Image title

نشأة مصطلح ( تاريخ الأديان ).

نشأة هذا المصطلح كانت حديثة كموضوع للدراسة في أوروبا تحديدا في القرن التاسع عشر وهي كلمة مُعرّبة عن اللغة الأجنبية, وظهر أول مرة كترجمة للكلمة الألمانية ( Religions wissenschaft ) = الدراسات العلمية للأديان التي استعملها ماكس مولر عام ( 1868 ) كعنوان لكتابه ثم استعملها الفرنسي إميل بورنوف في فرنسا عام ( 1870 ) اسما لكتابه أيضا.
على أن الحديث عن العقائد البشرية هو في جوهره شأنٌ قديم, معاصر لاختلاف الناس في ملَلِهم ونِحَلهم تتسع وتضيق بمقادر تعارف أهل الأديان فيما بينهم.
ولو تتبعنا سلسلة الحديث عن الأديان من أول عهد الفراعنة مرورا باليونان حتى نصل للنهضة الأوروبية الحديثة, لاستطعنا أن نتبيّن اختلاف الصور بين هذه المراحل.

عرض سريع للعصور ولمحات على الأثر الديني في تركيبها.

1- العصر الفرعوني.
لم يصل إلينا سجل جامع دوَّن فيه قدماء المصريين دياناتهم وديانات جيرانهم, ولكن البحوث الأخيرة أثبتت إثباتا لا يخالطه وهم, أن المصريين منذ ألوف السنين قبل ميلاد المسيح عليه السلام بدأو يًسجلون عقائدهم ووقائعهم وما إلى ذلك على قراطيس البردي, أو منقوشة على جدران المقابر والمعابد, والى جانب ذلك تركوا التماثيل المنحوتة, والأجساد المحنطة, لملوكهم ومقدساتهم.

وعلى قدر سعة فتوحاتهم اتسعت صدورهم لمتخلف العقائد, فتركوا لكل إقليم حريته في تقديس ما شاء, واتخاذ ما شاء من الرموز الوضعية.
وامتدت روح التسامح هذه إلى مدارسهم الفلسفية الدينية, فكان عملها هي محاولة التوفيق بين المقدسات والمعبودات على افتراض أنهم أسرة واحدة بحيث يتألف منها مجموعات بأعداد مختلفة من التشكيلات.
ولكن هذه الروح من التسامح اعترضتها عصور قليلة من الإنتصار لبعض العقائد, من أمثلة ذلك ما صنعته مدرسة ( عين شمس ) حين حاولت إبطال كل عبادة إلا عبادة إله الشمس, وما صنعه أيضا الملك ( أمنحوتب الرابع ) الملقب بأخناتون, حين ثار على كل المظاهر الوثنية, فمحا الصور وأزال التماثيل من المعابد, وأمر بعبادة إلهٍ واحد ذي مظهرين: ( الشمس ) في السماء, و ( الملك ) في الأرض.
وتدل بعض أوراق البردي المحفوظة الآن في برلين وليدن على أن المصريين منذ القِدًم كانوا يعرفون الإله الأحد, الغيبي, الأزلي, الذي لا تصوره الرسوم, ولا تحصره الحدود. [ يمكنك مراجعة موسوعة التاريخ العام للديانات, المجموعة من المؤلفين الفرنسيين ج1 ص251/252 ]
غير أن هذه الثورات لم تدُم طويلا, وكانت السٌّنة الغالبة لدى الملوك والكهان, هي تأليف قلوب أتباعهم ورعاياهم, بتمكينهم من ملء المعابد بتلك الأسماء والرموز المختلفة.

