كتاب ( تشكيل العقل الحديث ) محاولة لرسم تصور أو ما يمكن تسميته بانوروما فكرية تساعد في توضيح صورة نشأة العقل الحديث والذي يقصده به تحديدا العقل الأوروبي الأمريكي.
" العقل هنا هو العقل الأوروبي الأمريكي- إذا جاز
لنا القول بأن ثمة عقلا لمجموعة من الـشعـوب -
والمقصود تيارات الفكر الأساسية وروافدهـا التي
تلاطمت على الساحة الأوروبيـة أسـاسا وصاغـت
المزاج الفكري لإنسان العصر الحديث في القارت
الأوروبية والأمريكية.
وقد كانت لهذا العقل السيادة
الحضارية بعد فترة سبات وجاهـلية امـتـدت فـي
أوروبا من انهـيار الإمبراطورية الرومانية حـتـى
انبعاث حركات الإصلاح والنهضة والتنوير.
وانعقد لهذا العقل لواء السيادة الحضارية على مدى خمسة
قرون ولا يزال متصدرا مسيرة الحضارة الإنسانية.
ويحكي الكتاب قـصة هـذه المسيرة وصراع هـذه
التيارات الفكرية ودراما التحول الاجتماعي الثقافي
على أرض القارة الأوروبية.
وقراءة هذا الكتاب محاولة جيدة لرسم تصور عن الطرف الآخر من وجهة نظر شخص منهم, وهذا جيد ليكون له المقدرة على تحديد ما يراه من وجهة نظره إما نقاط قوة ونقاط ضعف.
فمحاولة التصدي للآخر تتطلب منك إلى جانب عوامل أخرى رسم تصور عنه ومعرفة ما هي نقاط قوته ونقاط ضعفه وما هو مؤمنٌ به وما هو غير ذلك, وكان الكاتب هنا يحاول جعل الأمور أقرب للحياد ( الذي يكون في أغلب الأحيان متوهما ).
ينقسم الكتاب إلى 8 فصول, في الفصل الأول ( بناء العالم الحديث ) تحدث الكاتب حول الحركة الإنسانية وما ترتب عليها من ( نهضة وإصلاح ) على المستوى الديني والثقافي. وتحدث عن صعوبة تحديد موعد زمني لبداية هذه الحقبة بتاريخ معين ليكون قادرة على رصد الظواهر التي تنشأ كردات فعل لهذه المرحلة.
" لم يكن التحول من جاهلية العصور الوسطى إلى العصر الحديث سهلا
بل كان صراعا طاحنا ومعارك وانقـسامات واتهامات بالكـفر والزندقة
وأحكاما بالقتل والتعذيب والحرمان. وبدأ الـتحول تـدريجيا بين صعـود
وهبوط ولكنه استمر واتصل. وحاولت قوى جاهلية العصور الوسـطى أن
توقف التاريخ عندها مثلما يحلو لكثيرين الظن أن التاريخ قد توقف عندهم
وانتهى بعد أن قالوا كلمتهم. "
وكانت طبيعة الحركة الإنسانية هي بدء لحالة جديدة من النظرة الكونية التي جعلت من ذات الإنسان محلا للدراسة ونشأة مذاهب ترى الإنسان خيرا بطبيعته وهذا جعله قادرا على اختيار الأفضل له وليس بحاجة لوجود تشريع يتحكم به ليرى من خلاله ما توجب عليه فعله وما لا يتوجب عليه فعله, وفي المقابل تم رفض الرؤية الدينية التي ترى بوجود الخير والشر في تركيب الإنسان واحتياجه الفطري لمرجعية ميتافيزيقية تؤسس له نظام الحياة وتخبره بالأفضل له فعلا وتركا وما إلى ذلك حتى أصبحت ثنائية فصل الدين عن الدولة والنظرة العلمانية للحياة العامة والنظام الديموقراطي ك نظام تسيير للحياة السياسة وكحاكم لمبادئ الأفراد ومركزية الإنسان.
تطرق الكاتب في الفصل الثاني للحركة البروتستانتية ونشأتها وعلاقتها بنشأة نظام رأس المال وأثره في تشكيل العقل الأوروبي ك ردة فعل على غطرسة الكنيسة وكونها تمددت حتى تدخلت في تفاصيل الحياة وتطور الحياة العلمية من خارج الكنيسة وتصورهم أن الكنيسة كانت ترفض العلم جملة.
في الفصل الثالث كانت الحركة العقلانية هي ومركزية هذه المرحلة تتمثل في نشأة العلوم الطبيعية والأفكار الفلسفية المؤسسة للمبادئ السياسية, وكانت هذه المرحلة هي مرحلة تشكل نظرة العقل الأوروبي للحياة والإنسان ورسالته في الكون, وأثر عالم التأليف والطباعة على نشر هذه الأفكار.
كان الفصل الرابع والخامس محورا لتأسيس النظرة الكونية الجديدة وأبرز المفكرين الذي أثروا في هذه المرحلة, ومن أبرز هؤلاء المفكرين فريدريك نيتشه وتشارلز دارويين صاحب نظرية التطور والنشوء الطبيعي والذي ترمز نظريته لكون العالم في حالة تقدم مستمر ومادام الأمر كذلك فالحياة تحتاج منا صراع مستمر حتى نواكب هذا التطور والتقدم ويصبح الصراع المادي وكون الإنسان مادة ( حيوان متكلم ) هو السمة السائدة لإنسان الفكر الغربي.
في الفصول الأخيرة ( السادس والسابع والثامن ) تحدث المؤلف عن القرون ال19 و ال20 ومنتصف القرن ال20 وطبيعة الهجمات التي تعرض لها العقل في هذه المرحلة, وكونها اتسمت بالنقد والردة على الأفكار وظهور مدارس أخرى مختلفة تنقد ما قد سبق, وتحدث حول مكانة التأليف في هذه المرحلة ونشأة فكرة ( اليسار واليمين ) ونشأة الحركات أمثال الفاشية أو النازية وتأثرهما بالإختلافات البيولوجية ( الجنس السامي ) ونشأة المذاهب الوجودية والحط من قيمة العقل وكونه غير قادر على تسيير أمور الحياة وأثر نيتشه في ذلك.
" ولكن هل حقق الإنسان غايته ? هل في الإنسان الفردوس المنشود ? ها
هنا عقدة الرواية التي حفزت المؤلف إلى أن يقدم كتابه. فالعقل الأوروبي
تصدعه أزمة طاحنة تكاد تكمل قرنا من الزمان. ويحاول المؤلف استقراء
الماضي واسترجاع أحداثه وتناقضاته ليعرف كيف صاغـت الأحداث هـذا
العقل وما هو الخيط المتصل الباقي وصولا إلى تشخيص أسباب الأزمة
التي يعيشها هذا العقل على الرغم من النجاحات التي حققها. إنه عقل
منتصر على الطبيعة ومنتصر على بيئته ولكنه غير متوافق .. إنه متمرد
غير قانع ولا راض .. لماذا؟ وما هي أزمته حقا؟ "
في النهاية, كانت محاولة رسم تصور عام لهذا الكتاب الذي يقارب على ( 390 صفحة ) أمرا صعبا لتشعب الأفكار وتداخلها وتطلبها لخلفية مسبقة حول بعض الأفكار الفلسفية ونشأتها وما إلى ذلك.