بقلم: علي طه النوباني
عندما اشترى والدي أول جهاز تلفزيون أبيض وأسود في السبعينيات من القرن الماضي؛ كنا نتابع الدراما المصرية واللبنانية، ثم قويت بعد ذلك الدراما السورية والأردنية، حيث كان من الممكن للمشاهد أن يتابع مسلسلات وتمثيليات تلفزيونية من الواقع العربي، وكان بعض هذه الأعمال لكتاب كبار أمثال إحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله وحنا مينا وغيرهم الكثير.
صحيح أن تلك الدراما كانت محاطة بالكثير من المحاذير والتابوهات الممنوعة وقلم الرقيب الذي كان يمنع كل ما يمت إلى نقد السلطة أو الدين أو ما يتصل بالحياة الجنسية، إلا أن تلك الدراما كانت تساعد في تطوير الشخصية العربية، وطرح أسئلة من شأنها دفع العقل العربي إلى آفاق جميلة للحب والحياة والإبداع عبر إيماءات لا يمكن للرقيب الغبي أن يفهمها.
ثم جاء زمن آخر...
انتهى زمن وحيد حامد وأسامة أنور عكاشة وغيرهما من العمالقة، وجاء زمن المسلسلات المكسيكية والتركية والهندية المجهزة على نحو يناسب العولمة المفرغة من المضامين، مسلسلات طويلة جداً لكنها تخلو تماماً من الرؤيا أو المضمون الثقافي أو الأسئلة الوجودية الصعبة، تسلط الضوء على مصادفات تافهة، ويتفنن مخرجوها في الإطالة واللف والدوران لتجد في الحلقة الأخيرة التي لا ينتهي فيها أي خيط من خيوط المسلسل أنك في نهاية الجزء الأول، وأن عليك أن تنتظر الجزء الثاني الذي في الغالب لن يأتي.
مسلسل تركيّ يظهر فيه فتى أشقر تضيق عليه نساء الأرض قاطبة ليعشق زوجة عمه الذي أحسن إليه ورباه، ومسلسل هندي تسرق فيه امرأة متزوجة زوج صديقتها في خيانة مركبة، ومسلسل آخر يتفنن فيه المخرج لمائتي حلقة بوضع الحواجز بين شخص وفتاة يحبها. وفي كل الحالات يسرب إليك المخرج والمؤلف والممثلون التعاطف مع الخائن ضد المغدور، ويصنع في داخلك رغبة في انتصار الخيانة.
لا بأس أن تكون هنالك مساحة للدراما العالمية على الشاشات العربية، على أن تكون نابعة من الثقافات التي تنتجها دون أي تدخل من قبل عارضيها، وعلى أن لا تدمر الدراما العربية التي قدمت الكثير للإنسان العربي، وساهمت في تطوير وعيه وبنيته الثقافية.
لقد تمنيت أن أشاهد مسلسلا هنديا يصف ما يحدث في أحياء الصفيح في نيودلهي، أو يتحدث عن ملايين الأطفال الذين ينامون في البراميل في أرجاء الهند ، ويشربون المياه القذرة، ويتعرضون لكل صنوف الإيذاء. وتمنيت أن أشاهد مسلسلاً هنديا يتحدث عن تجربة غاندي في المقاومة السلمية الفعالة، أو تجربة الهنود العلمية والتكنولوجية التي جعلتهم في مقدمة شعوب العالم في البرمجة والحوسبة ومختلف الصناعات، أو تجربة الهند في تحقيق أكبر ديمقراطية في العالم في بلد يتعايش فيه آلاف الآلهة والأديان.
ولذلك فإنني أعتقد أن هنالك مَن يُرسل كتالوجاً جاهزا لمسلسل فارغ يتم إعداده خصيصاً لمشاهد عربي لا يملك من أمره شيئاً سوى التحديق في شاشة تبث العته والتخلف: " نريد مسلسلا طويلا لامرأة تخون زوجها مع زوج صديقتها، على أن يكون هنالك نجمة جميلة جداً في المسلسل، وعلى أن لا يقل طول المسلسل عن مائة حلقة، وأن لا يكون هنالك مشاهد جنسية فاضحة، وما عدا ذلك فلا تخافوا من شيء فلدينا مشاهد شرب الدفلى ولم يعد لديه مرارة ولا أحلام ولا حتى أمل في الحياة".
آخر ما توقعته لبلادنا العربية هو أن تنقلب إلى فلم هندي يشير فيه البطل إلى الناس فيموتون بالجملة!
ها نحن نموت بالجملة، فارقصوا واشربوا نخب دمارنا، فحتى هذه اللحظة ما زال الخونة ينتصرون كما تطلبون من منتجيكم التافهين تماماً.