2- العصر الإغريقي.
هناك ملاحظة مهمة, وهي أنه مع الإغريق ظهرت البدايات الحقيقية للنقض العلمي الموجه للدين, وإلى الآلهة, وقد ساعدت مجموعة من العوامل في ذلك منها:
- ظهور مجموعة مهمة من الفلاسفة الإيونيين ( ما قبل سقراط ) الذين بادروا لطرح فكرة إمكانية إدراك العقل البشري للطبيعة دون الحاجة للتصورات الغيبية.
- غياب الوحي في الديانات الإغريقية وهو ما سهّل عليهم نقضها.
- غياب الشريعة الدينية الفاعلة في الحياة الإغريقية.
- النزعة العلمية في مختلف الحقول ولا سيما في علوم الفلك والكون والطبيعة, وهي علوم تنافس الدين في تفسيرها للحوادث والخوارق.
- تلازم الدين والسياسة إلى درجة أنه بالإمكان إحداث خلل في النسيج الديني على أثر الثورات السياسية.
- أتاح العصر الهيلنستي ( ما بعد العصر الإغريقي ) فرصة كبيرة لمناقشة ونقد الديانة الإغريقية بالكثير من التروي والعمق.
ومن المهم الإشارة إلى أنه لم يَبْقَ الآن مجالٌ للشك في أن القُدامى من علماء اليونان وفلاسفتهم تخرَّجوا في مدرسة الحضارات الشرقية والحضارة المصرية بوجهٍ أخصّ.
وليس معنى ذلك أن الإغريق كانوا بمثابة أوعية مصمتة نقلت علوم الشرق ومعارفه نقلا حرفيا, ولكن المعنى أنهم لو يُنشئوا هذه العلوم إنشاء على غير مثال سابق كما ظنّه بعضهم, بل وجدوا مادتها في الشرق فاقتبسوا منها وأفادوا كثيرا. 
وقد يساعد هذا الفيديو في شرح الفكرة السابقة ( الرابط )
وإلى جانب هذه الدراسات الوصفيَّة لمختلف الأديان المعروفة إذ ذاك, قامت دراسات نقدية فلسفية تهدف إلى تمحيص حقيقة الدين بوجه عام في ثنايا البحث عن حقائق الأشياء، يمكننا من حيث المبدأ تصنيف 6 اتجاهات، أسهمت في نقد الدين والآلهة عند الإغريق:
- ( النزعة الطبيعية ) : قاد هذه النزعة الفيلسوف تاليس الذي قال أن الماء هو أصل كل الأشياء تخرج منه ثم تعود إليه فاستبعد الآلهة وجعل الطبيعة السبب الأول، فيكون بذلك أول من أخرج الفلسفة من عالم الأساطير ووضعها في منطقة التفكير العقلي المبني على مراقبة الطبيعة.
- ( النزعة العقلانية ) : قاد هذه النزعة إنكساغوراس الذي قال أن العقل هو الذي كون العالم وأخذ العقل في الفلسفة اليونانية دورا كبيرا باعتباره العقل الكوني ( الكلي ) الذي هو مصدر النظام والتوازن، وهو مصدر العقل الجزئي للإنسان.
- ( نزعة الوحدة والتعدد ) : وتنقسم هذه النزعة إلى عدة أقسام، ففي مذهب الوحدة هناك وحدة مادية ووحدة روحية.
فالوحدة المادية تظهر في كل فيلسوف بحسبه, طاليس يشير إلى المال, وإنكسمانيس يشير إلى الهواء الهواء، وهرقليطس يشير إلى النار، وهؤلاء مجتمعين يمثلون المدرسة الأيونية.
أما الوحدة الروحية ظهرت في فلاسفة أمثال بارمنيدس يرى الوجود واحد مستمر غير حادث، وغير قابل للفناء, أما أفلاطون يرى أن وراء مظاهر العالم المحسوس المتعدد وحدة ذات وجود حقيقي في العالم المثالي، أما العالم المحسوس فمتعدد وهو ظلال أشباح للعالم المثالي وهؤلاء يمثلون المدرسة الإيلية.
أما مذهب التعدد فقد نادى به أمبدوقلس الذي أرجع الأشياء إلى العناصر الأربعة للطبيعة ( الماء، الهواء، النار، التراب ) وكذلك ديموقريطس الذي صرح بأن الحقيقة تتضمن نوعين من الوجود واللاوجود هما (الذرات والفراغ). 
- ( النزعة الذرية ) : المؤسس الحقيقي لها ( ليوكيبوس ) ولكن الفيلسوف الذي بامتياز هو ( ديموقريطس ) الذي أسس مذهبه على فكرة أن كل شيء يتكون من ذرات غير قابلة للتجزئة فيزيائيا، وهي لا تفنى ولا تستحدث وتسبح هذه الذرات في فراغ ثابت حولها. وكان يرى أن كل شيء في الطبيعة يحدث وفقا لقوانين صارمة، ولا يحدث شيء بالمصادفة، ولم ينكر وجود الآلهة ولكنه يرى أنها ليست مقدسة، فهي قد جاءت إلى الوجود بسبب اختلاط الذرات ببعضها.
- ( النزعة السفسطائية ) : أدى الجدل المتناقش الذي قام به السفساطائيون إلى الإعتراف من قِبَلِهِم بضرورة الشك في الحواس.
- ( النزعة الرياضية الفيثاغورثية ) : وهو الذين وقفوا في وجه الأصل المادي أو المثالي للكون، وقالوا أن العالم أصله الأعداد، والمقاييس المحكمة الإتقان. 
ومن أهم بل وأحقُّ الأسماء بالذكر في هذا المبحث لشهرتهما وأثرهما في العقل الإغريقي اسم الفيلسوفين, أفلاطون وأرسطو, وكان من مذهبهما ( أن السبب الأول الأزلي بإطلاق، المبدأ لكل حركة وتغيير ليس هو المادة، بل روح عاقل مدبر متصرف في المواد، وأن العقائد والفلسفات كانت في بدايتها نقية نبيلة، ثم تطورت تطورا تنازليا وأن الفضيلة وسط بين طرفي الإفراط والتفريط. )
ويضاف للفيلسوفين السابقين إسم معلمهما سقراط، والذي يرجع الفضل لهم في تأسيس الفلسفة التحقيقية الإيجابية ( التي تعترف بحقيقة ثابتة للأشياء وبالإمكان العلم بها ) وفي تفنيد مذاهب الجحد والعناد التي تنكر أية حقيقة ثابتة، وتدعي استحالة العلم بها أو تعليمها ( على فرض وجودها ) تلك المذاهب التي كان يروّجها السوفسطائية ( وهم قومٌ أوتوا الجدل والمغالطة، واتخذوا الفلسفة صناعة كلامية يؤيدون بها المتناقضين على السواء، ويهدمون بها كل العلوم حتى البداهيات العقلية، متلمسين بذلك سحر البيان ومهارة قلب الأوضاع لنيل ما يستطيعون من جاه وثروة وسلطان ).
وخلف من بعد هؤلاء خلوفٌ انتسبوا إلى أفلاطون ومدرسته  L'Académie  ( الأكاديمية ) التي امتدّ اسمها إلى القرن الأول قبل الميلاد، ولكنهم لم يكونوا جديرين بهذا الإسم والنسبة، إذ بَعُدوا عن مذهب إمامهم، وكانوا أقرب إلى الشك منهم لليقين بوجود حقائق الأشياء.
وسرعان ما مهّدوا بهذا الفتور لظهور مذهب التشكك الصريح، المعروف باسم اللاأدرية Scept cisme وهو المذهب الذي أعلنه ( بيرون Pyrrhon ) في عصر الإسكندر المقدوني، وكان بيرون في أول أمره سوفسطائيا، ثم سئم الجدل والنقاش، وأخذته الحيرة في الاختيار بين الفلسفة الإيجابية التي تقرر وجود حقيقة ثابتة قطعا، والفلسفة السلبية التي تنكر جزما هذه الحقيقة، فلما تعارضت عليه الأدلة لم يجد منها مخرجا إلا التوقف عن الحكم.
فإذا ما تركنا مذهبي الإنكار والتشكيك، وعُدنا لنتابع سير الفلسفة الإيجابية في اليونان، وجدنا أن الصفحة الناصعة فيها طُويت بانقضاء عهد أرسطو، وانقسام مُلك الإسكندر، وأن الذي ظهر منها بعد ذلك كان في عامّة الأمر مذاهب شاذة متطرفة في الناحيتين ( النظرية والعملية ).

