الطالب: توفيق قاسمي

                                                                         (المعهد الأعلى لأصول الدين- مرحلة الدكتوراه)

يندرج موقف طه عبد الرحمان،([1]) من قراءات الحداثيين المسلمين للنص القرآني، ضمن موقف شمولي من الحداثة الغربية بصفة عامة، التي استبدلت المقدس الديني بمقدس علمي؛ تجسده "النزعة العلموية"، من حيث هي نزعة مغرقة في الإيمان بالعلم والمنفعة، ورافضة للتوجهات الأخلاقية غير النفعية. ولم يستند الحداثيون في محاولاتهم التأويلية إلى مرجعية واحدة، بل استمد كل منهم مرجعيته بحسب اختصاصه المعرفي ووفقا لتكوينه الثقافي والتاريخي. ويمكن اعتبار المرجعية الفلسفية أحد المرجعيات المؤثرة في تمثل المسلمين للنصّ القرآني، لأنها تجلت مع عدة قراءات، يذكر منهم طه عبد الرحمان في كتابه "روح الحداثة" محمد أركون([2]). يقول طه عبد الرحمان: "إذا تقرّر أن الوجه الذي تحقق به قراءة القرآن حداثَتِيَتها هو أن تكون قراءة انتقادية، لا اعتقادية، فقد وجدت بين أظهرنا محاولات لقراءة بعض الآيات القرآنية على هذا المقتضى الانتقادي؛ ونذكر منها، على وجه الخصوص، قراءة "محمد أركون"."([3]) أي أن منهج أركون في قراءة القرآن قائم على نظرة تأويلية نقدية للنص القرآني.

يصبح تأويل أركون للقرآن واضحا بتحديد معاني التأويل، ومن الضروري العودة إلى هذا المعنى كما نحته القدامى. فقد ورد في لسان العرب أن التأويل لغة من جذر "أول": "الأول هو الرجوع  وآل الشي‏ء، يؤول أولا ومآلا رجع. وآل إليه الشي‏ء رجعه... وأول الكلام تأويلا وتأوله دبره وقدره وفسره"([4]). وقال الزركشي: "وكان السبب في اصطلاح كثير على التفرقة بين التفسير والتأويل: التمييز بين المنقول والمستنبط، ليحل على الاعتماد في المنقول، وعلى النظر في المستنبط."([5]) ويبدو واضحا، أن التأويل مع القدامى لا يكون إلا في علاقة بالقرآن والسنة، أما معنى التأويل كما يتبناه الحداثيون، بما فيهم محمد أركون، فمصادره مغايرة تماما؛ إذ ينطلقون من "الهرمونتيقا"([6])، كما تأسست في الفلسفات الغربية، التي ترى أن المفسر حرّ في التأويل، فهي تنطلق من مقولتين؛ أولهما "موت الكاتب"، وثانيهما "النص منظومة رموز"، وتصبح العلاقة التأويلية ثنائية: قارئ ونصّ وليست ثلاثية: نص وكاتب وقارئ ([7]). ومعنى ذلك أن التأويلية إقرار بقدرة التأويل على التحول بالنص من الوحدة إلى الكثرة. إذ ينطلق القرّاء من نفس النص، ولكنهم يبلغون معاني مختلفة، وكثيرا ما تكون متناقضة ([8]). وهذا التصور مناقض تماما للمناهج التفسيرية التي سبق للمسلمين اعتمادها، التي تفترض في المفسِّر شروطا، وفي التفسير قواعد.

من ثمة لا غرابة أن يكون تصور محمد أركون عن القرآن تصورا فلسفيا من حيث المناهج، وغربيا من حيث الروح، لأن أركون  متمرس بالفكر الفلسفي، خاصة ما أنتجه فلاسفة الغرب المعاصرون؛ مما يؤكد العلاقة بين التكوين الثقافي للقارئ ومحددات النظر للنصّ القرآني. لهذا نجد طه عبد الرحمان يكثر من ذكر محمد أركون في الفصل الرابع من كتابه([9])، وهو ينقد عمليات تقليد الغربيين في طرق تعاملهم مع نصوصهم الدينية وتطبيق ذلك على القرآن؛ فالقراءات الحداثية تاريخية ومرتبطة بالواقع الذي يعيشه القارئ الحداثي، وهذا ما يمكن توضيحه من خلال عرض الطرق المنهجية التي اعتمدها محمد أركون في قراءته للقرآن. وقد اهتمت الكثير من الدراسات، على ما فيها من تنوع، بمختلف القضايا التي انشغل بها أركون طيلة مسيرته العلمية، بما فيها الحديث عن قراءته للقرآن([10]). ولذلك سيتم تقسيم هذا البحث إلى ثلاثة عناصر: يهتم العنصر الأول بعرض منهجه في تأويل القرآن الذي يسمى"المنهج التفكيكي"، ثم في العنصر الثاني تقديم تطبيقات أركون لمنهجيتة التفكيكية من خلال نموذجين قرآنيين (سورة الفاتحة وسورة الكهف)، وأخيرا بيان نقائص هذا التوجه ومبررات نقده وتجاوزه.

