بقلم: علي طه النوباني
اللغة هي أخطر آلة أوجدها الإنسان على الإطلاق، فهي أداة اتصال , واداة تشويش في الوقت نفسه! – إذا أريد لها ذلك.
لقد وقع الذين يملكون الثروة والسلطة على امتداد عالمنا العربي في مأزق حقيقي منذ أن قامت وسائل التواصل الاجتماعي والانترنت بتأميم وسائل الإعلام؛ فلم يعودوا قادرين على احتكار تعريف وإعادة تعريف الأشياء، وفلترة الأخبار وتزويرها، وصار من الممكن للعامة أن يبثوا تعريفات أخرى تتناقض مع مصالح تلك الجماعة التي تستأثر بالسلطة والثروة.
وهكذا كان لا بدّ لهذه النخب المسيطرة من إيجاد آلية جديدة – كما هي عادتهم دائماً- لإحكام السيطرة على المجتمع ومتابعة رحلة السطو على حاضره ومستقبله ومقدراته حتى لو كانت الآلية الجديدة تتعارض تعارضاً واضحا مع مبادئ حقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية وحتى أبسط قواعد المنطق. وقد وجدوا ضالتهم في تمرير عدد كبير من القوانين الفضفاضة التي تعتمد على التشويش اللغوي، والتي تهدف إلى إشاعة الخوف العام والرعب العام من حرية التعبير بحجة تحقيق الصفو العام متجاهلين بذلك أنّ الخوف لا يولد صفواً بل احتقاناً والرعب لا يولد رفاهاً بل عقماً.
وعلى سبيل المثال فإنَّ مادة قانونية مثل مادة تعكير الصفو العام للمجتمع أو تعكير صفو العلاقات مع دولة صديقة جاءت للتوحيد القسري للرأي العام مع رأي النخب الحاكمة والتي دائماً سيتمُّ إبرازها بشكل انتقائي في وجه البعض وسيتم التغاضي عنها في حالات أخرى وحسب مصالح النخب الحاكمة، وسيكون من حق كل شخص أن يتخذ موقفاً دون إعلانه كما جاء في خطبة زياد بن أبيه: " إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلُّ من بُغضي لم أكشفْ له قناعا، ولم أهتك له سترا حتى يُبدي لي صفحته؛ فإذا فعل ذلك لم أناظره، فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئس بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس" مؤكدين بذلك أن العقل العربي ما زال متجمداً في القرن الأول الهجري.
ويذكرني هذا بالأوصاف المقذعة التي كانت تكيلها أنظمتنا العربية للدول الشيوعية فهي شمولية أحادية لا تعترف بتعدد الرأي ولا تعترف بالآخر مما يجعلها مرتعاً خصباً للفساد وتأليه الفرد إلخ... ولكنهم في مسوخ الكيانات العربية يأخذون في نهاية المطاف من الأنظمة الدكتاتورية أسوأ ما فيها ومن الأنظمة الرأسمالية أشدَّها توحشاً ومصاً لدماء الفقراء وقتلاً للإبداع حتى يحققوا جحيماً صافياً لا تشوبه شائبة، ولا يرتفع فيه رأس مخالف أو معارض، ولكنه يتمتع بالصفاء! إنه صفاء النار التي لا يهبط عليها مطر، وركود الرمال التي لا يعيش فيها شجر، وظلام الكهوف التي لا يصلها شمس ولا قمر.
لقد جاءت فكرة القانون لكي يمنع العنف ضد الرأي، وليس لكي يقمع الرأي المخالف لرأي السلطة، ولكي يحمي حقّ الأقلية في عرض رأيها كما يحمي حق الأكثرية، ولكي يكون المجتمع كله واحة للعصف الذهني الذي يبحر في طيف واسع من الأفكار لكي ينتقي أنجعها دون قتل أضعفها، فالقانون لا يقتل الفكر والتفكير بل ينشط البحث والتجريب، ويصنع بيئة الإبداع والنماء وإذا ما خرج القانون عن ذلك وأصبح آلة للقمع وحماية فئة من المجتمع دون أخرى، وتعطيل الميكانزمات الطبيعية للتطور والنمو؛ فقد خرج عن تعريفه وأصبح آلةً وحشية تنتمي لعصور الظلام، تحافظ على التخلف، وتحمي الفساد، وتقتل الإبداع، وتعرّض مستقبل الناس للضياع والفشل الذريع.
وكما أنَّ النخب تمرِّر تشريعات تحمي مصالحها، فإن عامة الناس تساهم في صناعة النخب المزيفة التي لا تتوانى عن خيانة قيم الحق والعدالة والرجوع على الشعوب بتشريعات وقوانين تكبل الألسنة قبل الأيدي، وتدخل المجتمع في حلقات العجز عن الفعل حتى لو كان ذلك بالكلمة التي تعتبرها النخب معكراً لصفو مصالحها فتثير الخوف العام الذي يطلق الرصاص على الكلمة.
إنها حلقة تأبى مجتمعاتنا العربية أن تخرج منها خلافا للكثير من شعوب العالم، فمتى نعرف كيف لا نصنع قاتلنا وقاتل أجيالنا القادمة بأيدينا. ومتى نعرف أن نميز حالات التشويش اللغوي الذي نتعرض له؛ فصفو المجتمع ما هو في حقيقته إلا صفو مصالح النخب الحاكمة، والصفو العام ما هو إلا رعب عام تخلقه النخب لمنع الناس من المجاهرة بالنقد أو التفكير يعود علينا من نخب رفع الناس شأنهم بالنفاق، وباعوا لهم حاضرهم ومستقبلهم بأرخص الأثمان.