- ( في الناحية العملية )
تأثر الجانب الأخلاقي ( مبادئ الأخلاق ) فكان مذهب أبيقور Epicure وهو أحد الأطراف في هذا الجانب، إذ كان يقرر أن شعور اللذة والألم سواء كان جثمانيا أو عقليا أو روحيا هو المعيار الوحيد للخير والشر, والمقياس الفذ ( للفضيلة والرذيلة ).
والطرف الآخر يمثله مذهب زينون Zenon وهو مؤسس المدرسة الرواقية المشهورة باسم مدرسة أهل العزيمة والجلَد، ويقرر أن مبدأ الفضيلة هو التحرُّر من اللذائذ والآلام جميعا، وذلك بمكافحة العاطفة الإنسانية والوجدان الطبيعي، والبلوغ بهما من الجمود والتحجّر إلى حد الجَسَارة على الإنتحار، وعدم المبالاة بأكل لحم الآدمي.
- ( في الناحية النظرية )
تأثرت نظريات ( الإلهيّات والطبيعيات ) بالمدرسة الرواقية أيضا, فبعد أن انتقلت المدرسة من الفلسفة المادية الملحدة الخالصة إلى الإعتراف بوجود روح يدبر العالم ويتعهده في أطواره، إلا أنها عادت تقرر أن هذه الروح ما هو إلا جزء من العالم يسري في مادته وتنطبق عليه كل الخواص غير شاعرٍ بنفسه ولا مختار في تحريكه، وانتهى بقوله بأن العنصرين ( المادي والروحي ) ليس لأحد منهما وجود مستقل، بل يتألف منهما شيء واحد هو الوجود الحقيقي.
وهذه النظرية السابقة المصادمة للبداهة، والمتناقضة في نفسها، وفي نتائجها العملية هي التي تسمى عند الرواقيين ( وحدة الوجود ) ولكنها على الرغم من هذه الوحدة الإسمية قد سايَرَت مذاهب وثنية وتعدد الآلهة، إذ جعلت في كل عنصر من العناصر ساريا هو إلهه الخاص به، فإله الحياة يسمى Zeus وإله الهواء يسمى Hera وهلمّ جرا.