 1-  منهج أركون في تأويل القرآن:

يقدم محمد أركون وجهة نظر تقوم على أسس سوسيولوجية، مناهج علم الاجتماع والدراسات الإنسانية والبنيوية والسيميائية والانتروبولوجيا وغيرها... ونشر ذلك في كتاب "القرآن من التّفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدّيني"، الذي أعاد فيه قراءة لسانية لسورتي الفاتحة والكهف، وقد بيّن في مقدّمة هذا الكتاب الغاية من الدّراسة وفق هذه المناهج وهي :"تحليل الخطاب الدّيني أو تفكيكه لتقديم معانيه الصّحيحة وإبطال التّفاسير الموروثة، بل لإبراز الصّفات اللّسانية اللّغوية وآلات العرض والاستقلال والإقناع والتّبليغ والمقاصد المعنوية الخاصّة بما أسميته الخطاب النّبوي(°)."([11])  وينطلق من ملاحظتين:

 الأولى؛ تعاني الدّراسات القرآنية من تأخّر بالقياس إلى الدّراسات التّوراتية والإنجيلية، فتطبيق المنهجية ذاتها على القرآن لا يزال حديث العهد ولولا وجود كبار المستشرقين لكانت معدومة تمامًا.([12])

الثانية؛ تخص المنهجية السائدة في تعامل المسلمين مع القرآن، الذين يتعاملون، في نظره، مع القرآن دون تفكير أو تفحص؛([13]) ويتجنبون من الناحية المنهجية، كل معالجة تاريخية للتراث الإسلامي، والحال أن أول خطوة لتحديث الفكر الإسلامي هو اعتبار القرآن نصّاً غنيا ومنفتحا على عدة احتمالات.([14]) إذ يرى أركون أن المسلم المحافظ يرفض تطبيق المنهج التّاريخي على القرآن وعلى التّراث الإسلامي،([15]) فالحركات الأصولية تضغط دائمًا "بالمحرّمات"على الدّراسات القرآنية وتمنع الاقتراب منها أكثر ممّا يجب، في الوقت الذي سهّل على المستشرقين في المرحلة سابقة أن ينتهكوا هذه "الحرمات"أكثر ممّا يسهّل علينا اليوم، لأنّ العقل العلمي كان في أوج انتصاره، وكان مدعومًا من قبل الهيمنة الاستعمارية التي رافقته :"هكذا نجد أنّ المعركة التي جرت من أجل تقديم طبعة نقدية محقّقة عن النّص القرآني لم يعد الباحثون يواصلونها اليوم بنفس الجرأة كما كان عليه الحال في زمن نولدكه الألماني أو بلاشير الفرنسي."([16])

وتعد معالجة أركون للنص القرآني محاولة تأويلية ذات خصوصية إذ :"لأول مرة يطبق أحد الباحثين بعض المنهجيات الحديثة كعلوم الألسنيات والسيميائيات والمنهجية البنيوية على النصّ القرآني، بغرض الكشف عن البنية اللغوية لهذا النص،وشبكة التوصيل المعنوية والدلالة التي ينبني عليها."([17]) وقد حدد محمد أركون الوظيفة الأساسية للوحي تحديدا لم يكن مطروحا من قبل في الثقافة الإسلامية، وتوصل إليه من خلال خصوصية القرآن وهي الخصوصية اللغوية-الثقافية. ويعتقد أن اللغة بنيات مستقرة ومتغيرة في نفس الوقت، حيث أنها في تركيبتها وصياغتها تتعلق بالفكر. لذلك ألح على العلاقة الثلاثية الدائرية التفاعلية بين اللغة والفكر والتاريخ، ويقصد بذلك أن اللغة العربية هي كسائر اللغات لها تاريخها الفكري ومنظومتها الخاصة التي تحتاج إلى تطوير وتجديد ينطلق من منح هذه اللغة تاريخيتها. ويهتم أركون بشكل خاص بعملية التأصيل والمقصود بذلك البحث عن أقوم الطرق الاستدلالية والوسائل للربط بين الأحكام الشرعية والأصول التي تتفرع عنها.([18]) وانشغل بمعالجة الخصوصيات الثقافية، بما يبرر اعتماد الأنتروبولوجيا وما تتيحه من تحليل للمنظومات التفسيرية للعالم مثل الأسطورة، ومثل هذه التحليلات تمكن القارئ الحديث من فهم جديد للنص يمكنه من بناء وعي تاريخي.([19]) وإذا استمر الفكر زمنا طويلا وهو يكتفي بترديد ما تسمح به اللغة والعقيدة، فانه يتضخم ويتراكم، ويسيطر على العقل، ويصبح مفهوم التأصيل العودة إلى الماضي والأصول الأولى، وضد منطق التطور التاريخي.

