لـم يكنْ مسلسل "قيامةُ أُرْطُغْرُلْ" مجرَّد مسلسل دراميٍّ كباقي الدراميات العابرة، بل كان مسلسلاً مليئًا بالرسائل التي تغنيكَ بدروس حياتية وخبراتٍ تاريخية دون حاجتكَ لأنْ تكبر في عمركَ أو تُلدغَ من جُحركَ، لعلَّ من أجلِّها:
01 ـ خدمة الدولة للدين:
وظهر ذلك جليًّا في حِرص رجل السياسة على تمثّل القيم الإسلاميّة خطابًا وممارسةً، وقد ظهرت إسلامية الدولة في رجوع "أرطغرل" إلـى الدستور الإسلامي الذي مُثِّل في شخص الإمام الأكبر "محيي الدين بن عربي" هذا الأخير الذي بنى توجيهاته على مناط الوحيين "القرآن والسنة" والصحابة والتابعين والصالحين...
فكان الدين في قلب "ابن عربي" والسيف في يد "أرطغرل"، من أجل إفادة الـمسلم أنَّ الفتوحات الإسلامية لا بد لها من كتاب يهدى وسيف ينصر.
ويجدر التنبيه هنا إلـى التفريق بين عَلَمين أشهر من نار على جبل، وهما: الإمام الـمالكي الـملَّقب بـ" القاضي أبو بكر بن العربي"، وبين أشهر الصوفيين وإمام العارفين "محيي الدين بن عربي" والـملقَّب بـ "الإمام الأكبر" و "الكبريت الأحمر" كناية عن نُدرته.
وكلاهما أندلسيان، ويشتركان في اسم الشهرة "ابن العربي"، بيد أنَّ من العلماء من مايز بينهما في الكتابة، فجعل الألف واللام في "ابن العربي" للقاضي الـمالكي "أبو بكر بن العربي"، أمَّا "محيي الدين ابن عربي" الصوفي الذي مثَّل في "قِيَامَةَ أُرْطُــغْرُلْ" فيكتب بدون الألف واللام.
02 ـ خطر خيانة الداخل أكبر من خطر عدوّ الخارج:
تعدَّدت صور الـخيانة والانقلابات في الـمسلسل سواء لصالح البيزنطيين كما في شخصيّة الأمير "سعد الدين كوبيك" مثلاً، أو لصالح المغول كما في شخصيّة الأمير "بهاء الدين".
فجاءت الرسالة واضحة كعين الشمس أنَّ العدو الذي يعيش داخل حدودنا أخطر من عدونا الذي يعيش خارجها، وأن جسم الأمة لا يتمزَّق على يد الأعداء فقط، أيضًا على يد الخونة.
لا سيَّما أن بطل الـمسلسل "أرطغرل" قد مات غَيْلَةً في الحلقة الأخيرة على يد وزير الدولة "سعد الدين كوبيك" التي عمل أرطغرل على حمايتها.
03 ـ شوكة تركيا كثيرًا ما تقوى بعد ضعفها:
كان الـمسلسل من أول حلقاته يهدفُ لغاية مقصودة، وهي بناء دولة تجمع شتات القبائل التركيّة، تجلَّت بعدها الدولة العثمانية العليَّة التي تأسست على يد "عثمان غازي بن أرطغرل".
فمن كان ليصدِّق أن الدولة العثمانية هي وليدة خيمات مشتتة توحَّدت بعدها؟
04 ـ تصوير معاناة القبائل الـمشتتة:
أبدع السيناريست في توصيف معاناة القبائل التركيّة المشتّتة، ليقنع الـمشاهد التركي أن فكرة "الدولة الواحدة" فكرة رئيسة لا ينبغي أن نحيد عنها تفكيرًا ولا ممارسة، وأن نبلغ في سبيل تأسيسها النفس والنفيس.
