لقد أدى الفصل بين القلب والعقل إلى تجوهر العقل في الثقافة الإسلامية، تأثرا بالفلسفة اليونانية، والمقصود بـ"التجوهر" هنا هو أن جمهور المسلمين أقاموا العقل مقام جوهر كائن في حيز داخل القلب أو في حيز داخل الدماغ؛ والحال أننا لا نجد في النصوص الشرعية الأساسية، قرآنا کریما أو سنة شريفة، ولو شاهدا واحدا يستفاد منه إمكان هذا التجوهر، بل ما نجده هو، على العكس من ذلك، شواهد تنفيه صراحة؛ فقد ورد فيها الفعل: «عقل» بوصفه يدل على الفعل الإدراكي الذي يختص به القلب ؛ كما أن القرآن استعمل فعل "فقه"، وأسنده إلى القلب باعتباره مرادفا لـ«عقل»؛ ولم يثبت أن علماء المسلمين، بله فقهاءهم، جعلوا من الفقه جوهرا يحتل حيزا في القلب أو الدماغ؛ وإذا كان الأمر كذلك، لزم أن يكون اعتبار مرادفه، وهو العقل، جوهرا يخرق القاعدة التي تقضي بأن ما يصدق على الشيء يصدق على مثله ؛ ثم إن القرآن استعمل لفظا ثانيا في نفس المعنى، مسندا هو الآخر إلى القلب، وهو "العلم"، كما في الآية: "رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وطبع الله على قلوبهم، فهم لا يعلمون"، فيكون العلم هو، كذلك، أحد الألفاظ المرادفة للعقل؛ ولم يقل أحد من المحققين بأن العلم جوهر محله القلب أو الدماغ، مع قولهم بأن العقل إنما هو العلم، وإن كان بعض المتكلمين خص العقل بالعلم بالضروریات وحدها، أي بالحقائق البديهية التي لا تحتاج إلى إعمال النظر .
وبهذا، يتبين أن اختصاص القلب بفعل العقل لا يختلف في شيء عن اختصاص العين بفعل النظر أو اختصاص الأذن بفعل السمع أو اختصاص اليد باللمس أو اختصاص اللسان بالذوق؛ لذلك، يكون من يجعل العقل جوهرا قائما في حيز من القلب كمن يجعل النظر جوهرا قائما في حيز من العين والسمع جوهرا قائما في حيز من الأذن، وهكذا بالنسبة لباقي قوى الإدراك، وكما أنه لا يصح أن يكون النظر أو السمع جوهرا متحيزا، فكذلك لا يصح أن يكون العقل جوهرا متحيزا؛ ثم هناك صفة أخرى للعقل، وهي أنه فعل يقترن بكل القوى الإدراكية الأخرى، فلا يكون، مثلا ، السمع سمعا، حتى يعقل، ولا البصر بصرا، حتى يعقل، بحيث تكون كل الإدراکات موصولة بالقلب ؛ والشواهد على ذلك من القرآن الكريم كثيرة؛ فهناك الآيات التي تجمع بين ذكر القلب وذكر السمع والبصر جميعا كما في الآية : «أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم»، وهناك أيضا الآيات التي تجمع بين ذكر العقل والسمع، حتى إن السمع يبدو فيها أقرب قوى الإدراك إلى العقل، كأنما الأذن إذا وعت، لزم أن يعي القلب كما في الآية : «أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون» أو الآية : "وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل، ما كنا في أصحاب السعير" ، وكذلك الآيات التي يرد فيها ذكر السمع بمعنى «العقل» كما في الآية : ونطبع على قلوبهم، فهم لا يسمعون»(34)، وأخيرا هناك الآيات التي تجمع بين ذكر القلب والبصر كما في الآية : «فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"، وكذا الآيات التي يرد فيها ذكر البصر بمعنى العقل، كما في الآية : «أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون» تترتب على كل هذا حقيقة أساسية، وهي أن الذي ينزل منزلة الجوهر لیس العقل، ولا بالأولى أية قوة إدراكية أخرى، وإنما هو القلب؛ فالقلب هو وحده الذات الجامعة التي تتفرع منها كل قوى الإدراك أو قل الروح التي محلها القلب، بحيث نحتاج أن نصوغ تعريفا للعقل بإدخال معنى "القلب" فيه، فنقول:
العقل هو عبارة عن إدراك القلب للعلاقات القائمة بين الأشياء.
ولولا التجوهر الذي وقع لفعل القلب - أي العقل - بدل القلب نفسه ، لوقع التفطن لحقيقة أساسية، وهي أن الفعل العقلي أكثر أفعال الإدراك قابلية للتغير والتقلب، وذلك لأن إمكانات الربط بين الأشياء أكثر من أن تحصی، فيتعين أن يكون الفعل الذي ينهض بهذا الربط في مثل كثرة هذه الإمكانات التي لا تنعد؛ وهكذا، فإن العقل يتقلب في أطوار تختلف باختلاف المراحل التي يمر بها تاريخ الإنسانية، بحيث ما كان عقليا في مرحلة تاريخية سابقة قد يصير لا عقليا في مرحلة لاحقة، والعكس بالعكس، فما كان يعد لا عقليا في مرحلة تاريخية سابقة قد يصبح عقليا في مرحلة لاحقة ؛ وليس هذا فقط، بل يتقلب أيضا في أطوار تختلف باختلاف أحوال الفرد الواحد، بحيث ما كان معقولا عنده في حال، يجوز أن يصير غیر معقول في حال سواه، والعكس بالعكس؛ ولا يقف الأمر عند حد تقلب الفعل العقلي في الزمان؛ بل يجاوز ذلك إلى أن يتقلب في المكان، فقد يكون الشيء الواحد عقليا في موضع ثقافي أو مجال معرفي أو نسق منطقي معين، وقد لا يكون كذلك في موضع ثقافي أو مجال معرفي أو نسق منطقي غيره؛ ويجوز أن يكون الشيء الواحد عقليا من وجه وغير عقلي من وجه آخر، حتى كأنه شيئان مختلفان، وهكذا.
والجدير بالذكر بهذا الصدد هو أن في المعنى اللغوي للقلب إشارة إلى قابليته للتغير، إذ الفعل منه، أي «قَلَب» يراد منه، في قولنا: «قلب الأمر»، أنه غيره إلى عكسه، وهذا منتهى التغيير ؛ فيكون في إسناد العقل للقلب إرادة صريحة النسبة قابلية التغير إليه، هذه القابلية التي لا تفتأ تؤكدها وقائع تقلب المعرفة الإنسانية، نظرية كانت أو عملية .
كتاب سؤال العمل ص٧١-٧٣