3- العصر الروماني.
في القرن الثاني قبل الميلاد أخضع الرومان الدولة اليونانية سياسيا، فأصبحت ولاية تابعة لهم، بعد أن كانوا هم تبعًا لها.
وإن تعجب لشيء فاعجب كيف أنَّ هذا الاختلاط بين الأمتين قرونا متوالية، من قبل ومن بعد لم يصنع منهم أمة واحدة في اللغة والدين وسائر مقومات الحياة الإجتماعية، كما صنع الفتح الإسلامي في الأقطار التي دخلها.
وكان تعامل الأوساط العلمية والأدبية مع التراث اليوناني فيه نوع من الإنتقائية والسطحية في الإستفادة من منتجات العصر الإغريقي وكان يتم محاكاتها كما يحاكي الناس بعضهم بعضا في فترات من الزمن في الأزياء الجديدة وألوان الطعام والشراب.
ودليل ذلك التقليد الظاهري هو أن المذهب الذي كان سائدا في أثينا ( مركز العصر الإغريقي ) في أثناء القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد كان المذهب الرواقي وكان هذا المذهب وحده هو الذي نُقِل للحضارة الرومانية, بل لم يُنقَل بشقيه النظري والعملي, بل كان الجزء العملي هو الذي عليه الإختيار ( إرضاء لكبرياء الفاتحين, لما يتسم به من الزهو والغرور وتبديل الطبيعة البشرية ومحو معاني اللذة والألم ) ومهما يكن فإنَّ المذهب الرواقي لم يطل أجله، وكان آخر ممثليه في روما هو مارك أوربل.
وكان للتوسع الروماني أثره في دخول والتعرف على ديانات مختلفة ومتنوعة في البلاد الآسيوية والإفريقية وكان وصف هذه الديانات الجديدة إضافة للديانات المحلية مجالا لأقلام الكاتبين من الرومان في القرن الأول قبل الميلاد، فكتب سيسيرون وفارون عن الآراء الفلسفية في طبيعة الألوهية والشعائر والعبادات الرومانية لا بأسلوب النقد والموازنة والترجيح, بل بأسلوب التأويل والتوفيق أو التلفيق بين الآراء المختلفة، أسلوب ينُمُّ عن التردد والحيرة وعدم العناية بالبحث الجدي أكثر مما يعبر عن روح التسامح الديني إلى ذلك العهد.
فالتعبير عن التسامح هنا تعبير غير محرَّر, لأنهم كانوا لا يلتزمون شعائر دين معيّن, بل يشتركون في عبادات متنوعة من ديانات شتى، باعتبارها كلها رموزا لحقيقة واحدة, فهذا المسلك لا يدل على احترام كل متدين لدين غيره، وهو معنى التسامح والإغضاء، بل يدل على الإنحلال وعدم الركون إلى دين ما.

