يقال أن ثمة فارق بين تعريف الكذب تاريخيا كما اتفقت عليه البشرية في أدبياتها الموثقة، وبين ما هو قائم في الواقع من أشكال لا حصر لها من الكذب ، أو ما يمكن أن نسميه "ما يحدث فعلا من الكذب".


فالعمل الأدبي هو فن صناعة الكذب ، وكلما استطاع الكاتب أن يلغي الحدود التي يصنعها عقل القارئ بين الحقيقة والكذب في سطوره ، عبر المزيد من الكذب المنمق، فإن الكاتب بهذا  يثبت براعته الفنية ، ويؤكد على حرفية صناعته. لذلك قالت العرب : أعذب الشِّعر أكذبه!


لكن في أيامنا المعاصرة، نجد المتلقي للآداب والفنون الإبداعية قد اختلفت ذائقته. ففي زمن ماضٍ كان الجمهور يبحث عن المؤلف الذي يبتدع فكرة أصيلة من محض خياله، ويعطيه القارئ من جهده ووقته مع إرادته الجازمة لأن يصدق خيال الكاتب ويعيش به ومعه. وهذا وإن كان مرهقا للكاتب؛ غير أنه أخرج لنا كنوزا من الخيال والأفكار والأسماء التي أتقنت من الكتابة ما يعني شحذ القريحة ، وتفتيق المخيلة حتى لو استمدت عناصر ثيماتها من الواقع.

حتى أتينا إلى حال مزاجنا القرائي اليوم، فقد صارت الأعمال الأكثر رواجا ، مكتوبة ومشاهدة ، هي التي تقوم على قصة حقيقية، أو مستوحاة من وقائع حصلت وأثبتت، وكأننا نخرِّب ذاكرة الزمن بإيقافها عند لحظة معينة. 

هل هو نوع من الولع الشديد بالنميمة الجماعية ، أم كشف المستور عن حيوات أخرى نريد أن نعتقد أنها لبشر حقيقين مثلنا؟! لا شك أنه ، ومهما كانت الحرفية المقدمة في إعادة صياغة الوقائع كتابة وصورة ،إلا أنها تحمل خطورة على القيمة العليا للإبداع وهي (الخيال) ، أو الكذب في الفن! 


تدهور مستوى الطرح الأعلى في الأعمال الأدبية ناتج عن تقييد مساحة الخيال في عقل الكاتب . 

الأدب ليس إعادة إنتاج للواقع فحسب، فهذا جزؤه الضئيل، إنما هو في أصالته فرض واقع آخر نضج واستحكم في شهية الكاتب نحو المزيد والمزيد فعلا من الكذب .