قبل يومين حدَّثتني صديقتي حديثًا فطرَ قلبي، ثمَّ قالت ونبرة الندم تطغى علَى صوتها بأنَّ كلَّ ما حدَّثتنيه مجرَّد قطرة من بحر.

فلا هي كانت ترغب بالحديث عن بحرها، ولا أنا كنت أملك القدرة عن الزيادة فوق القطرة.

كانت «أسمهان» قبل زواجها فتاة تعجُّ بالفرح، وتنبض بالحياة، وما هيَ حتَّى تزوَّجت إذا بوجهها مليء بالهمِّ والشحوب، نحن نتغير ليس مع الوقت فقطْ، أيضًا بترك أشخاص مَا، أو بـمعرفة أشخاصٍ ما.

تزوَّجت برجل لا يمتُّ للرجولة بصلة، حتَّى شوَّه الرجال والزواج في نظرتها، اقتربتُ من قلبها لأخفِّف عنها، فقالت:

ـ يا محمَّد...

لقد سوَّد هذا الرجل حياتي منذ صرتُ امرأته، وما أكثر ما يوجعني ثمَّ يستفسر عن سبب وجعي، إذ كثيرًا ما يسألك الشخصُ الذي جرحكَ، عن الشخصِ الذي جرحكَ.

كنتُ أحترم خصوصياته فلا أتعدَّى عليها رغم غيابه، «أنا أُحب ولا أستعبد» هذا هو شِعاري، لأني أعتبر أنَّ العلاقة الناجحة تكمن فـي احترام الـمسافة بينكَ وبين من تحب، فلا تقترب قُربًا يُبَصِّرُكَ بالعيوب، ولا تبتعد بُعدًا يُعميكَ عن الـمحاسن.

لكنه كان ينقصه الكثير من النضج ليفهم ذلك، صحيح أنه مفتول العضلات بيد أنه كان نحيل العقل، يقضي سحابة يومه مع هاتفه، أما أنا وولديَّ فليس لنا إلاَّ فضلة وقته، وَسائلُ التَّواصل الاجْتماعِي جَعلتِ العَالَـمَ قَريةً صغِيرةً، لكنَّها جعلَت ساكنِي هذهِ القَريَة أبعدَ ممَّا كانَ عليهِ العَالَـمُ منْ قبل.

لـم أرد منه بيتا ذا طوابق، ولا سيارة تُقلِّني إلـى العمل، بل حتَّى عملي منعني منهُ وقد كان شَرطي الوحيد قبل زواجنا، فأخلَّ بالشرط وأضرَّ بالشارط.

لـم أجد تفسيرًا لتصرفاته، ولا عرفتُ لـماذا يعيشُ معي بعقلية أسرته المنغلقة؟

ليس من السعادة أن يعيش الإنسان حياته وفق تقاليد وُرِّثت أبًا عن جدٍّ، السعادة أن نعيش حياتنا وفق ما يُمليه علينا الشَّرع، لا وفق التراث التقليدي، فالتقاليد كثيرًا ما تجعل الأحرار عبيدًا.

وفي كلِّ مرَّة أضعه في طاولة الحوار لأقنعه أنَّ الدِّين لا يأمر الرجل بحبس زوجته في بيت زوجها، يهرف بما لا يعرف.

سألته ذاتَ خصام:

ـ لـما تحتجزني هنا في البيت وأنت تعلم أنني امرأة رساليَّة؟

كالعادة يُجيبني:

ـ لستِ أنتِ أول امرأة تقعد ببيتها، ولا أنا أوَّل رجل أقعد امرأته ببيتها، الجميع في قريتي يفعل ذلك، حقًّا مَا أكبرَ حماقةَ ذلكَ الشَّخصِ الَّذي يفعلُ الـمُنكرات، بحُجَّة أنَّهُ ليسَ الوحيدُ منْ يفعلُهَا.

سألتها والدهشة تملؤني:

ـ لـماذا تزوَّجته؟

فقالت بأسى مطلَّقة:

ـ زُوِّجتُ به لأنَّ أهلي أرادوا ذلك... وأنا أعلم أنه مسلسلٌ مضحكٌ أن تتزوج الفتاة دون أن تضع بصمة فـي زواجها، فالضيوف ضيوفهم، والطقوس طقوسهم، لكأنها ضيف شرف فـي ليلة عرسها!

