منذ طفولتي وأنا أعتقد أنه عليَ التحدث بصورة أكبر من عمري كي أعجب الآخرين، عليَ أن أفكر كثيرًا لأصل إلى معنى وفهم يثير إعجاب من حولي، كما عليَ سماع جملة "عقلها أكبر من سنها" دائمًا، وهذا وضعني تحت نوع من الضغط، وعندما تخطيت العشرين من عمري وصرت في مرحلة الشباب، لم يعد لهذه الجملة وجود بل استبدلت بجمل أخرى كــ "ربنا يكملك بعقلك" وكلام من هذا القبيل الذي كان يطربني.

وحتى وقت قريب..توقفت..اسأل نفسي..ماذا جنيت من ذلك كله؟!، ماذا جنيت من التفكير المبكر العميق؟! ومن جمل الإطراء؟!..لا شيء..حقيقة لا شيء..بل أدركت "وأحسبني بطيئة الإدراك"..أنني وحدي بعقلي لن أصل أبعد من بوست على الفايس بوك يكشف عن الجهل أكثر ما يكشف عن العلم..فأنا لا أملك معلومات متصلة ومتشابكة تنتهي بي إلى علم متين. وهذا مخيب للآمال.

فالجاهل يظن أنه يعلم الكثير، ويحمل ذمته العلمية أكثر مما تطيق، بالتطرق لمواضيع لا يعلم عنها سوى كلمة سمعها من هنا أو هناك. ولكن حينما يسلك طريق العلم الحقيقي يدرك أنه طريق طويل يحتاج إلى جهدٍ وصبر، وأن له لذة في ذاته بعيدًا عما يجنيه من حوله من شهرة وإطراء..بل يكفي إزالة الجهل نسبيًا عن العقل والعمل على إفادة الغير، دون أنانية.

أما الآن وقد أصبحت أقول " لا أعلم" أو "سأبحث في الموضوع" أو أتكلم بالقليل الذي قرأته معترفة بأن الموضوع أكبر من ذلك ويحتاج إلى الكثير من البحث والتعلم.. فإنني أشعر براحة وأقدر ذاتي كما هي. فالحقيقة تجعلنا نتقدم، وتفيد أكثر ما تضر، أما عن الوهم فإنه في الغالب يضر. 

كنت أحيانًا أتعجب من المصطلحات التي يستخدمها المثقفون، وأقول لما لا أعرف هذه المصطلحات وأقولها مثلهم؟، وكأن هناك كتاب يباع يدعى "المصطلحات العميقة" يشتريه البعض ويحفظها ويستخدمها في حياته اليومية، ولكن الموضوع أبسط وأعقد من ذلك بكثير، والبساطة تكمن في أننا نقوم بتحصيل المصطلحات أثناء تحصيل العلم بشكل تلقائي، والتعقيد في أن العلم فروعه كثيرة ولا يتسع لشخص واحد أن يكون مُلمًا بكل فروع العلم ومصطلحاته. وفي النهاية فالمصطلحات تعد نوعًا من المظاهر التي تدين الشخص أكثر مما ترفعه، فأنت حينما تستخدم مصطلحًا يبدو قويًا ومعقدًا، فعليك أن تخفي وراءه الكثير من العلم والقراءة والإطلاع، ولكن عندما يتضح للجميع أن معرفتك سطحية بالنسبة لما تستخدمه من مصطلحات فلن يكون موقفك محمودًا على الإطلاق. 

يقول جورج برنارد شو: "احذر من العلم الزائف، فهو أخطر من الجهل."


وأقول: "أن أتكلم في المقدمات بعلم، أفضل من أن أتعمق بجهل".