Image title

في رحلة العودة من الجولد كوست إلى ملبورن و على هاتفي المحمول بعد أن فَعّلتُ فيه خاصّية الطّيران، التي قد تطول لقرابةِ الساعتين و النّصف. 
أحاول أن أستخلص بعض الأفكار من تجربة الأيام الثلاث الماضية التي قضيتها في مدينة ساحلية سياحة، كانت الشركة التي أعمل بها قد نظّمت فيها رحلة ترفيهية إحتفاءً بتجاوزها الربح السنوي المتوقع و تحقيقها نمواً في العوائد من مرتبة الخانتين!
جالسٌ في مقعدي و صوت ضجيج محركات الطائرة تصارع صخب الليالي السابقة اللتي مازالت تدور في رأسي، هذا الصخب و المرح العارمين اللذين أختبرتهما جعلاني أسترجع بعضاً مما قرأت من كتاب "العادات السبع للناس الأكثر فعالية" لستيفن آر كوفي حينما ذكر بعض أشهر مراكز التمحور التي يعتنقها الناس و يجعلون مغزى وجودهم في هذه الحياة يدور في فلكها، فيضعون أنفسهم في منتصف هذه التصورات لتكون حياتهم بِرمّتِها مرهونةً بنجاح أو فشل ما أعتقدو أنه طوق نجاتهم!

فترى بعض الناس يأخذون الحياة العاطفية محوراً لحياتهم، لتكون التقلبات المزاجية للشريك كفيلة بتدميرهم إن حدثت.

و البعض الآخر يأخد من المحور المادي أساساً للإستقرار و الأمان و مقياساً للإنجاز، فيلهث وراء جنيِ المال كأولوية طاغية على أي توجه آخر إلى أن يمرّ العُمر بسرعة و يكتشف أن المال لم يكن كل شئ و أن هناك أموراً أهم كان عليه أن يعطيها بعضاً من الإهتمام هي الأخرى، كالصحة أو علاقته بأطفاله و عائلته...

و تطولُ القائمة من تمحورٍ حول الأسرة إلى العمل أو التّملك، فالصديق أو العدو و لا يسعني هنا أن أفنّد في كل واحدة، و لكن ما يعنيني الآن و هو ما أود مشاركته إيّاكم من هذه القائمة هو المحور الذي جعلني أتفكّر في تجربةِ الأيّام الثلاثة الأخيرة و هو:

تمحور الحياة حول " السَّعادة و المرح " 
كان لي مع هذا المحور صولات و جولات من واقع تجربة الهجرة التي خضّتها منذ قرابة الأربع سنوات لأكثر بقاع الأرض سعادة، حيث حلّت المدينة التي أقطنها مركز الصّدارة لعدة سنوات متتالية كأفضل مدينةٍ للعيش في العالم.
أولى ملاحظاتي كانت مع أول خطوة خطوتها في شوارعها هي الكمّ الهائل للطاقة الإيجابية التي يمكن أن تتلمّسها تتناثر مع الإبتسامات العريضة للناس من حولك، فالكلّ هنا مبتسم و باللاشعور تجد نفسك أنت الآخر تبتسم كرد فعل لا إرادي، فسبحان الله ماهذا السر العظيم اللذي يقف وراء الإبتسامة اللتي قد نجهل حقيقة أبعاده و أثره العميق على صعيد الفرد و المجتمع و اللذي أراد الرسول الكريم صلوات الله و سلامه عليه إيصاله لنا نحن معشر المسلمين من خلال الحديث القائل : ((إبتسامتك في وجه أخيك صدقة)). 
كما أنّ للتحية و السلام المنتشرة في المصعد و على مداخل الأسواق و في العمل و إينما حلَلت حصّة الأسد في نشر تلك الرّاحة و الطمأنينة و المودّة بين الناس، حيث تجد نفسك جزءاً من حوار عفَوي ينشأ بعدها ربما للحديث عن اللا شئ! إنما هو التحدّث بهدف الحديث نفسه لكسر العزلة الفردية و إنشاء جسور مودّة، هذه الجّسور التي لا تعرف الطبقية، فالكل هنا سواسية و الطبيب أو المحامي لا يعلو بقيمته الإنسانية الفردية عن السّباك أو عاملة المرآب ذي الستين خريفاً. فسبحان الله كيف أن هذه المدنيّات المتحضّرة أصبحت تطبّق من حيث الشّكل بعض من التعاليم الإسلامية أكثر من المسّلمين أنفسهم. وهنا أسترجع قول رسولنا الكريم صلى الله عليه و سلم في السّياق ذاته : ((والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم)).

لكنّ البريق الذي يشعُّ من بعض جوانب هذه الحياة و اللوحة الرائعة التي ترسمها يكاد يخبو عندما تتعمّق أكثر ما وراء هذه المشاهدات البسيطة لتجد أن بعض أفراد المجتمع قد غالى في تقديره للسّعادة، حيث جعلها محوراً لحياته بل نصّبها كهدف يكاد يكون وحيداً يسعى إلى الوصول إليه بشتى الوسائل. فالهدف من الحياة كلّها أصبح السعادة و لا شئ سواها!
فأصبحنا نرى مناهج تعليمية غايتها إسعاد أفراد المجتمع و ليست إنتاجيتهم المادية بحكم أن الأفكار أصبحت تشكّل الموارد الأغلى في هذا العالم المتخم من المادة،
و شركات تدار سياساتها التّسويقية بالمتعة و المرح ( كما سوّق لها أحد أقسام شركتنا في أحد الحفلات من الأيام الثلاثة الماضية).