يدعو أركون في قراءته التأويلية إلى "الإسلاميات التطبيقية" وهي دراسة النصّ القرآني أولا، والنصوص التفسيرية ثانيا بعد ذلك على أساس منهج تفكيكي؛ وكان ذلك بتأثير من دراسته في "مدرسة الآباء البيض" في الجزائر ثم تطوير هذه الدراسات في الجامعات الفرنسية لاحقا.([20]) فالدراسات القرآنية والتراثية لا يمكن أن تظل قابعة داخل أنظمة قروسطية،([21]) فلا بد من استعمال اللسانيات الحديثة التي تطرح أسئلة لم تُطرح مع اللغويات التقليدية التي استخدمها كبار المفسرين في العصور السابقة.([22]) كما يطبق أركون المنهج ألألسني النقدي في قراءة القرآن، ويسحبه على الدراسات الإستشراقية، قديمها وحديثها. من هنا، كانت المنهجيات التي اهتمت بالظاهرة القرآنية ثلاثة منهجيات، يبحث عن مكامن القصور فيها ويدل ويبشر بالدراسة الجديدة التي يراها موفية بالمعايير العلمية:

أ- القراءة الإيمانية:

يقصد أركون بالقراءة الإيمانية، أو اللاهوتية، كل التراث التفسيري الذي خلفه المسلمون، وكل ما دوّن عن القرآن، قديما وحديثا. وبعبارة أخرى، هو كل تعامل مع القرآن يرسخ الإيمان ويثبته في نفوس المؤمنين. وتتميز هذه القراءة بخاصيتين ملازمتين لها؛ الأولى- كل أنماط القراءات والاستخدام الإيماني للقرآن مسجونة داخل السياج الدوغمائي المغلق. والثانية- تمارس كبريات التفاسير دورها كنصوص تفسيرية مستقيمة وصحيحة؛ فتفسير ضخم مثل "تفسير الطبري" لم يدرس الدراسة العلمية اللائقة به، ويتم التعامل معه بضرب من التقديس. وتستند هذه القراءة الإيمانية، إلى مبادئ/مسلمات لاهوتية يصعب مناقشتها من قبل جميع المسلمين أو وضعها موضع التشكيك. وتتمثل هذه المبادئ في: ([23] ) أولا- "كان الله قد بلغ مشيئته للجنس البشري عبر الأنبياء." و"إن الوحي الذي قدم في القرآن من خلال محمد هو آخر وحي." والوحي المتجلي في القرآن شامل وكامل ويلبي كل حاجات المؤمنين ويجيب على تساؤلاتهم. و"إن جمع القرآن في نسخة مكتوبة ومحفوظة مادية بين دفتي كتاب يدعى المصحف يمثل عملية دقيقة وحرجة." و"إن الوحي القرآني يمثل الشرع الذي أمر الله المؤمنين باتباعه بحذافيره." ومن هذه المبادئ يكتشف أركون وجود تعايش بين مستويين من مستويات الوحي اللذين يخلط بينهما: كلام إلهي، أزلي، لا- نهائي، محفوظ في اللوح المحفوظ، ووحي منزل على الأرض بصفته الجزء المتجلي ، والمرئي، والممكن التعبير لغويا، والممكن قراءته. وهذا الأخير هو الذي خضع لعملية التسجيل والتقديس "بواسطة عدد من الشعائر والطقوس، والتلاعبات الفكرية الاستدلالية"، ومناهج التفسير.([24] )

إن التفسير الإيماني منغلق داخل السياج الدوغمائي، ولذلك يدعو إلى تفكيك هذه المسلمات التي تنسج القراءة الإيمانية. ويقصد أركون بالتفكيك :"الحفر على أساساتها على طريقة المنهجية الجنيالوجية ومن خلال المنظور الذي بلوره نيتشه لنقد القيمة. فعن طريق هذه المنهجية نستطيع أن نكشف عن الوظائف النفسية لهذه العقائد الإيمانية وعن الدور الحاسم الذي تلعبه في تشكيل تركيبة كل ذات بشرية."([25]) ولا يستخدم أركون في كتاباته عبارات التعظيم، فهو يقول: "جاء في القرآن"، "تقول الآية"، لأن كلمات :"الله، والوظيفة النبوية، والكلام الموحى والكاشف، والمقدس، والثواب، والصلاة، وتسليم النفس إلى الله، الخ… كل ذلك ينبغي أن يتخذ كمادة للتفحص التاريخي النقدي. وينبغي على المؤمنين أن يقبلوا بذلك".([26]) فهذه القراءة لا تخدم القرآن ولا الفكر الإسلامي، بل يرى ضرورة خدمة الفكر الديني من قبل باحثين مستقلين، عوض المجادلين أصحاب الغايات السياسية والاجتماعية.