05 ـ الوجه الحسن للإعلام:
لا سبيل لتغيير قناعات الآخرين القديمة ولا لزرع قناعات جديدة مثل الإعلام، وكأن صُنَّاع الـمسلسل قد عرفوا أنَّ عالَم اليوم هو عالَم الصورة، لذلك ضربوا على هذا الوتر الـحسَّاس، فأبدعوا في تَقَنية الإخراج ولغة النص، حتى اكتست صور المقاطع المعبرة مواقع التواصل وأُفرد لها حسابات وصفحات خدمت المسلسل من حيث لا يدري صُنَّاعه.
ففي الوقت الذي لا نملك فيه سنداتٍ تاريخية عن أسلافنا، من الـمستحسن حينها أن يكون الفن هو صانع التاريخ، ولا نكتفي بالـمعرفة السطحية عنهم كأضراب تلك الرسومات التي نُقشت على كهوف الـمغارات.
لأنَّ أهم وظائف الفن هو جعل الخيال محسوسًا، كما نحت اليونانيين أبطال حرب طروادة، ونظم عنها "هورميوس" الإلياذة الخالدة رغم أنه جاء بعد حرب طروادة بقرون.
وكما نحت ورسم "ميكائيل أنجلو" شخصيات وأحداث قصص الكتاب المقدس، وهو الذي كان في عصر النهضة بينما أحداث الكتاب المقدس قبل الميلاد بقرون.
وكما نظم الظاهرة البريطانية "وليام شكسبير" مسرحيته عن "يوليوس قيصر" و "كليوبترا" في قالب شعري حاول محاكاته فيه شاعرنا "أحمد شوقي" بعد قرون من أحداث القصة التي دارت قبل الميلاد.
06 ـ أنهض رجولة الرجال وعفة النساء:
"قِيَامَةَ أُرْطُــغْرُلْ" استطاع أن يعيد ترتيب الأوراق في أذهان شبابنا وشوابنا، فأمَّا الرجال فقد أنهض فيهم رجولتهم لا سيَّما وأننا نعيش زمنًا حمل رجاله الدفوف ونافسوا النساء في زينتهن.
وممّا يلفت الانتباه في المسلسل الدور البارز الذي أُنيط بالنساء، فهن الناعمات في السِّلم الشرسات في الحرب، نساء مع النساء رجال مع الرجال، ومن ذلكَ ردُّ فعل حليمة الشرس ضد "حارس القصر" حين وضع يده على كتفها ليسحبها للخارج فقالت غاضبة: "بأي حق تضع يدك على امرأة؟"؛ شيئًا فشيئًا تعجبكَ عفتها حتى تودُّ لو أن بناتنا بمثل طينتها!
والترك معروفون بأنَّهم أمّةٌ مُقاتلة، قوية الشكيمة، ومما ذَكَره المؤرخون والرحَّالة الذين زاروها أنَّ: "نساء التُرك يقاتلن كرجالهم"، وهذا رسالة قيِّمة ارتكز عليها الـمسلسل حيثُ أظهر النساء مقاتلات شرسات ممَّا دفع بالعدو إلـى رؤية الـمرأة كعدو لا كأنثى سهلة الاغتصاب.
وهذا ما حدث في سورية الجريحة، إذْ قد سأل رجل سوري غيور على عرضه مفتيًا: "هل يجوز أن أقتل بناتي إذا أراد الجنود الروس اغتصابهنَّ أمام عيني؟"، فبكى المفتي وعدِمَ الجواب على فُتيا لـم يسبق أن خطرت بقلبه؛ وربَّما آن له أن يُدرك أن النساء لسنَ كائنات بيتوتية فقط، تُحبس بين أربعة جدران كما تحبس قِطَّات البيوت.
ورحم الله"هايماه" أمَّ "أرطغرل" إذْ لـم يغلب حنان أمومتها طموحها في ولدها؛ فربته تربية جهاد قبل أن تربيه تربية أولاد.