في الواقع لا أرى ضيراً في أياً من نماذج المبالغة في نشر السعادة السابقة ولا حتى في أن تكون السعادة في حدِّ ذاتها هدفاً إلى حدٍّ ما، حيث يقول ستيفن "إن السعادة البريئة المعتدلة تساعد الجسم و العقل على الاسترخاء كما أنّها تدعم الأسرة و تعزز العلاقات"... يتابع القول "ولكن السعادة وحدها لا يتمخضّ عنها شعور عميق و دائم بالرضا أو إحساس بالإشباع. فسرعان ما يشعر الشخص اللذي تتمحور حياته حول السّعادة بالملل مع كل مستوى يصل إليه من مستويات المرح و يصبح نهماً لتحقيق المزيد، بمعنى أن المرحلة التّالية للسّعادة لابد أن تكون أكبر و أفضل و أكثر إثارة. عند هذه المرحلة يتحول الشّخص إلى إنسان نرجسي يفسر الحياة من منظور قدر السعادة الفورية التي يحصل عليها."

من هنا تكمن نقطة ضعف تمحور الحياة حول السعادة و فقط السعادة لا غير! فهو محور لا يمكن إشباعه و لا يمكن تعريف حدود واضحة له حيث سعت المجتمعات منذ الأزل إلى إكتشاف عتبات جديدة للسعادة و البحث عن الرضا المطّلق و لكنّها واجهت حقيقة إرتباط السعادة بتحقيق أشياء حتمية مادية أو معنوية ملموسة للفرد كالمال أو الجاه أو السلطان و غيرها.... 
و لصعوبة تغير الواقع لتحقيق هذا المنال، أصبح أخذ الفرد و تغيبه عن الواقع هو الحل الأبسط و الأقل تكلفة و الأسرع تحقيقاً. فكوب وسكي و قليلاً من البيرة كفيلان أن يفصلان الإنسان عن واقعه بغضون ساعاتٍ قليلة و يأخذانه إلى نشوة الإنعزال عن مشاكله لفترة آنيّة محدودة تشعره بسعادة وهمية عارمة لا يلبث أن يصحو منها في اليوم التّالي بجسد منهك و هو على حاله اللذي لم يتغير ليجعل ذلك من الأمر أكثر سوءاً.

الغريب في الأمر أن وصفة السّعادة السّحرية و الرخيصة هذه أصبحت منتشرة لا بل مهيمنة على المجتمعات بشكلٍ شبه تام، فما هذا السّحر وراء ذلك الكأس اللذي لا تلتأم الصفقات إلا بإرتشافه و لا تكتمل الحفلات الخاصة منها أو العامة إلا بالإنتشاء به!
ما هذا العُرف اللذي أصبح مألوفاً و سائداً ! كبُرَت و ترعرت عليه أجيال يكادُ بعدها من المستحيل تغير أو فك هذا الإرتباط الوثيق لديهم بين مفهوم السّعادة مع مفهوم تغيب العقل!

و ها هي البشرية اليوم تقف على حافّة عتبةٍ جديدة من عتبات وصفات السعادة السحرية من خلال شرعنة تدخين الماريونا في كمٍّ لا بأس به من الدول و لكنها وقفة ماتزال خجولة بعض الشئ حيث أن نفخة واحدة من سيجارة ماريونا لرائد التكنولوجيا إيلون ماسك على الهواء مباشرة أمام متابعيه كانت كفيلة بتغريمه عشرين مليون دولار و خسارة شركته (تسلا) في يوم تداول واحد عشرة بالمئة من قيمتها السوقية اللتي تقارب الخمسين مليار دولار. فهل كان إيلون ماسك ينبّؤنا بملامح عصرٍ جديد و هو المؤسس للعديد من الشركات الثورية اللتي غيرت مفاهيم عديدة على سطح كوكبنا كشركات Paypal, SpaceX and Tesla.

عصرٌ تصبح فيه سجائر الماريوانا و لربما الآيس عُرفاً سائداً كما هي المشروبات الروحية اليوم, سجائرٌ تُقَدَّم في احتفالات الشركات الخاصة و لربما المؤسسات العامة من ضمنها موائد رؤساء الدّول! 
ثلاثة أيام قضيتها لم يشفع لها مجال العمل التقني في حقل الرعاية الصحية أو نوعية الحضور من أطباء و مهندسين في أن يكون العنوان العريض للمرح و البهجة فيها هي المشروبات الروحية التي كانت رشفات كؤوسها أكثر الطّرق المختصرة و أسرعها لتحقيق سعادة عارمة و صاخبة عمّت المكان على مدار الساعة. لربّما أحتاجت الشركة لتنفق مئات الملايين من الدولارات لتحقيق ربع مقدار هذه السعادة لدى موظفيها إن كانوا برؤوسٍ صاحية!!! 

تحطّ عجلات طائرتي على أرض المدرج لتعلن إنتهاء رحلةٍ صغيرة في أحد فصول السعادة الذي لم آلفه في قاموسي و لم أجد له تعريفاً في ثقافتي، و أنا واثقٌ أنّ الطريق أمامي مازال طويلاً لأكتشاف فصولاً أخرى مازلت أجهلها.
أصبح بإمكاني الآن أن أطفئ خاصّية الطّيران على هاتفي لأجري مكالمة مع عائلتي و أعود لممارسة الحياة اللتي نص عليها دستوري و الإستمتاع بطقوس السعادة المضبوطة التي أعتدتُ عليها.