بقلم: علي طه النوباني
قبل سنتين أو ثلاثة أوردت واحدة من موسوعات الشعر العربي سيرتي الذاتية كشاعر ونشرت معها واحدة من قصائدي، لكنها قامت بحذف تسعة أبيات من نهاية القصيدة تتحدّث عن الخمر، وقد لفت ذلك نظري في تلك الأيام، وذكّرتني به هيئاتُ تحرير المجلات الأدبية العربية التي تصرُّ إصرارا شديداً على استقبال نصوص مهذبة مؤدبة لا تتطرق إلى أي من التابوهات المحظورة في بلادنا المنكوبة بوصاية المتخلفين على الفكر والعقل والإبداع، بل هي غالباً لا تتطرق إلى أيّ شيء يذكر على الإطلاق .
وقد ذكرني ذلك بشخص استشارني فيما يمكن أن يفعله إذا ما سافر إلى مدينةٍ عَرَفَ أنّي زرتها مراراً، وأتبع استشارته بعبارة فجَّرتْ كلَّ قواعدِ المنطق في رأسي حيث قال: موضوع الخمرة مرفوض لديَّ قطعياً، أما النساء فلن أرفض إنْ توفر لي ذلك. ولمّا لاحظ استهجاني أضاف: الخمرةُ حرام!، قلت له: والنساء؟ فقال: الله غفور رحيم.
أين كان يعيش الشعراء الذين كتبوا هذا الكم الهائل من الخمريات وشعر المجون والغلمان عبر التاريخ العربي، هل كانوا يعيشون مطاردين في الجبال؟ هل هاجم الخلفاءُ النساخَ الذين نسخوا ديوان أبي نواس بتهمة الإساءة إلى المكونات الثقافية أو الدينية للمجتمع؟ ومَن هو - في هذا الزمن الرديء- أكثر تقوى وأشدُّ إيمانا من هارون الرشيد والأمين والمأمون ليقوم بتكبيل ألسنة الشعراء وخنق المثقفين وقتل التفكير وتقييد حرية التعبير.
عاصر أحمد بن حنبل الخليفة المتوكل أكثر من ستة سنوات، ولم يطلب من الخليفة أن يقتل أو يسجن البحتري شاعر البلاط المفضل لدى المتوكل على الرغم من أنّ البحتري يتغزل غزلاً فاحشاً بغلامه " نسيم"، ويذكر الخمرة والغلمان الحسان جيئة وذهاباً في قصائده بل ويدلل الخمر بأسمائها الكثيرة عند العرب:
زِدني اِشتِياقاً بِالمُدامِ وَغَنِّني أَعزِز عَلَيَّ بِفُرقَةِ القُرَناءِ
فَلَعَلَّني أَلقى الرَدى فَيُريحُني عَمّا قَليلٍ مِن جَوى البُرَحاءِ
أَخَذَت ظُهورُ الصالِحِيَّةِ زينَةً عَجَباً مِنَ الصَفراءِ وَالحَمراءِ
نَسَجَ الرَبيعُ لِرَبعِها ديباجَةً مِن جَوهَرِ الأَنوارِ بِالأَنواءِ
بَكَتِ السَماءُ بِها رَذاذَ دُموعِها فَغَدَت تَبَسَّمُ عَن نُجومِ سَماءِ
في حُلَّةٍ خَضراءَ نَمنَمَ وَشيَها حَوكُ الرَبيعِ وَحُلَّةٍ صَفراءِ
فَاِشرَب عَلى زَهرِ الرِياضِ يَشوبُهُ زَهرُ الخُدودِ وَزَهرَةُ الصَهباءِ
مِن قَهوَةٍ تُنسي الهُمومَ وَتَبعَثُ ال شَوقَ الَّذي قَد ضَلَّ في الأَحشاءِ
يُخفي الزُجاجَةَ لَونُها فَكَأَنَّها في الكَفِّ قائِمَةٌ بِغَيرِ إِناءِ
وَلَها نَسيمٌ كَالرِياضِ تَنَفَّسَت في أَوجُهِ الأَرواحِ وَالأَنداءِ
وَفَواقِعٌ مِثلُ الدُموعِ تَرَدَّدَت في صَحنِ خَدِّ الكاعِبِ الحَسناءِ
يَسقيكَها رَشَأٌ يَكادُ يَرُدُّها سَكرى بِفَترَةِ مُقلَةٍ حَوراءِ
يَسعى بِها وَبِمِثلِها مِن طَرفِهِ عَوداً وَإِبداءً عَلى النُدَماءِ
قصائد البحتري وأبي نواس لم تجرح مشاعر أحد من العامة ليذهب إلى رفع قضية ضد البحتري أو أبي نواس يشكو فيها خدشه للحياء العام أو تدنيسه لمكونات ثقافة المجتمع أو خروجه على قيمه، ولم يهاجم العسسُ محلاتِ الوراقين ولم يصلبوهم على جذوع النخل، بل وصلتنا دواوين هؤلاء الشعراء بكلِّ ما فيها من تنوع منقحة ومشروحة.
والآن في زمن المعلومات والانترنت والانفتاح يطلُّ عليك رئيس تحرير مقيت يرتدي بنطلون جنز كالح وتفوح من فمه رائحة التخلف ليرفض أيَّ إيحاء جنسي أو ذكرٍ للخمرة مزاوداً على ابن حنبل والمتوكل وهارون الرشيد والأمين والمأمون وتطول القائمة.
مَن هو الذي شكَّل هذه الثقافة الممسوخة التي تقطع الإنسان عن مكونات الحياة، وتحوِّله إلى كلمات متقاطعة مشرذمة مثل رمال الصحراء؟ ومن هم هؤلاء الذين يتقدمون صفوف الثقافة ليصنعوا الجمود والرداءة، ويقتلوا أي بادرة للتحرر والانعتاق؟ وكيف يمكن لإنسان أنْ يبقى في حلقة الاجتماع والمجتمع دون أن يخوض بحرية تامه في التابوهات الممنوعة قسراً بفعل النخب السياسية والثقافية التي خنقت كل شيء حتى الأشجار.
لقد رأيت الكثيرين منكم وهم يأكلون الجيف، فلا تزاودوا علينا عند الحديث عن الفضيلة فإنما أنتم مثل صاحبي الذي أراد السفر فحرم الخمر واختار النساء، وعالج أمره بأن الله غفور رحيم.