4- العصر المسيحي.
في منتصف القرن الأول بعد الميلاد، دخلت الدعوة المسيحية إلى أوروبا في صورة دين سماوي جديد يأبى أن ينتظم في سلك مع الأديان الوثنية السابقة، ويحاول أن يظهر عليها ويحلَّ محلها.
وكان ما كان من احتكاك وصراع، وتفاعل وامتزاج، بينه وبين تلك الديانات المحلية، ثم  بينه وبين الديانات المستحدثة في عهده، مثل الديانة المانوية، والفلسفة الأفلاطونية الحديثة.
ونظرا للإضطهادات ومقاومات عنيفة شنها أباطرة الرومان على دعاته وأتباعه، جاء الإمبراطور قسطنطين فدعا في أول الأمر إلى المهادنة الدينية العامة، ثم أعلن المسيحية دينا رسميا للدولة، على الصورة التي وضعها المَجمَع المنعقد بأمره في نيقيا 325م.
وكان من ألمع الأسماء دفاعا عن الديانة المسيحية ( القديس أوغسطين ) وهو أسقف كان قد أعتنق المانوية قبل أن يعتنق المسيحية، وله عدة مؤلفات أشهرها ( المدينة الإلهية ) و( الإعترافات ) و ( اللطف ) و أهمها هو السفر الأول، الذي يُعد فلسفة دينية ومدنية معا.
واستمر هذا الطابع الجدلي في العقائد لا بين المسيحية وديانات أخرى بل بين الطوائف المسيحية نفسها، فلم يكن هم الكتاب تصوير العقائد المختلفة كما هي، بل كان الهدف إلتماس مواطن الضعف في كل عقيدة لإبطالها، وإبراز القوة في عقيدته لنصرها ونشرها.

5- العصر الإسلامي.
ظهر الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي، وقد تمكنت الدعوة من الخروج خارج إطار مكة المكرمة في تاريخ 622م ومن بعدها كتب الله لها الإنتشار الواسع في كل الجهات ولم يمض قرن واحد حتى سرَت في أقطار أوروبا الغربية حاملة معها علوم الإسلام وآدابه، مضافة إلى علوم اليونان وفلسفتهم، وإلى جانب علوم الشرق أيضا.
وليس بالمفاجئ أن يكون الغرب عالةً على العرب في علوم الشرق، بل المفاجئ هو أن يكونو عالة عليهم في علوم أوروبا نفسها، وأن يبقى كذلك حقبة مديدة من التاريخ، وقد مضى العصر الروماني ولم يستفد من تراث اليونان، وكذلك العصر المسيحي الذي شُغل بخلفاته الداخلية، وهكذا ظلت غرب أوروبا طيلة هذه المدة في شبه عزلة عن شرقها، ولم يفتحوا أعينهم على تلك الكنوز العقلية إلا وهي في أيدي العرب المسلمين الذين جاؤوا من وراء البحار في أوائل القرن الثامن.