لـم يكن بيننا علاقة زواج، بل معركة القط والفأر، وفي كلِّ مرَّة أفتح معه حوارًا يُبدئ ويُعيد، تنتهي نقاشاتنا باختلاف أوسع شَقَّة من خندق، فيجنح هو إلـى اليمين وأجنح أنا إلـى اليسار، حاسبًا نفسه أنه تفضَّل عليَّ بزواجه، وأنَّه لولاه لـشابت شعراتي من العنوسة.

ليتني أستطيع أن أُوصلَ رسالتي لكلِّ فتاة:

ـ أن لا يتقدم إليكِ رجلٌ ما لخطبتكِ، هذه ليست مشكلة يُمكن التضايق منها، ربـما أن الأحلام التي لـم تتحقق لنا بعد، ليست جميلة كما نعتقد.

إنَّ الزواج ليس كله خير، ولا التأخير كله شر، ولا بدَّ من حكمة لا نعلمها، خلف تلك الأحلام التـي لـم تتحقق بعد.

رحمَ الله صديقتي ابتهال، سألـتها ذات اعتراف:

ـ لـماذا كنتِ ترفضين الزواج، أوَ لا تخشين أن يفوتك القطار؟

أذكر أنها أجابتني بصوتٍ كله رضَا:

ـ أن يفوتني القطار أفضل من أن يدعسني[2].

ها أنذا الآن أعترف أنَّني لـم أركب قطار الزواج بل دعسني بكل ما يحمله من ثقل وما أملكه من ضعف، حتَّى وددتُ لو عاد بي الزمن للوراء، حيثُ كنتُ أميرة أبي بامتياز، يناقشني ولا يُهملني، يثق بي ولا يُراقبني، علَى الأب أن يكون حاضرًا فـي ذهنِ ابنته، وليس موجودًا عند باب الـمدرسة؛ لأن المراقبة المفرطة قد تقود لانحلال الأخلاق.

ليت أبي يُدرك أنَّ أمانته قد ضُيِّعت، وتحوَّلت الأميرة إلـى أسيرة، وحلَّ الإذلال مكان الدَّلال.

اختارني ذاتَ دِين لتَرْبِتَ يَداه[3]، ولـم يسأل نفسه لـمرة واحدة:

ـ هل تربتْ يدايَ أنا أيضًا أم تكفي يداه الشريفتان فحسب؟

كان لا يحبُّ إلاَّ نفسه، يذمني عندما أُقصِّر ولا يُثني عليَّ عندما أُبدع، لا يُبصر الأطباق التي غسلتها، ولا الثياب التي كويتها، ولا الأفرشة التي نظَّفتها، ولا الوجبات التي حضَّرتها... لكنه يُبصر الشَّعرة في العجين حينما أُخطئ، ولا بدَّ من الخطأ، فأنا لستُ مَلَكًا أو نبيًّا.

كان أغلظ كبدًا من الجمل، يُخطئ هو وأنا من تعتذر في النهاية، وليتني حينما أعتذر يقبل اعتذاري قبولاً حسنًا.

إنْ كانت المناسبة في أهله شمَّر علَى ساعديه، وإن كانت في أهلي اسودَّ وجه فهو كظيم[4]، ومنْ لـمَّا منعني من صلة رحمي احتبسَ عليَّ خبرهم، فلا عدتُ أعرف عنهم إلاَّ أنهم علَى قيد الـحياة.

ذات مرة أوصيته في الله:

ـ «صلْ أرحامكَ، زُر أصدقاءكَ، تفَقَّدهم قبلَ أنْ تفْقِدهم»، لكنه يأبى سماعي كأن في أذنيه وقرَا[5]، يُريد لَـيَّ عُنقي في كلِّ مرَّة أُصوِّب فيها أخطاءه، يحسبُ أنَّ الصواب ذُكوري والطاعة أُنثوية.

ليوم واحدٍ لـم أحسهُ زوجًا لـي، الزواج هو عِشرة بالمعروف وليس مجرَّد عِشرة جنسية تبدأ بتلاقح عضوين وتنتهي بانتفاخ البطن.

تبًّا لكل رجل يرى فـي الـمرأة مواصفات الزبونة.

لـم أجد فيه المودة والرحمة، وإذا قال كلمته فلن يتراجع عنها، مهما ترجَّيته فلا يزداد إلاَّ تعنُّتا ليختم نقاشنا بجملته الشهيرة: «أنا الرجل، وكلمتي لن تسقط أرضًا».

يقولها كأن رفعة الكلمة مقتصرة علَى الرجال فحسب، أما النساء فلتسقط كلمتهنَّ، ولا شِيَة[6] في الأمرِ.