ب- القراءة التاريخية الأنتربولوجية:

لا يميز أركون في هذه القراءة بين الباحثين المسلمين وبين الباحثين الأوربيين، وإن كان مقصده من هذه القراءة الباحثين الغربيين.([27]) ويلاحظ أركون أن كتابات المحدثين، غربيون ومسلمون، اهتمت بالاستعادة النقدية للتراث الديني أو الثقافي أو كليهما، لم يعرفوا كيف يزحزحون المناقشة من أرضيتها السابقة نحو دراسة تمهيدية للأطر الاجتماعية والثقافية السائدة والخاصة بالمعرفة خلال القرنين الأول والثاني للهجرة. ويلح على ضرورة استعادة دراسة كل التاريخ الثقافي للمجال العربي والإسلامي، ضمن المنظور المزدوج للتنافس بين العاملين الشفهي/ والكتابي، والأسطوري/ والعقلاني، والغريب الساحر/ والمحسوس الواقعي، والمقدس/ والدنيوي الأرضي؛ ويؤكد أركون، أن للتراث بعدين كانت المقاربة التيولوجية الدوغمائية قد قللت من أهميتهما وشوهتهما، وهما:([28] ) أولا– تاريخية كل العمليات الثقافية التي يندمج الكتاب المقدس بواسطتها داخل الجسد الاجتماعي. وثانيا– سوسيولوجيا التلقي، وهي الكيفية التي تتلقى بها الفئات الاجتماعية أو الإثنية المختلفة التراث، وهذا التلقي مكمل لمفهوم التاريخية.

يرى أركون أن النقد التاريخي الذي يطبقه عالم الفيلولوجيا، المستشرق، على التراث خطوة لا بد منها، لكنه غير كاف. لذا ينبغي ":تعميقه عن طريق التحليل الأنتربولوجي من أجل إحداث التطابق بين المادة العلمية المدروسة ومضامين التراث المعاشة من جهة، وبين الفعالية النفسية والتشكيلة البسيكولوجية العميقة للذات الجماعية الأخرى"،([29] ) فهذه الرؤية هي الكفيلة بإعادة النظر في التراث، والإجابة عن الأسئلة: عن التراث الذي يميل إلى الانطواء قصد إعادة التفكير فيه، وأنواع البتر التي ألحقها هذا التراث الأرثوذكسي بنفسه من جراء حذفه لكل المدارس التي اعتبرت منحرفة،لأن: "الأرثوذكسية الإسلامية تضغط دائما بالمحرمات على الدراسة القرآنية وتمنع الاقتراب منها أكثر مما يجب."([30])

ج- القراءة الألسنية والسيميائية النقدية:

إن القراءتين التيولوجية الإيمانية والتاريخوية الإستشراقية تعانيان من ثغرات كبيرة، فهما في نظر أركون غارقتان في دائرة اللامفكر فيه. كما أن المعايير المطبقة في المجالين لا تنسجم مع المناهج اللغوية والنقدية والأدبية الحديثة. من هنا يقترح أركون منهجية جديدة في قراءة النص القرآني باستخدام المعارف اللغوية والسيميائية والنقدية.([31])

وينبه أركون إلى أن هذه المناهج تهتم بالسمات وبالوظائف المميزة للقرآن، بصفتها أساليب لتوليد الدلالة لا تزال تنتظر تحديد مكانتها المعرفية ضمن مقاربة شاملة تهتم بكل ما ينتج الدلالة.([32]) ويوضح أن الزحزحة التي أحدثتها البحوث السيميائية والألسنية المعاصرة مكتسبات هامة. ولا يخفي أركون قلقه من قلة الأبحاث السيميائية على القرآن، باستثناء محاولة نصر حامد أبو زيد التي لا تشفي غليله، رغم كونه أول باحث مسلم يكتب بالعربية بادر إلى تطبيق الألسنيات الحديثة على النص القرآني وقد أكد أركون على مدى اتساع اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه.([33] )

يفرض التحليل السيميائي في نظره، على الدارس، ممارسة تمرين من النقاء العقلي والفكري لا بد منه؛ ويتحدد هذا التمرين بمهمتين: الأولى- أن يتزود بتكوين علمي ويحيط بالأرضية المفهومية الخاصة باللسانيات والسيميائيات الحديثة مع ما يصاحبها من أطر التفكير والنقد الإبستمولوجي. والثانية- أن يتدرب على التمييز بين الاحتجاج والإدراك والتأويل والتفسير الذي يتم في الإطار المعرفي الدوغمائي وبين التحليل والتفكيك للخطاب الديني. فهذان شيئان مختلفان.([34] ) ولذلك دعا أركون إلى تطبيق قواعد النقد، التي يسميها النقد الأعلى والنقد الأدنى، على القرآن؛ وهي قواعد قابلة للتطبيق على النص البشري. ويتضمن تطبيق هذه القواعد على القرآن الاقرار بإنه كتاب من تأليف بشري. ولذلك كانت هذه القراءة قائمة على: "نزع الثقة بمصدر الدين."([35])؛ ومن هذه القواعد:

*- لا بد للباحث أن يستخدم قاعدة الشك المنهجي، فلا يجزم بشيء يتعلق بالراوي إلا بعد التثبت.([36])

*- دراسة البيئات السياسية والاجتماعية والأحداث التاريخية، ومدى انعكاسها على النص.([37])

