إلا بالتعبير عن فكره، والتطور الروحي غير ممكن دون اتصال حر بالآخرين، وتبادل الفكر، فلا يجوز تقييد الحرية، ناهيك عن إلغائها بحجة تصحيحها. وهذا هو الجوهر الأصيل لمعنى (العمل الخيري)؛ فالخير والثورة يشربان من نبع (الحرية) الرقراق.

كتاب:

مقاصد الخير وفقه المصلحة - مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية - لندن.