يعرف عني الكثير ولا أعرف عنه إلاَّ ما يعرف الكثير عنه، راتبه ـ وهذا أضعف الإيمان ـ لا أعرفه، لأنه كان أحرص من البخيل، يحسبُ أنَّ مالهُ يحول دون وفاته، ولا يدر أنَّ المال ظل زائل وأمر حائل، وعارية مُسترجعة.

ما أكثر اللَّيالي التي لـم يغمض لـي فيها جفنٌ ويبيتها هو في شخيره[7]، نسيَ مُؤازرتي ومُصابرتي له، ما أشدَّ أن يأتيك الوجع ممَّن كنتَ تُخفِّف أوجاعه.

عشتُ معه فشلَ الزواج بنجاح، وكان كلُّ ما عشته تحت الوضع الصامت، وما أكثر ما حاول من حولـي معرفة ما يحدث بحياتي إلاَّ أنني لـم أُفْضِ بسرِّي لواحد منهم.

أؤمن أنَّ تعارك الفئران فوق السقف من حسن حظِّ القط، ولن أكون فأرةً لهم.

كنتُ دائمًا أنزف بهدوء، ولا أحد لديه فكرة عن حروبي الضَّروس[8] غيري؛ لأنني أرفضُ أن أتحدث عن مشاكلي بصوتٍ عالٍ، وتفاديًا لآلام الكثيرين من حولي، أُحبُّ أن تكون أحزانـي سرية كي لا أُضايقهم.

أُدرك أنَّ بيني وبينه ميثاق غليظ[9]، والزواج ينبغي أن يكون أقوى من أخطائه، تزوَّجته تعبُّدًا لله، فضاجعني الهمُّ من ليلة دُخلته بـي، ضجوج يُملُّ سماعه، إذا دخل الـمسكن خرج السَّكَن، بعد زواجنا اقتنعت أنه من السهل أن يجد الرجل امرأة تُسعده، لكن يصعب علَى الـمرأة أن تجد رجلاً يُسعدها.

بعد أنْ كنت أميرة أبي، ها أنا الآن قد طمستُ رأسي في الرمال بسببه، ها أنا ذا الآن قتيلة الرجل الذي أرادني زوجته حتَّى كاد يقتل لأجلي.

أذكر أنه أوَّل مرَّة تقدَّم فيها إلـى طلب يدي، ضَبَّ عليَّ فلم يعد يرى سوايَ.

كان أبي من الرجال القلائل الذين يُحبُّون الإناث، لـم يحدث ليوم أن خدش شعور أمي بكلمة نابية، ولكنَّ زوجي لـم يحفظ أمانة أبي بجعلي أميرة كما كان يراني أبي.

تزوَّجت برجل له وجهٌ يردُّ الرزق، كيفَ قبلت به لا أدري؟ فما أكثر ما تُجيد الـمرأة الطبخ والخياطة وصنع الحلويات والطب والتدريس... إلاَّ أنها لا تُجيد اختيار زوجها.

أيقنتُ الآن أنه من الخطأ تكوين العلاقات دون غربلة.

ذات وصاية من حماتي قالت لـي:

ـ «لـن تدخلي الجنة حتَّى تُطيعين زوجكِ في كلِّ صغيرة وكبيرة».

لكني كنتُ أتساءل بيني وبين نفسي:

ـ كيف أدخل الجنة بطاعته، وهو يعصي الله فِيَّ؟

يمنعني من صلة رحمي ثم يكون سبب دخولي الجنة، إنه لأمر عجيب!

هل حقًّا أنا حُرة ـ إن كنتُ أنا وكلَّ ما أملك ـ ملكًا لزوجي؟

عذرًا رسول الله، إنهم يُطـبِّقون سُنَّتكَ فيما يَخدم الرجال ويُخدِم النساء.

عذرًا رسول الله، إنهم يكذبون عليك لنُصدِّقهم، فنُطيعهم علَى حساب ما لا يُرضيكَ.

عذرًا رسول الله، فالزواج بيننا يجري وفق الطقوس المتعارف عليها، وليس علَى شرع الله وسُنَّتكَ.

عذرًا رسول الله، فالرجل الذي أوصيته بنا خيرًا، حبسني عن أهلي فبات الأقرباء لي غرباء عني، حتَّى أنَّ أبي مات قبل أن أردَّ بعضًا من دَيْنه الذي علَى رقبتي، ليتني استطعت أن أقول لأبي أنني لـم أعد أميرة عند زوجي كما كان يُلقِّبني طول حياته.