*- البحث في كيفية جمع النص أولاً وما الأيدي التي تناولته، وما النسخ التي اشتمل عليها ؟([38])

*- تحليل النصّ إلى أجزاء وإدراك كل جزء على حدة، دون أخذه في كليته.([39])

*- التحليل الداخلي الدقيق للنص للعثور على الأخطاء والاختلافات والتناقضات.([40])

*-  ملاحظة تطور الفكر العقدي من عصر إلى آخر، لاكتشاف اختلاف تواريخ كتابة أجزاء النص.([41])

2- تطبيقات منهجية على سورتين من القرآن (الفاتحة والكهف):

أ – التأويل اللساني لسورة الفاتحة:

عمل أركون على تجاوز الفهم الكلاسيكي لسورة الفاتحة، في اتجاه الاهتمام بها بواسطة الألسنية، ويقوم هذا المشروع على اكتشاف مجموع عناصر اللحظة اللسانية التي تشكل فيها الخطاب القرآني داخلها، وقد درس أركون هذه السورة وفق ثلاثة لحظات مترابطة: ألسنية وتاريخية وأنتروبولوجية، ويمكن الاقتصار على ذكر اللحظة الألسنية فحسب تجاوزا لإعادة كتابة الأفكار السابقة.([42]) وتقوم اللحظة الألسنية على تحديد جملة من المصطلحات في فهم هذه سورة، منها مفهوم العامل المتعلق بمحدث الفعل أو الفاعل في الواقع، والغاية منه إدراك تبادل الأدوار في آيات بين الله كعامل أول والإنسان كعامل ثان، إضافة إلى الموضوع والمرسِل والمرسَل إليه، ثم معرفة الضمائر المُشَّكلة للخطاب القرآني في السورة وبنية العلاقات القائمة بينها –أنا-هو-أنت-نحن-هم-أنتم... وقد عرض محطاتها الكبرى:

*- المحددات والمعرفات: تمثل جملة الكلمات الواردة في السورة معرّفة غير نكرة، وقد عاد إليها أركون لتحليل الخطاب معتمدا عليها في معرفة طبيعة المتكلم، حيث درس وظيفة التعريف في قراءته لسورة الفاتحة سواء أكان "أل" أو بالإضافة، ليبين دوره في تحديد مقاصدها، مشيرا إلى أن السورة تتميز باحتوائها على المعرفات، وتمثل جميع الأسماء المعرفة، سواء أكانت مصادر أو أسماء الفاعل والمفعول به أو الصفات الاسمية، وهو ما يعني أن المتكلم معروف تماما أو قابلا لأن يعرف، وذلك إما بواسطة أل التعريف وإما بواسطة كلمة تعريفية. وهنا يتبين دور التحليل الألسني في كشف دور المعرفات في بيان حقيقة المتكلم في سورة الفاتحة وأثر ذلك على المعنى.

*- الضمائر: يواصل أركون بيان دور الضمائر في هذه السورة، ويحلل دور العاملين؛ الأول الله، والثاني الإنسان، مبينا من خلالهما الأدوار وتبادلاتها في الخطاب القرآني، دارسا مختلف المشاكل التي يطرحها علينا وجودها في فهم النص، لأنها ذات علاقة وطيدة بالمتكلم ومؤلف النصّ، إذ بين فيها أنه يلاحظ وجود ضمير زائد مثل ضمير المخاطب في صيغة المفرد، قد استخدم مرتين مع أداة الفصل: إياك نعبد، وإياك نستعين، الأول للدلالة على من تتوجه إليه العبادة، والثاني للدلالة على من نطلب منه المعونة.([43]) وبعد تحليل الضمائر ينتهي أركون إلى أنه لا يوجد في النص أية علامة تدل على هوية المؤلف ويدعو إلى معرفة مكونات الخطاب وأصناف العلاقة بين المرسل، والمرسل إليه، أو المرسل إليهم.([44])

*- الأفعال: بعد تحليل الضمائر بدأ أركون يحلل  طبيعة الأفعال في سورة الفاتحة ليبين أنها قليلة بالمقارنة مع الضمائر([45])، وفي الأفعال يهتم أركون في إطار التحليل ألألسني بتحليل التضاد الكائن بين الفعلين الماضي والمضارع من أجل معرفة دور العاملين ومكانتهما والعلاقة بينهما.

*- الأسماء: يحاول أركون من خلال دراسة الأسماء إلى العودة إلى الأسماء الأصلية والأخرى المحولة في السورة، من أجل تحديد ما يسميه "تيولوجيا المعنى"، أي علم أنواع ونماذج الأساليب التي يستخدمها الخطاب القرآني.([46])  وقد أسهب أركون في إعداد تحليل ألسني لسورة الفاتحة، وخلص إلى:" أن كلمات سورة الفاتحة تتميز بانفتاح على ذرى واسعة جدا وعلى كافة ممكنات المعنى."([47])