07 ـ الـخيمة هي نواة الدولة:
انطلقت أحداث الـمسلسل من خيمة زعيم القبيلة "سليمان شاه" والد "أرطغرل بك"، ملفتًا أن الخيمة هي النواة الأولـى لتهذيب الأخلاق، فقد كان الربط بين الخيمة والأخلاق ربطًا مقصودًا لا ربطًا عبثيًّا.
والخيمة باعتبارها بيت الإنسان القديم كانت بيئة عامرة بالـمشاهد الروحية التي أراد بها صنَّاع الـمسلسل أن يوصلوا للمشاهد المعاصر بألاَّ يتخلَّى عن هذه الـروحانيات في بيته الإسمنتي، فليست العبرة بخصوص الخيمة ولكن بعموم البيت.
08 ـ الأخلاق قبل الوسائل:
من أصدق ما قرأتُ لـ "روجيه جارودي" قوله:"لو قدر لأجدادنا الأقدمين أن يعودوا إلى دنيانا، فإن أول ما سيلفت انتباههم ويأخذ بعقولهم، ليس التطور التكنولوجي الذي وصلنا إليه، إنما غياب القيم والأخلاقيات".
الدولة التي لا تسعى لفرض قوتها، ريثما تُفرض عليها قوة دولة أخرى، وهذه القوة ينبغي أن تُخترع لها وسائلها، وقبل ذلكَ أخلاق قوَّادها.
لأنَّ قوة الوسائل وحدها لا تكفي لإقامة دولة قوية ما لـم تكن أخلاق مقيميها ذاتُ بطانة صالحة، وإخلاص يسري في العروق سير الدماء فيها.
09 ـ تقديس القيم الدينية:
ما أشدَّ ما يحترم الأتراك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، إذْ ما إن يُذكر عليه الصلاة والسلام في مشهد من الـمشاهد إلاَّ ورأيت الصمت قد أطبق المكان لا تسمع للحضور همسًا، ثم لا تلبث أن تراهم يضعون أيديهم على قلوبهم تعبيرًا منهم على أنه في القلب!
فقد كانت الصبغة الدينية حاضرة بقوة في طول شريط الـمسلسل، وبرع السيناريست إذْ أقحم شخصية "ابن عربي" كرمز ديني، فقد كان هذا الإقحام في ذروة الحبكة الدرامية، لا سيَّما عند لـجوء أرطغرل إليه لـمدِّ العون الإلهي لـمَّا تعوقهُ السبل، على خلاف استحياء الدراما المصرية واقتصارها على "مأذون" عقد أو طلاق أو "مقرئ" لجلسات عزاء، فكأنهم يريدون برمجة الناس أنَّ الدِّين جزء من كلٍّ، لا الكل في الكل.
وقد كان "أرطغرل" حينما يواجه الموت وجها لوجه يستدعي ذكرى "الإمام الحُسين" وواقعة "كربلاء" فيقول: "لو سقط ألف حسين فلن يتخلى ألف إنسان عن مبدأ علي".
وحينما تضيق به الأرض بما رحبت يأتي مولانا "ابن عربي" ليذكره بحمامة الغار وبيت العنكبوت اللذان على ضعفهما سخَّرهما الله بقدرته لحماية رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وصدِّيقَه أبو بكر، فتُذهب حلاوة لسان الشيخ مرارة ضيق الـجندي.
ولقد علَّمنا "قِيَامَةَ أُرْطُــغْرُلْ" أنَّ الجهاد منا والنصر من الله، وأنَّ قوتنا حينما لا تكفينا فإن إيماننا سيكفينا، ناهيك عن صيحاتهم قُبيل كل قتال "الحي هو الله" "الحق هو الله".
وحينما كانت الدراما العربية تشوِّه رجال الدِّين وتصوِّرهم "إرهابًا"، جاء "قِيَامَةَ أُرْطُــغْرُلْ" ليعيد الحقيقة إلـى مجاريها، ويثبت أن رجال الدِّين صُنَّاع "قادة".