عذرًا رسول الله، فالرجل الذي أوصيته أن يظفر بذات الدين لتَرْبتَ يداه، جعلني تُرابًا تحت رجليه.

وأنا أسمعها أدركتُ أنَّ الرجال الحقيقيون لا يظهرون مع الرجال دائمًا، بل مع النساء أيضًا، وليس برجل من يكون رجلاً مع الرجال رجلاً علَى النساء.

[1] جارية: كلمة تقليدية قديمة، تُستخدم للإشارة للعبيد من الإناث، عبر السَلب والنهب في الحروب، أو من قبل قطاع الطرق، أو من وُلدت لأَمة وعبدٍ مملوك. تكون مملوكة لسيدها الذي اشتراها، ويحق له بيعها أو مُضاجعتها، أو استخدامها في أعمال البيت ونحوها، لا يحق لها أن ترث ولا أن تمتلك، إذ كل ما تمتلكه يعود لسيِّدها، أما قيمتها في الديَّة فبنصف قيمة الحر. وقد يُعنى بالجارية:الخليلة أو العشيقة للرجل الثري.

[2] يخطئ الكثير من الناس فيقولون: «دهسته السيارة»، والصواب: «دعَسته»؛ لأن دهَسَ ـ بفتح الهاء ـ لا أصل لها في العربية، وإنما هناك دهِسَ ـ بكسر الهاء ـ بمعنى صار سهلاً ومنه "دهاسة الخُلُق" أي دماثته، وإنما الصواب أن يُقال دعَسته أي داسته ووطئت عليه.

[3] هناك فرقٌ بين «تربت يداكَ» والتي تعني التصقت يداكَ بالتراب حتى لا تجد إلاَّ ترابًا من القلَّة، ومنه قوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}، وبين قولهم: «أتربت يداكَ» والتي تعني اغتنى حتى صار ماله كالتراب من الكثرة.

ونظيره قولهم: «شفاكَ الله» فهو دعاء له بالشفاء، وأمَّا لو قلتَ له: «أشفاكَ الله» فهو دعاء عليه بالمرض، قال ابن عثيمين: «وهذا ممّا يدلُّ علَى عمق اللغة العربية، أنْ يكون الحرف الواحد في الكلمة يَقلِب معناها رأسًا علَى عقب».

والمتأمِّل في: «تربت يداكَ» يرى أنَّ ظاهرها الدعاءُ علَى الشخص بالفقر، والنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لـم يتعمَّد الدعاء عليه بالفقر، ولكنها كلمة جارية علَى ألسن العرب، إذْ كثيرًا ما ترد للعرب ألفاظٌ ظاهرها الذم وهم يريدون بها المدح، كقولهم: «قاتله الله ما أشعره»، وهم لا يقصدون الدعاء عليه بل يستعظمون شعره، أو «ثكلتكَ أمّكَ يا معاذ»، أو «لا أبَ لكَ»، و«لا أمَّ لكَ».

وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول لبعض الصحابة: «تربَ جبينه» دعاءً له بكثرة السجود.

[4] الكظيم:هو المهموم من شدة الحزن، { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى علَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} «يوسف:84».

[5] وَقَرَتْ أذنه:أي صُمَّت، وقره الله:ذهب بسمعه.

[6] الشيَّة: هي كلُّ ما خالف اللون في جميع الجسد، وفي جميع الدواب، قال تعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا}.

[7] الشخير: هو الصوت الذي يصدره النائم، يحدث نتيجة صعوبة التنفس أثناء النوم لضيق الممرات التنفسية، يقول الباحثون: الشخير هو أحد عوامل الحرمان من النوم.

بالإضافة إلـى الشعور بالنعاس خلال النهار، التهيج، نقص التركيز، وانخفاض الشبق، وهناك علاقة طردية بين الشخير المرتفع وخطر الإصابة بالنوبة القلبية، وهناك دراسة بريطانية كشفت أن الشخير يعتبر أحد أسباب ارتفاع ضغط الدم.

يُنصح المشخرين بإنقاص الوزن، وإيقاف التدخين، والنوم علَى الجانب، واستعمال بخاخات الأنف.

[8] حرب ضروس: أي طاحنة، ويقال ناقة ضَروس: أي سيِّئة الخُلق تعضُّ حالبها، أو من يقرب من ولدها.

[9] الميثاق الغليظ الذي أخذه النساء علَى الرجال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وقد كان في عقد المسلمين عند إنكاحهم: «الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحنَّ بإحسان»، قال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}.