في تلك الليلة عندما كُفن أبى ووارى جسده التراب، لم أكن صادقة تماماً عندما صرخت فيمن حولي أن يتركوني وشأني ولكنهم ورغم ذلك ظلوا معي، لم أعرف من هم ولا أتذكر ملامحهم الآن كل ما أؤمن به هو أنها كانت قلوب صادقة ومحبة فعلاً وأني ممتنة لهم حقاً.

كان قبلها بدقائق يطلب مني كوباً من الشاي الذي لم تكن مياهه قد غلت بعد ، عندما قال لي مازحاً "سيمت عطشاً من يطلب منكِ كوباً من الماء"، ثم ذهب ببساطته المعهودة..تمدد ومات.

وقع الحدث كان أكبر من قدرتي على التحمل، ولقد ظللت أياماً أراه رؤيا العين في الحلم ولم يرتح قلبي قليلاً حتى رأيته يشرب كوب الشاي على ضفاف نهر رقراق وهو يرتدي ملابس الإحرام.

"الموت يختار ببراعة .. يختار الأفضل والأنبل والأشجع " أحمد خالد توفيق - من أجل طروادة

كنت أحكي لأحدى صديقاتي الأثيرات عن تجاربي الشخصية مع فقد الأحبة فقلت لها أن الألم الذي يشعر به المرء عند موت عزيز يشبه إلى حد كبير ما نشعر به عند فقد صداقة أحد المقربين، فرغم اختلاف التجربتين إلا إن المشاعر واحدة والاحساس بالألم متماثل في الحالتين، الفرق الوحيد في امتزاج الحزن ببعض الغضب أحياناً في الحالة الثانية ، وإن كان مما قد يخفف أثره في القلوب أن فقد الصداقة في كثير من الأحيان يكون اختيارياً بل ومتوقعاً ولكن الناس تختار التجاهل وإهمال العلامات التي تؤدي له، حتى تموت العلاقة، ولذلك أؤمن أن في فقد الحياة، الناس يختارها الموت أما في فقد الصداقة فالناس تختار الموت.

"ما ينتهي ببطء لا يعود بسرعة.. لا يعود أبدًا" أحمد خالد توفيق- قصاصات قابلة للحرق 

لا تعد الحياة أبداً لما كانت عليه بعد فقد الأحباب، يصبح الشخص قليل الكلام والنشاط منعزل وغير قادر على التواصل بعد أن كان مفعم بالحياة والحركة، يظل يقاوم لأيام وشهور وربما سنين ثم يستسلم للتغيير ويؤمن أنه دائم ومستمر وليس مؤقت وعابر. تجربة يعرفها كل من مر بتجارب مماثلة وهم كُثر ، انك تفقد جزء من ذاتك مع فقد من تحب، جزء كبير من أحساسك بالأمان والطمائنينة خاصة إذا ما كان هذا الفقيد منبع لهما وسند لك، ويظل الشعور مؤلم حتى بعد مرور السنوات ويترك في القلب غصة كلما مرت بخاطرك الذكريات جميلة كانت أم حزينة، وعندما تبدأ حياتك أخيراً بالتحرك للأمام، تستميت في الدخول في علاقات لا تتوقف كثيراً عند مدى تكافئها أو اختلافها أو العقبات التي تواجهها، فلا تلبث أن تجرح وتتألم ومن ثَم تختبر مرة اخرى شعور الفقد الممتزج -هذه المرة- باللوم لذاتك أحياناً لأنك رأيت المقدمات ولم تتوقف عندها كثيراً.

" اكتشفت أن ثمة أشياء يمكن أن تفقدها إلى الأبد، علمت بأن هناك مكاناً يدعى بعيد، وأن العالم واسع ومدينتها صغيرة وأن أهم الأشخاص يذهبون دوماً في النهاية" باولو كويلو - أحدى عشر دقيقة

فاجئت ابنتي الحبيبة الصغيرة في عيد ميلادها بقطة كبيرة برتقالية اللون ذات عيون واسعة جميلة، لمعرفتي بأنها تعشق القطط ، وتوقعت منها فرحة عارمة وحماس تجاه ما ظننته هديتها المفضلة، ولقد صُدمت عندما أتتني ترتجف وتخبرني أنها لا تريدها وعندما سألتها لماذا،قالت لي " أخشى ألا استطيع رعايتها"، تعجبت من مدى حساسية الصغيرة وإدراكها لما يحتاجه الحب من رعاية واهتمام ، إدراك لا يصل له الكبار إلا بعد العديد من التجارب المؤلمة والكثير من الفشل، وتذكرت حينها جدالاً أثارته أحد التغريدات حول ما يسمى الحب غير المشروط والذي رفضته قائلةً "أن الحب مشروط في كل حالاته ، مشروط بالمودة والاهتمام ، كما أنه مشروط بالاحترام والرعاية والكلمة الطيبة أما الاهمال والقسوة وعدم مراعاة المشاعر لا يصح أن نسميه حباً فضلاً أن يكون حب غير مشروط ، بل تصبح العلاقة حينها علاقة مريضة قد تُعرف بأنها مصلحة متبادلة وتمضية وقت أو هي مجرد خيالات وأوهام لا ترتقي لكونها حقيقة..

"لم أسمعه مرة يكلمها عن الحب و لا سمعتها هى تتكلم عنه،و لكنها حين كانت تسانده على أن يلبس جلبابه، حين تسند ظهره لتسقيه،حين تدلك له ذراعه و قدميه بأصابعها،كانت هذه الأصابع تنطق شيئا يتجاوز الحب ذاته " بهاء طاهر - أنا الملك جئت

عندما قابلت صديقتي المقربة في أحد أيامها الحزينة سألتني مترددة" لماذا تعطينا العلاقات العميقة قدراً عظيماً من الألم لا نستطيع تحمله ؟" رددت مبتسمة " لأنها عميقة، ما تحتفظ به على السطح لا يؤذيك" قالت " أحب الإنسان بكل تعقيداته بحلوه ومره واحتمل في سبيل ذلك الكثير" قلت لها " أما أنا فاحتفظ بنفسي داخل فقاعة أخشى الأذى الناتج عن الحب بنفس القدر الذي أخشى به الألم الناتج عن الموت فالأثنين عندي إحساس واحد" أقولها بعفوية وأنا أرنو لها بحب ودون أن تدرك أني سمحت لها أن تقتحم مساحة أماني الشخصي.

في حين يختار بعض الناس العيش في هذه الدنيا بجرأة وإقدام تعينهم على توقع واحتمال ما قد يلاقوه فيها من ألم وفقد، يتحسس البعض موضع أقدامه حتى النهاية ليعبر جسر الحياة بسلام تاركاً الوجع خلفه ومستبشراً بأمان أبدي لا يعرف خوفاً ولا حرصاً ، لا يؤذي فيه أحد ولا يؤذى من أحد وجل ما يتمناه أن يكون ممن قال فيهم الشاعر :

سلاماً على الّذين إذا مرّوا على قُلوبنا مرُّوا خفافاً، فلَم يجرحُوا، ولم يطعنُوا، ولَم يتركُوا آثار أقدامِهم عالِقة، ولم يورثُـونا حسرةً أو ندامة