صوت هائل هز النجف، نيران ملتهبة تضرب كبد السماء، دخان أسود يعمي الأبصار، صياح وعويل يخرج من الحناجر، ورائحة شواء الأجساد المحترقة تزكم الأنوف، حشود بشرية تتلاطم جيئة وذهابا، تهرول نحو الأجساد المتناثرة، بحثا عن السيد العظيم الذي إرتقى الى السماء مستبشرا.
ما الذي حصل ؟!
لقد أستشهد الحكيم محمد الباقر في سبعين من أصحابه في ظهر الكوفة !
ذلك الرجل الذي ولد في النجف، وتربى فيها وسط عائلة مرجعية، حملت على عاتقها الدفاع عن الأمة، والوقوف بقوة ضد حملات الظلم والتجهيل، جاء بعد ربع قرن من الغربة، وهمه أن يمنح شعبه الحرية والأمان، ويساهم في بناء نظام، يختاره الشعب العراقي، أساسه العدل والمساواة.
قبل إستشهاده بأيام قليلة، يخبر عائلته بأن مكوثة لن يطول بينهم، وكأن هذه الأرض تأبى أن يعيش عليها، فرفض جسده أن يدفن فيها، وعرجت روحه الى السماء، وهو صائم كجده علي " عليه السلام "، فقد إستجاب لطلبه حين سأله : " ياجداه .. أترحب بي كما يرحبون بي ؟ " فجاءه الرد: " أهلا ومرحبا بإبني وفلذة كبدي "، فكان الإستشهاد بجوار الضريح المقدس، عنوان القبول وعلامة الرضا، وحسن الخاتمة.
لم يكن محمد باقر الحكيم شخصا وليد صدفة، أو حدثا عابرا انتجته أحداث طارئة، بل كان رسالة معبرة عن أهداف أمة، ومشروعا سياسيا وثقافيا واجتماعيا متحركا، ومنهجا ثوريا للدفاع عن شعب بكافة طوائفة الإجتماعية، أذاب وجدانه، وأرخص نفسه، من أجل أعلاء كلمة الحق، ومواجهة أعاصير الظلم والطغيان، فكان الشجرة المثمرة، التي تغذي الثورة، ويستظل بفيئها الأحرار.
عاد الحكيم الى الوطن، وكل من إستقبله يتمنى أن يحمله على كتفه، لكنه كان حاملا روحه بين راحة كفيه، غارسا مشروعه في قلوب الملايين من أبناء شعبه، فقد أراد وطنا حرا، لاتابعا ولا محتلا، ودستورا يكتبه العراقيون بأيديهم، وحكومة منتخبة، تقيم الحق والعدل والإصلاح بين الناس، لكنه ذهب على حين غرة، وبعض أحلامه لم تبصر النور بعد، لكن شجرة الحكيم ما زالت تأتي أكلها.
رحل الحكيم جسدا، لكنه ما زال حاضرا روحا ورمزا، وتاريخا إمتد لأكثر من نصف قرن، غرس خلالها قيم الجهاد والفداء والتضحية، فكان كابوسا يقض مضاجع الظالمين، وحلم الأمة من أجل رسم غدها المشرق.