Image title
خريطة للعالم عن مؤشر مدركات الفساد بحسب الشفافية الدولية التي تقيس "إلى أي مدى يتم إدراك وجود الفساد بين المسؤولين الحكوميين والسياسيين". الأرقام المرتفعة (أزرق) تشير إلى تصور أقل من الفساد، بينما تشير الأرقام المنخفضة (أحمر) إلى تصور أعلى من الفساد.2015 .

من عجائب الدهر أن تكون آليات مكافحة الفساد فساداً بحد ذاتها في البلدان التي لا تنوي أبداً أن تدخل الحداثة؛ وعن سبق الإصرار والترصد.

فموظف الجمارك مثلاً يتعرض لإغراءات الرشوة والفساد كثيرا، والحلّ الذي تلجأ إليه الدول الفاشلة هو أن يأخذ أضعاف راتب غيره من الموظفين في الدوائر الأخرى التي لا يتعرض فيها الموظفون لإغراءات الرشوة والفساد. وهذا ينطبق على موظفي الضريبة والضمان الاجتماعي والقضاء وغير ذلك من الأماكن بنسب متفاوتة، وبحيث يتم زيادة الرواتب والحوافز فيها حسب نسب إغراءات الرشوة والفساد.

وهكذا تصبح الوظائف التي تتعرض لإغراءات عالية محل تنافس شديد بين المحاسيب وذوي القرابة مع السلطة ولا يبلغها غالباً إلا ذوو الجاه والسلطان؛ فيزدادون قوة وسطوة إلى درجة أنهم يصلون إلى مرحلة يتمتعون فيها بفرص وافرة للحصول على مكتسبات غير مشروعة فوق امتيازاتهم التي حصلوا عليها أصلا بحجة تحصينهم ضد الفساد والرشوة. 

يذهب ذوو الامتيازات ممن يُخشى عليهم من السقوط في رذيلة الفساد – والعياذ بالله – إلى أبعد من ذلك في منهج المحاصصة للحصول على مزايا أكبر من قبيل المنح الجامعية المحلية والعالمية لهم ولأولادهم، والحصول على سكن مجاني أو مكافآت إضافية أو غير ذلك باسم التحصين ضد الرشوة والفساد. وهكذا تصبح البلاد كعكة كبيرة تستأثر بها طبقة تتمسك بامتيازاتها وتدافع عنها دفاعا مستميتاً مقابل طبقة واسعة من العراة الذين لا يكادون يملؤون بطونهم أو يستروا عوراتهم بسبب شدة الفاقة والفقر.

وبالمقابل فإن العاملين في الدوائر الأخرى التي لا يتعرض موظفوها لإغراءات الرشوة والفساد يشعرون بالظلم العميق لأن حظهم الرديء هو الذي جعلهم يعملون في مكان بائس كالصحة والتعليم وغيرهما؛ فهم يرون فلان الذي امتلك بيتاً وسيارة فارهة ومزرعة بعد عامين من تعيينه؛ بينما هم يرزحون تحت وطأة الدين وفوائد البنوك، وينتج عن ذلك فتور همتهم وضعف أدائهم، وفشل ذريع في مؤسساتهم، ويا لها من كارثة عندما تتراجع أهمية أبرز القطاعات كالصحة والتعليم إلى الدرك الأسفل من الأولويات فتنحدر مخرجات التعليم مثلاً وتدخل في متوالية هندسية للرداءة، وتنعكس على المجتمع أفرادا وجماعات.

وكردَّة فعل من هؤلاء الذين يعملون في قطاعات لا تستفيد من فنّ التحصين ضد الفساد؛ فإنهم يلجأون إلى طلب امتيازاتٍ تعمق المحاصصة، وتزيد الطين بلة من قبيل تخصيص مقاعد جامعية مجانية لأولادهم، أو توفير مساكن شبه مجانية لهم ولعائلاتهم، ويصبح الوطن فريسة يتصارع عليها الجميع بطريقة فجة تؤدي إلى احتقان الأغلبية غير المستفيدة، وضياع حقوق العباد، وخراب البلاد.

والأسئلة التي تفرض نفسها هنا: ألا يوجد طريقة لمكافحة الرشوة والفساد غير هذه الطريقة الظالمة التي تعيد إنتاج الفساد وترشو الموظف لكي لا يرتشي؟ وهل من العدل أن يأخذ موظف الجمارك مثلاً أضعاف راتب معلم مكلف بتربية الأجيال أو موظف في الصحة يتعرض لمخاطر العدوى ولا يرى سوى المرضى؟ أو عامل كهرباء يتعرض للموت يوميا وهو يتسلق الأعمدة والمحوّلات الخطرة.

من الطبيعيِّ أن يكون هنالك تفاوت معقول في مداخيل الناس ورواتبهم، لكن المستهجن أن تجد موظفين اثنين بالمؤهلات نفسها والقدرات نفسها تتفاوت مداخيلهم على نحو جنوني من دائرة لأخرى في الدولة نفسها حسب معدل تعرضهم للرشاوى والفساد!

نحن اليوم في عصر تكنولوجيا المعلومات؛ ومن الممكن تعقب الثراء غير المشروع عن طريق حصر الممتلكات والحسابات البنكية والحوالات الخارجية، والتحقق من مصادر الثروة لمن يعملون في مواقع معرضة لإغراءات الرشوة والفساد؛ لكن الدول الفاشلة تحتاج إلى خلق عصابات من المتنفعين وأصحاب المصالح لكي يكونوا آلتها في قمع الناس ودعسهم إذا اقتضت الحاجة، ولكي يكونوا بوقها الذي يجعجع للدفاع عن منظرها القبيح وأدائها المخزي وحتى عن فاسديها ومجرميها، فإذا ما انبرى فقير للحديث عن سوء حاله؛ خرج عليه واحد من هؤلاء المتنفعين ليصمّ آذانه جعجعة، ويصيبه بالجلطة القلبية بمقولة رخيصة مدفوع أجرها مفادها "نحن بخير".

ومن أين يأتي الخير وقد تقاسم ثروة الوطن ومؤسساته ثلة من المتنفعين غير الأكفاء غالباً، وتركوا الأمة ترزح تحت وطأة همّ لا تحمله الجبال.