لقد استخدم مصطلحات ألسنية دقيقة ومختصرة ومعاصرة سعى من خلالها إلى تجاوز التيولوجيا الكلاسيكية ومناهجها ليس في قراءة سورة الفاتحة فحسب، بل في قراءة كل الخطاب القرآني، ولكن رغم ذلك أكد أركون أن حالة الفاتحة تقتضي عملا آخر، وهو استعادة جميع التفاسير الكلاسيكية وتحديد الاختلاف بينها وبين القراءة المعاصرة.([48]) وقد عبّر أركون في اشتغاله على سورة الفاتحة عن مشروع مغاير للقراءات الكلاسيكية، ويصفه بكونه مشروع نقدي وجريء وقائم على تجاوز الترسبات التراثية.([49]) لكن هذا الخطاب في حقيقة الأمر إعادة استنساخ للفكر الإستشراقي وكذلك للتطبيقات الغربية على نصوصهم الدينية وهو ما سنهتم به في عنصر مستقل في آخر هذا المطلب من هذا المبحث.

ب- التأويل السيميائي لسورة الكهف:

نقد أركون المجريات المنهجية التي استخدمها المفسرون في تفسير سورة الكهف، وهذه التفاسير الكلاسيكية لا تخرج عن ثلاثة اتجاهات : أولا- التفسير النحوي والتاريخ الأسطوري وهو الذي اتبعه المفسرون القدامى. وثانيا- التفسير التحليلي والسكوني الاستشراقي. وثالثا- التوسع الرمزي للموضوعات الروحية والنموذجية المثالية للسورة في المخيال الجماعي. وركز أركون على الاتجاه الأول من خلال تفسيرين: تفسير الطبري(ت 311هـ/923م)، وتفسير فخرالدين الرازي(606هـ/1209م)، من خلال ثلاثة مستويات: المبادئ، والمجريات، والنتائج. وقام بمراجعة نقدية لهذه التفاسير، لأنها لا تميز بين الخطاب القرآني الشفهي وتحول هذا الخطاب إلى نصّ مكتوب جمع في كتاب، وقامت على رفض القراءات المختلفة والمناقضة للمعايير الرسمية ودمج ما يمكن دمجه منها داخل البنية العامة للخطاب القرآني.([50])

انطلق أركون من فكرة "عدم تماسك النص في سورة الكهف": "نحن نعلم أنه نادراً ما تشكل السور القرآنية وحدات نصية منسجمة، وإنما تتشكل في الغالب، من نوع من التجاور بين الآيات التي قد تختلف قليلاً أو كثيراً في تواريخها... لكن هذا لا ينفي إمكانية العثور على فكرة مركزية حتى في سورة طويلة جداً كسورة البقرة."([51]) وأكد أن غالبية السور القرآنية بما فيها سورة الكهف، لا تشكل وحدات نصية منسجمة ولا تشتمل على فكرة مركزية، ويتيح أول فحص لسورة الكهف كشف المكونات التالية:

*- وحدة نصية مؤلفة من (8 آيات) تستهل بها السورة، ولكن لا يمكن اعتبارها مقدمة، وذلك لسببين: الأول- لأنها تتحدث عن بواعث مختلفة لطالما تكررت في القرآن في مواضع أخرى متعددة، والثاني- تنتمي هذه الآيات إلى الفترة المدنية في حين أن مجمل السورة ملحق بنهاية الفترة المكية. ويتضح هنا وفيما بعد، أن أركون يكرر مقالات المستشرقين مثل نولدكة الألماني وبلاشير الفرنسي.

*- ثم ينتقل إلى الآيات (9-25)، التي تشكل الوحدة السردية الأولى:" وهي الحكاية الشهيرة للسبعة النائمين، والمدعوة هنا باسم  أهل الكهف". والحكاية بحسب قوله مقتبسة أو منحولة، وكل ما فعله القرآن أن غيّر اسمها فأصبحت مدعوة باسم أهل الكهف. ويشكك في أهمية أداة الانفصال "أم" في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَاَب اَلْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ}، (اَلْكَهْفُ،9)، ولا يكتفي بذلك، بل ينقل كلاماً للمستشرق بلاشير عن " تحويرات" وقعت في نص الحكاية القرآنية، وعن شذوذ لغوي في كلمة "سنين".([52])

*- يذكر أركون أن الآيات ( 27- 59 )، لا علاقة لها بقصة الكهف السابقة لها، ولا بقصة موسى مع الخضر التالية، وفي هذه المجموعة، يكتشف  "نواة"  من "13 آية"، تتحدث عن قصة الرجل الذي له جنتان من أعناب، وعُززت القصة بصورة الحياة سريعة الزوال كزوال المطر النازل من السماء."([53])

*- وفي الآيات (60 – 98)، توجد حكايتان تستمدان عناصرهما من ملحمة جلجامش وقصة الإسكندر المقدوني، ولا رابط بين هذه القصة وبقية السورة، سوى السجع المنتهي بحرف الألف.