ناهيك عن كون الـمسلسل عامرٌ باحترام علماء الدِّين، لأنَّهم يعتقدون أن احترام العلماء يرهبُ الأعداء، وهذا ما كشفه أعداء الإسلام فجعلونا نستخفُّ بهم، ونتابع زلاَّتهم ولا نُراعي حُرمتهم.
والقارئ في تاريخ هذه الحقبة التاريخية يدرك أنه منذ أن اعتنق الأتراك الإسلام وهم يُسْدون إلى الإسلام والمسلمين كل الخدمات الجليلة التي أسهمت جنبا إلى جنب مع بقية المسلمين في نشر الإسلام وتشييد حضارته.
10 ـ القادة لا يُولدون بل يُصنعون:
لم يولد "أرطغرل" بطلاً من بطن أمه؛ إنما صنعته تربية أمه الجهادية، ودرَّبه طموح أبيه، وعاش في بيئة تحترم المجاهدين وتقدر الأبطال؛ وبالتالي خرج "أرطغرل" وخرج من بعده ابنه "عثمان"؛ وبعد "عثمان" جاءت "الدولة العثمانية"، فصناعة القادة تحتاج إلى بيئة قيادية تعطي وتمنح، تربي وتعلم، فما أعظم أن تقدم للأمة قائدًا تفتخر به، وتعمل بقول الشاعر:
إنا وإن كَرُمت أوائلنا لسنا على الآباء نتكلُ نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا
11 ـ الأخوة بالـمواقف وليست بالنسب فحسب:
أحببنا "أرطغرل" ذاك الشهم الذي آل على نفسه أن لا يغمد سيفه إلا وأمة الإسلام موحَّدة، ناهيكَ عن أصحابه الذين وقفوا معه وقفة النبض مع القلب والنفَس مع الرئة، حتَّى لقد برع صُنَّاع الـمسلسل إذْ ركَّزوا على البطل ولـم يُهملوا دور أصحابه في صنع بطولته، وخدموا بهم أحداث الرواية ليلفتوا أن النصر لا يكون من رجل واحد فحسب، ولو كان يحدث حقًّا لحدث للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم وهو الذي خاطبه ربُّه: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} ، بل إن من سوء القيادة ألا يكون الذين حول القائد قادة.
ثم إنكَ لا تجد قائدًا أثبت بطولته دون عون أصدقائه، فالقائد الذكي حيثما يمضي قُدمًا لصُنع نفسه يصنع تزامنًا مع ذلك أصحابه، وهذا ما حدث مع "أرطغرل"، فلولا رفاق دربه "تورغوت"، و "بامسي"، و "دوغان" لربَّما لـم يسمع أحد "بأرطغرل".
هؤلاء الثلاثة كانوا إخوة وإن لـم ينجبهم بطنٌ واحدٌ، وأثبتوا أن الأخوة الحقيقية ليست من تنجبها نفس البطن بل من تقف معكَ جنبًا لجنب كي توقفكَ على قدميكَ، فآزروه في الوقت الذي تخلى عنه أخوه "جوندوجدو"، وفي الوقت الذي حاربه أخوه "سونغر تكين"، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أن الأخوة بالمواقف وليست بالنسب فحسب.
12 ـ وراء كل بطولة خالدة همَّة قائدة:
يقولون: "رُبّ همّة صنعت أمّةً"، لكن في "قِيَامَةَ أُرْطُــغْرُلْ" شاهدنا رأي العين أنَّى للهمة أن تصنع أمة.
فإنَّ همة "أرطغرل" ألانت له حديد الظروف، فبها جابه الـمصائب وتحدَّى الـمصاعب، وهي من كانت قُوتَهُ قبل أن يتقوَّتَ بقوَّتهُ.
ولولا همته التي قادته لترك قبيلته الأم والهجرة ب 400 مقاتلٍ جهادًا في سبيل الله لـما تأسست دولة دان العالم لها؛ لنعلم أنَّ وراء كل بطولة خالدة همَّة قائدة.