عندئذٍ هرع الناس من كل حدبٍ وصوب ينهلون من علوم المسلمين وكان من أوائلهم اليهود، وقد قاموا بنقل العلوم من العربية إلى العبرية ومنها إلى اللاتينية.
ولو أن روما انشغلت بنقل تراث اليونان بدل انشغالها بالخلافات الداخلية لوفرت على نفسها عناء نقل العلوم عبر ترجمات متعددة، ولكن الأمانة التي عجزت عن آدائها الحضارتين اليونانية الرومانية في جميع عصورهما نهضت بها حضارة الإسلام في لغته العربية، واستقلت بحملها قرةنا متوالية ( من القرن الثامن حتى القرن الثالت عضر أو يزيد ) فليس في علماء أوروبا اليوم من ينكر أن نقل فلسفة أرسطو وعلومه تم على يد إبن رشد ( القرن الثامن عشر ) وليس هناك من ينكر أثر ذلك على فلسفة توماس الإكويني ( القرن الثالث عشر ) وهناك آثار أخرى قام بها العلماء المسلمون في مناحٍ شتى في العلوم ولكن الذي يعنينا هنا هو اسهاماتهم في علم الأديان.
ومما يميز اهتمام المسلمين بدراسات علم الأديان هو أنهم قد قاموا بإضافة طابعين جديدين لم يسبق إليه أحد غيرهم فيما نعلم:
- الأول: تميزهم بأن أصبحت هذه الدراسات وصفية وواقعية، منعزلةً عن باقي العلوم والفنون، شاملة لكافة الأديان المعروفة في عهدهم، فكان لهم بذلك فضل السبق في تدوينه علما مستقلا، قبل أن تعرفه أوروبا الحديثة بعشرة قرون وهو إذ ذاك علما مغمورا في لُجّة الأحاديث عن شئون الحياة، أو بحوث نفسية وفلسفية وجدلية وما إلى ذلك.
- الثاني: أنهم في وصفهم للأديان لم يعتدموا على الخيالات والظنون، ولا على الأخبار المحتملة للصدق أو الكذب، ولكنهم كانوا يستمدون أوصافها من مصادرها الموثوقة، ويستقونها من منابعها الأولى، وهذا بعد خطوه علما مستقلا، أصبح له منهجا علميّا سليما.