* - ثم تأتي الآيات (99-110)، لتختم السورة "بخطاب تبشيري"، ويفسره أركون بأنه الخطاب الذي يبشر بالدعوة باستمرار. وكذلك الشأن بالنسبة إلى كلمات مثل: "المؤمنين، الكافرين، الجنة، النار.."، وغيرها من الموضوعات العامة التي لا يمل القرآن من تكرارها، حسب تعبيره. ([54])

وينتهي استعراض أركون للسورة؛ إلى إقرار أن مقدمتها ليست مقدمة، وخاتمتها ليست خاتمة، ولا رابط بين أجزاءها رغم وجود بعض أدوات الربط، وما فيها من قصص منحولة مقتبسة وملفقة.

3 – نقد قراءة أركون التأويلية للقرآن:

إن القضايا التي أثارها أركون بدءا من التسمية ليست من القضايا الجديدة، وقد سبقه إلى إثارتها كثير من المستشرقين. فاختيار تسمية "الظاهرة القرآنية" يعود إلى أن كلمة "القرآن"، مثقلة بالشحنات الإيمانية، لا تساعد  على القيام بمراجعة نقدية أو تفكيكية تحرص على تسوية كلام القرآن بكلام البشر. ومعنى ذلك أن القراءة اللسانية تعنى بالقرآن كما لو كان كتابا عاديا، وهي قراءة يتعاطاها الإنسان غير المسلم وتعتمد أساسا على العقل، واعتمد أركون هذه الآية: {إِنَّا أنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا لَعَلَكُمْ تَعْقِلُونَ}، (يوسف، 2)، لتأكيد العلاقة بين القرآن واللغة العربية، واتخاذها مدخلا لتأويل القرآن.([55]) ولكن هذه القراءة تتضمن مزالق متنوعة، يمكن أن تؤدي إلى انحراف عن المقاصد القرآنية. فإذا كان طموحات أركون، ممتد تسعى إلى تخليص المعرفة المتعلقة بالقرآن والتراث الإسلامي من القيود الميتافيزيقية التي تكبلها وتعوق أبحاثها، فإن هذا التوجه في حاجة إلى مراجعة نقدية؛ في هذه المستويات:

*- هشاشة المرجعيات المعرفية: بدأ أركون الجزء الخاص بدراسة سورة الفاتحة بقول للحسن البصري :"إن الله أودع علوم الكتب السابقة في القرآن، ثم أودع علوم القرآن في الفاتحة، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة" (أخرجه البيهقي). هكذا استشهد بهذا القول ليحيل على كتاب "الإتقان"، كمصدر لهذا القول، أي إن إحالة أركون هي إحالة على إحالة، كلام البصري الذي أخرجه البيهقي الذي نقله السيوطي، وهذه هشاشة علمية في المرجعية. ثم يعلق أركون فيقول:" لا يهم كثيرا ما إذا كان المعلم الشهير لمدينة البصرة قد قال هذا الكلام أم لا... فالشيء الأساسي هو أن هذا القول ظل يتكرر جيلا بعد جيل، وهو لا يزال حتى اليوم يحذرنا من خطر ممارسة كل قراءة اختزالية."([56]) فمنهج أركون لا يميّز بين أقوال العلماء وأقوال العامة، بل يؤسس أطروحاته على مقولات شائعة دون تفحص نقدي.

*- استبدال علوم القرآن بعلوم الإنسان نزوع إلى "تشيئة القرآن": لقد طبق أركون في قراءته أحدث ما بلغه علم اللسانيات، وتخلي عن المصطلحات القرآنية وعوضها بمصطلحات أخرى، هي وليدة حقل معرفي مختلف كثيرا عن علوم القرآن، وقد أعطى تعريفا ألسنيا للقرآن: "هو مدونة لا يمكن أن نصل إليها إلا بالنصّ الذي ثُبِّت حرفيا أو كتابيا بعد القرن الرابع الهجري، العاشر ميلادي."([57]) واستبدل لفظ "القرآن" أو"الآية" بألفاظ "المدونة النصيّة" و"المنطوقة اللغوية"؛ وقد برّر أركون هذا التصور بحجة أن تلك المصطلحات القرآنية، تتضمن شحنات لاهوتية تقف عائقا أمام الدراسة النقدية المحايدة.([58])

*- دعوى عدم تماسك النص القرآني عموماً وسورة الكهف خاصة: إن المفسرين القدامى والمعاصرين، قد أفاضوا في الحديث عن التناسب والوحدة الموضوعية في القرآن عموماً وفي سورة الكهف على وجه الخصوص، فالرازي أكد وجود روابط بين "سورة الكهف" والسورة السابقة لها "سورة الإسراء"، كما ذكر أن السور الثلاث المتتالية "الإسراء والكهف ومريم"، لها موضوعا مشتركا.([59]) وقد أكد عن صلة آيات المقطع الأول بعضها ببعض، من خلال الروابط اللغوية الواضحة، وأغلبها ظاهرة الاتصال وبعد إنهائه المقطع الأول في السورة ذكر وجه النظم في مجيء قصة الكهف بعده. ويكمن ضعف حجة أركون أنه لم يقف إلا عند أداة "أم"، في الآية: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ اَلْكَهْفِ وَالَّرقِيمِ}، (الْكَهْفُ،9)؛ التي تربط قصة الكهف في المقطع الثاني بالمقطع الأول:" نلاحظ أن أداة الانفصال: "أم " توحي بوجود علاقة مع الجزء السابق من البديل التناوبي المعدوم في الواقع."([60]) فهو يشكك في أهمية هذه الأداة، ويرى أن مترجمي القرآن إلى اللغات الأجنبية، قد أهملوا عموما أداة الانفصال هذه، ولم يأخذوها بعين الاعتبار." وهذه حجة ضعيفة، لأن المترجمين الأجانب لا قدرة معرفية لهم للحسم في مثل هذه القضايا.