13 ـ القوة سلاح الـحق:
ولأن الحق يُسلب ولا يوهب، فمسكين من ظن أن الحق ينتصر بالدعاء فقط، أو أن الدعوات تنتصر بمصداقية أصحابها لا غير.
مسكين من رفع يديه وجبن عن حمل سلاحه، وغرَّته الأماني أنَّ الله يستجيب الدعاء ونسي أن يتسبَّب بأسبابه، ألا إن من أسباب الدعاء العمل بالوسائل.
وكما أن قوة الأسلحة دون الاستعانة بالدعاء لا تضمن نصرًا، كذلك لا ينفع حضور الدعاء إذا غابت الأسلحة، ولا بدَّ من هذا وذاك، وصدق الله العظيم حينما قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} ؛ فسلاحكَ يُرهبُ أعداءكَ، ومن فرَّط في سلاحه اُستهينَ بقوته، ومن اُستهين به تجرَّؤوا عليه، ومن تجرَّؤوا عليه غلبوه.
علَّمني "أرطغرل" أن الحق لا بدَّ له من سلاح وإلاَّ سُلبَ منَّا ونحن نشاهد، لذلك حقيق بالسلاح أن يكون حاضرًا في السفر والـحَضَر.
14 ـ لا ينبغي للخونة أن يُرحموا:
الصفح جميل، لكن ليس في كل الـحالات، ولا مع كلِّ الأشخاص، هناك مواقف لا ينفع فيها إلاَّ العقاب، تأديبًا لـمن أخطأ ولـمن تسوِّل له نفسه الخطأ.
وبيَّن الكاتب أنَّ ضريبة الإبقاء على جاسوس واحد هي ضريبة فادحة، فقد استطاع "كورد أوغلو" جاسوس الصليبيين القيام بالاستيلاء على قبيلة "الكايي" بسبب حُسن ظنّ "سليمان شاه" به ورفضه الاستماع لكلام نجله "أرطغرل" الذي رآه شابا متهورًا، ولولا لطف الله الذي أوقع الخائن في شر أعماله، لقطعت الفأسُ الرأسَ.
فحينما انقلب "كورد أوغلو" على "سليمان شاه"، ثم طلب منه أن يسامحه بعدما فشل انقلابه في أقل من يوم، فرفض "سليمان شاه" طلب أخيه من الدم قائلا: "الخونة لا يُرحمون يا كورد أوغلو"؛ فالخائن لو عاد لعاد لخيانته، ولو رُحمَ لـن يَرحمَ، وبهذا تعامل الرئيس التركي "طيب رجب أردوغان" مع خائنيه حينما حاولوا الانقلاب عليه.
وكما أن الخائن لا ينبغي أن يُرحم، كذلك ينبغي التنبيه أنَّ العدو لا ينبغي أن يُصالَح، وهذا ما عبَّر عنه القائد المغولي "بايجو نويان" حينما وقع في الأسر وتم تخليصه بحيلة سماها أصحابها "عقد صلح"، وهنا قال "نويان" متبجحا: "المغول لا يعرفون شيئا اسمه مصالحة، الصلح عندنا مجرد حيلة نخدع بها الضعفاء".
15 ـ البُعد الوُحدوي للأمة الإسلامية:
ممَّا زاد "قِيَامَةَ أُرْطُــغْرُلْ" قيمة في عين متابعيه أن كاتبه كانَ عارفًا بكثرة اختلافات الـمسلمين الطائفية آنذاك واليوم، فلـم يعرضْ لها الـمَشاهد التي قدْ تشتتُ ذهن الـمُشاهد عمَّا يُراد له استيعابه.
وهذا ما عبَّر عنه أحد نقَّاد الـمسلسل بـ "البعد الوُحدوي"؛ إذْ نجح الـسيناريست في التركيز على الوحدة الإسلامية التي من أجلها صُنع الـمسلسل.