5- عصر النهضة الأوروبية.
بدأن أوروبا الغربية في القرن الثالث والرابع عشر تستيقظ رويدا رويدا، وتتلفَّت بأنظارها إلى الشرق الذي كان مبعث نورها، فجعلت تبعث إليه البعوث من رجال الدين حتى وصلوا إلى بلاد الهند والصين واطلعوا على دياناتهم.
« بحلول القرن الخامس عشر انعطف تاريخ البشرية حيث بدأ التاريخ الحديث، الذي ستكون مهمته الخلاص من ظلام القرون الوسطى ونزعتها الدينية الشمولية، تخلصت أوروبا دفعة واحدة من أكبر نظامين دينيين شموليين فيها، الأول هو النظام البيزنطي المسيحي الأرثوذكسي النزعة، عندما سقطت الإمبراطورية البيزنطية عام ( 1454م ) على يد السلطان العثماني محمد الفاتح، والثاني النظام الأندلسي الإسلامي عندما سقطت الدولة الأندلسية واستعيدت إسبانية إلى الحظيرة الأوروبية عام ( 1492م ) على يد إيزابيل وزوجها فرناندو فكأنها تخلصت من التاريخ الوسيط كله، الذي كانت الديانتان المسيحية والإسلامية تتقاسمانه في العالم. »  علم الأديان ( ص 97 )
وفي القرن الخامس والسادس عشر وهما أول العصر المسمى بعصر البعث أو النهضة، انبعثت همتهما للاطلاع بنفسها على علوم اليونان وآدابهم وفنونهم القديمة باللغة اليونانية ومحاولة التنقيب عن الآثار الأسطورية وما ترمز إليه من عقائد أو حوادث تاريخية، ولم تلبث أن ظهرت حركة الإصلاح المسيحي ( البروتستانتية ) في منتصف القرن السادس عشر، فكانت مكملة لجانبٍ من هذه النهضة العلمية في أوروبا، بما مهدّت له من دراسات في اللغة العبرية ( يذكرون أن هذه العناية البالغة باللغة العبرية كان مبعثها الإعتقاد بأن هذه اللغة هي لغة الإنسان في أول نشأته اعتقادٌ اشترك فيه الكتاب البروتستانت والكاثوليك على السواء ) واللغات السامية الأخرى، بُغيةَ التفهُّم لنصوص التوراة والإنجيل، التي كان رجال الإصلاح يتمسكون بحرفيّتها، ولكنَّها من جانب آخر أغرقت أوروبان في حمأة المنازعات والحروب الدينية، التي عوّقت حركة اكتشاف الأقاليم ونشر المسيحية فيها، ولذلك بقيَ البروتستانت قرنين من الزمان لا يساهمون في هذه البعوث وكان الكاثوليك ( اسبنان وبرتغال وفرنسيين ) هم القائمين إذ ذاك وحدهم بأعبائها.
حتى كان آخر القرن الثامن عشر، وهو الوقت الذي نشطت فيه حركة التأليف في وصف عقائد هؤلاء الأقوام وعوائدهم، فهناك اشرأبت العقول إلى السؤال عما كانت عليه دينة الإنسان الأول، وبُذِلت محاولات لاستنباط الطريق الذي سارت فيه الديانات منذ نشأة الإنسان إلى اليوم، ومعرفة أسلوب تطورها، أو تولّد بعضها عن بعض.
وعلى إثر ذلك انقسم علم الأديان إلى شعبتين: ( شعبة جديدة مبتكرة ) و ( شعبة قديمة نالها شيء من التجديد ).
- الشعبة القديمة المجدِّدة: وتعرّف على أنها تلك الدراسات الوصفية، التحليلية، الخاصة بملةٍ ملة، وهي تُعنى بنشأة ديانة ما وحياة مؤسيسها، ومقومات عقائدها وعباداتها، وأسباب انتشارها، إلى غير ذلك من المعاني التي ما زالت مجالا لحديث الناس منذ اختلفت مذاهبهم؛ وهي ما تسمى ب ( تاريخ الأديان ) أو لو أنصفنا تسمتها لسُمّيت ( تواريخ الأديان ).
وفي الصورة المقابلة توضيح لعنصر التجديد في هذا القسم.
Image title

- الشعبة الجديدة المبتكرة: فهي ضرب من الدراسات النظرية، والاستنباطات الكلية، التي تهدف إلى اشباع نهمة العقل في التطلع إلى أصول الأشياء ومبادئها العامة، حين تتشعب عليه جزئياتها وتفصيلاتها.
والمستقرئ للملل على كثرتها سيجد بينها روابط ومواطن تشابه تتلاقى عندها عندها كل الديانات، وسيجد في نفسه إذ ذاك باعثها يصعب مقاومته للبحث حول هذه المبادئ العامة، وجمعها في وِحدة كلية يحدد بها طبيعة الدين من حيث هو.
كما أنه يرى أن ظاهرة التدين عامل مشترك بين الأمم الحاضرة والغابرة، البادية والمتحضرة، وحينئذٍ لا يستطيع أن يدفع عن نفسه السؤال عن منشأ هذه الظاهرة العالمية ومصدرها، هل لها منبع في طبيعة الفرد أو مجتمع؟ وليدة المصادفة أم نتيجة صنعة وابتكار؟ هل مرّت بسلسلة معينة سواء كانت تصاعدية أو تنازلية أم كانت ظاهرة عشوائية؟
هناك العديد من الأسئلة وأشباهها قد يطرأ على تفكير الإنسان لاسيما إن لم يكن هناك مصدر أو محتوى قادر على جمع هذه المعلومات ورصدها والسعي لربطها حتى تخرج في صورة سلسة وقادرة على رسم تصور واضح لهذا العلم وتأسيسه بشكل يعين القارئ على التعامل معها في إطارها الصحيح ( الديني ) والتأثير على رؤيته للوجود.