*- القصص القرآني في سورة الكهف: يدّعي أركون بأن المفسرين يجعلون الإسرائيليات والروايات الواهية عن القصص القرآني، في المنزلة ذاتها التي للنص القرآني، ثم يدعي بأن مقتضى قوله تعالى: {َنْحُن َنُقُص عَليْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِ إِنَهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِهُمُ وَزِدْنَاهُمُ هُدًى}، ( اَلْكَهْفُ،13)، هو التصديق بأن شخصيات القصة، وتصرفاتهم، والأماكن الوارد ذكرها، والأقوال، كلها صحيحة بحرفيتها؛ثم يدعي بأن هذا التفسير الإسلامي التقليدي بأنه تاريخوي علموي. ومعنى ذلك أن أركون متناقض، فهو لم يتمكن من البرهنة على تاريخية القرآن ولذلك لجأ إلى كتب التفسير.

*- دعوى أخذ القرآن قصصه من البيئة الثقافية المحيطة: يتحدث أركون في سياق قراءته لسورة الكهف، عن القصص الثلاث – قصة الكهف وذي القرنين وموسى مع الخضر- مؤكدا أن القرآن استقاها مما يسميه المخيال الثقافي لمنطقة الشرق الأوسط القديم؛ وهذا يتنافى مع ما ذكره أركون عن العلاقات بين قصص السورة، حيث يقول: "إن أساطير غلغامش، والإسكندر الكبير، والسبعة النائمين في الكهف؛ تجد لها أصداء واضحة في القرآن."([61]) ثم يعود أركون ليتراجع عن دعاوى أخذ القرآن قصصه عن ملحمة جلجامش ورواية الإسكندر الكبير: "في الواقع إن القرآن لا يستمد قصصه أو حكاياته، بشكل مباشر من ذلك المركب المعقد والعتيق لأساطير وادي الرافدين."([62]) ومعنى ذلك أنه استبق النتائج قبل المقدمات، وهو تماثل القرآن مع غيره من النصوص البشرية؛ ولا يهتم أن تؤدي المقدمات إلى نتائج مغايرة.

*- أركون وتاريخية القرآن: لخص أركون مشروعه في نشر دعوى تاريخية القرآن:" أريد لقراءتي هذه أن تطرح مشكلة لم تطرح عملياً قط بهذا الشكل من قبل الفكر الإسلامي؛ ألا وهي: تاريخية القرآن."([63])  لكن الملاحظ أن أركون ينطق بحقيقة أخرى؛ يقول هاشم صالح: " يرى أركون أن إحدى أهم ميزات الخطاب القرآني - بل لعلها الميزة الأساسية فيه – تكمن في تعميم الحالات الخصوصية والأحداث الواقعية التي حصلت في زمن النبي ورفعها إلى مستوى الشمولية والكونية."([64]) لقد بحث أركون عما يؤكد تاريخية القرآن، ولكنه تفاجأ بأنه يعمم الحالات الخاصة والأحداث الواقعية.

*-  أركون وأسباب النزول: يقول أركون: "كان المسلمون قد أنشأوا علماً يبحث عن تحديد أسباب النزول الخاصة بكل آية... في الواقع إن أسباب النزول ليست إلا ذريعة أو تعلة."([65] ) ويوحي كلام أركون، بأن المسلمين قد اخترعوا أسباب النزول، وليست أسباب النزول قد حفزتهم على جمعها ودراستها. كما يخلط أركون بين الروايات الإسرائيلية، وأحاديث القصاص التي أوردها المفسرون على هامش قصص الأنبياء، وبين أسباب النزول؛ ولكن هذا موقف غير المحققين، وغير العلماء، ولا يجوز التعميم في ذلك، خاصة وأن العلماء والمحققين لا يملون من التحذير والتنبيه من هذه الروايات.

* - وثاقة النص القرآني، جمع القرآن والقراءات: ينقد أركون، المسلمة التي تعود المفسرون على التسليم بها والتي تنص على أن:" كل العبارات أو الآيات المجموعة في النص الرسمي القانوني (أي المصحف) صحيحة كليا، ولا يختلط بها أي كلام غير إلهي."([66]) ويسميها "المسلمة اللاهوتية"، وكان أركون قد تحدث عنها :" إن جمع القرآن في نسخة مكتوبة ومحفوظة مادياً بين دفتي كتاب