فكأنه يريد أن يقول لنا: أن الوحدة الإسلامية أهمُّ من الأشلاء الطائفية، وعلينا أن نتذكر كيف اجتمع المسلمون خلف "صلاح الدين الأيوبي" وهو أشعري، وكيفَ توحَّدوا خلف "محمد الفاتح" وهو صوفي فرفع الله رايتهم وقوَّى شوكتهم!
16 ـ ترك الـجهاد مذلَّة:
تساءل الكثير: لـماذا اختار "أرطغرل" حياة "الجهاد" بدل حياة "الأمن والرزق"؟
والجواب عند "أرطغرل" واضح كالشمس في رابعة النهار، فقد أكَّد لهم أن أصلح طريق للحصول على الأمن والرزق هو مجاهدة الأعداء، مصداقًا لحديث النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: (وجُعِلَ رزقي تحت ظل رمحي)، وما ترك قوم الجهاد إلا ذلّوا...
17 ـ سياسة التآمر، مشروع اليهود والنصارى:
حبكة التآمر التي دارت جلُّ مجريات الـمسلسل عليها، تُنبي مصداق قوله تعالـى في الكفرة الفجرة، إذْ هم لا يجرؤون على الـمواجهة لذلك تراهم يكيدون ويتآمرون: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}.
وحتى يومنا هذا لا زالت وستبقى سياسة "التآمر" مشروعهم الأبدي، إذْ لـمْ يتمكن الروس من قتل القائد "سيف الإسلام خطّاب" عام 2002 في الشيشان إلا عبر رسالة مسمومة سلمها له أحد الخونة في صفوف المسلمين.
كما لم تتمكن القوات الروسية والميليشيات الإيرانية الرافضية وقوات النظام السوري من احتلال حلب مؤخرا إلا بزرع العملاء في مناطق تواجد المجاهدين...
الأمر الذي يجعلنا نسعى لصنع مجاهدين مخلصين قبل السعي لصنع أسلحة، فلا تنفع أسلحة الدمار الشامل بلدًا جنوده خونة!
والعمالة الداخلية هي أخطر ما يواجه الدولة مقارنة بالخطر الظاهر من الخارج؛ لأنَّ العدو المعروف مهما بلغت قوته فإنه ليس أخطر علينا من العدو المجهول وإن كان متواضع القوة، ذلك أن القوة ليست هي وحدها من تغلبنا؛ إذْ كثيرًا ما نُغلبُ نتيجة الغدر، فحينما قتل وحشيٌّ "حمزة" أسد الله إنما قتله بطعنة رُمح في ظهره، ولـم يجرؤ على مبارزته بالسيف وجهًا لوجهٍ، وعلى هذا فقس...
فأمام الغدرات لا أحد يمكن أن يراهن على قوته.
وعلى الذين عابوا تركيز المسلسل على قضية "المؤامرة"، فذلك ممَّا لا بدَّ منه لا سيَّما في السياسة، ووجود الـخونة الذين يرتدون ثياب الوطنية كائن في صفوف كل جيش وفوق تراب كل دولة، وقد كان في جيش النبي صلى الله عليه وسلَّم منافقون كما كان فيه من استسلم وعاد القهقرى أو تخابر مع العدو...
18 ـ النصر غير مشروط بصلاح أصحابه:
صلاح الـفرد لأجل النصر قد يكون مطلبًا تعجيزيًّا، لأنَّ الـخلوَّ من الذنوب غير مشروط لحصول النصر والتمكين، وإنما النصر حليف من أخذ بالأسباب وحافظ على جملة إسلامه وإن كان من أهل الذنوب.
وما أكثر ما شهدنا انتصارات كانت وليدة أبطال قليلي صلاح، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه قال: (إن الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر) وفي رواية: (بأناس لا خَلاق لهم).
وهذا يُفيدنا إلـى ترك تصنيف الناس إلـى صُلاَّح وغير ذلك، فإن العبرة بالخواتيم {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}، وما تدري من ينصر الإسلام ممَّن ينكصُ عن عقبيه!