جوهر الشيء، في استعمال الجمهور، يفيد اللب الذي به يتقوم الشيء أو الحقيقة التي يكون عليها؛ أما تعريف العقل عند الفلاسفة بكونه جوهرا، فيقصدون به معنى أخص، وهو أن العقل عبارة عن ذات موجودة في نفسها، لا في غيرها، وقائمة بنفسها، لا بغيرها، أي لا تحتاج في القيام بالفعل إلى ذات أخرى تقارنها؛ ولما كانت هذه الذات تعتبر هي الحقيقة التي يفارق بها الإنسان الحيوان، والتي تورثه الاستعداد لقبول المعرفة، فقد دل ذلك على أن الإنسان يحمل، في داخل كيانه، موجودا محددا لا يوجد في غيره من الكائنات الحية ، بحيث يتميز عنها بفضل هذا الوجود؛ وحتى بصرف الفلاسفة عن هذا الموجود الداخلي شبهة الجسمية التي قد ترد عليه باعتبار محله في بدن الإنسان، فقد وصفوه بأنه جوهر لطيف غير كثيف، وروحاني غير جسماني.
١ . الشبه الواردة على جوهرية العقل؛ على الرغم من أن هذا التصور للعقل ذي الأصل اليوناني قد اكتسب أوصافا إسلامية، فقد ترد عليه الشبه الآتية:
١.١. شبهة تخليد العقل؛ لم يكتف الفلاسفة بجعل العقل جوهرا، بل نسبوا إليه صفة البقاء، أي دوام الحياة، والراجح أن سبب هذه النسبة يرجع إلى كون اليونان تصوروا «اللوغوس» - أي العقل - مدبرا للوجود بأسره كما هو شأن ما يسمونه «العقل المفارق، أو تصوروه ممدا للعقل الإنساني كما هو شأن ما يسمونه بالعقل الفعال»؛ فقد جعلوا نظام القوانين التي تضبط الكون قائما بفضل قيام العقل المفارق به ؛ فهذا ابن رشد يقول: «العقل المفارق لا يعقل إلا ذاته وأنه بعقل ذاته يعقل جميع الموجودات، إذ كان عقله ليس شيئا أكثر من النظام والترتيب الذي في جميع الموجودات»، كما أنهم جعلوا العقل الإنساني في انتزاعه المعقولات من الموجودات، أي انتزاع الماهيات والصور من موادها، يستفيد من أمداد العقل الفعال، علما بأن هذا العقل هو، حسب اعتقادهم، مصدر الصور الخالصة؛ فالفارابي يقول: «إن العقل الإنساني إذا بلغ أقصى كماله صار قريبا في جوهره من جوهر العقل الفعال )؛ لذلك، أشبة فعل العقل في الوجود أو مدده في العقل الإنساني، عندهم، فعل الإله فيهما، لذلك استحق عقل الإنسان أن يكون خالدا خلود الإله ؛ ويقول ابن سینا بهذا الصدد :
إن الجوهر الذي هو الإنسان في الحقيقة [أي النفس العاقلة أو قل العقل] لا يفنى بعد الموت، ولا يبلی بعد المفارقة عن البدن، بل هو باق لبقاء خالقه، وذلك لأن جوهره أقوى من جوهر البدن، لأنه محترك هذا البدن ومديره ومتصرف فيه، والبدن منفصل عنه تابع له"
ودفعا للتشويش الذي أحدثه هذان المفهومان الفلسفيان: "العقل المفارق أو العقل الفعال" على المقتضيات العقدية للتداول الإسلامي، بل دفعا لمصادمتهما لهذه المقتضيات، حاول بعض متفلسفة الإسلام أن يضفوا عليهما صبغة إسلامية، فألحوا على أنهما من أول المبدعات التي أبدعها الإله، بحيث لا يكون لهما من صفات الإله إلا ما يفيض من جوده أو إما يقتبس من نوره؛ واجتهد آخرون في أن يقارنوهما بموجودات علوية إسلامية مثل «القلم» و«اللوح المحفوظه والملائكة، بل ذهبوا إلى المطابقة بين الصنفين من الموجودات ؛ لكن يبقى أن التداول الإسلامي يأبى أن يجعل العقل خاصية جامعة بين رتبة الإنسانية ورتبة الألوهية ؛ فهذا التداول، وإن جرى على أن يسند العلم إلى الإله كما أسنده إلى الإنسان، بل اعتبر اسم العليم من أسمائه الحسنى، فإنه يمتنع عن أن يسند إلى الإله العقل كما أسنده إلى الإنسان؛ فهو لا يجيز أن يكون العقل صفة من صفاته سبحانه وتعالى، ولا حتى أن يكون فعلا من أفعاله)، معتبرا أن العقل، على خلاف العلم، لا يتعدى رتبة الإنسان إلى ما فوقه، لقيام صفات بالعقل لا تليق بمقام الألوهية؛ هذا مع أن اللسان العربي يقيم ترادف صریحا بین لفظ «العقل، ولفظ «العلم»، هذا الترادف الذي استثمره المتكلمون في نظريتهم في العلم، إذ لا يقال : «عقلتُ وما علمتُ، كما أنه لا يقال : علمتُ وما عقلتُ»، لظهور التناقض في القولين.
١ . ٢ . شبهة تشييء العقل ؛ متى سلمنا بأن العقل جوهر، أي ذات قائمة بنفسها، لزم أن يصدق عليه من الأوصاف ما يصدق على الذات، فيتوجب أن يكون، هو الآخر، شيئا ثابتا ومتعينا ومتحيزا و مستقلا ، أي حاملا لصفات محددة و آتيا لأفعال مخصوصة؛ والحال أن العقل يتأبّي على هذه الأوصاف التي شأنها أن تشیئه، إذ أن هذا التشييء يفضي إلى تجميده ؛ ويبدو أن العقل يحمل من أسباب الحياة والحركة وقوة التبدل - كما سنوضحه بإذن الله في موضعه - ما لا تطيقه الذات ولا تحتمله هويتها، وإلا لزم أن تنقلب إلى ذات أخرى بهوية جديدة ؛ ونجد، بین علماء المسلمين، من سعى إلى أن يخفف من هذا التشييء بأن ادعی بأن العقل يراد به "الغريزة التي في الإنسان والتي بها يعلم"، أي لا يزيد عن كونه القوة الداخلية التي تحصل بها المعرفة، بل نجد، من بينهم، من تفطن إلى الحركية النشطة التي يتصف بها العقل، فرأى أن الأجدر بالعقل أن يحد بما هو ضد الجوهرية منه بالجوهرية ، أي أن يحد ب «العرضية»، ومعلوم أن العرض هو عبارة عن كل ما يطرأ على الذات، ويزول ليحل محله غيره ما بقيت هذه الذات موجودة؛ وهكذا، «فاسم العقل عند المسلمين وجمهور العقلاء، كما يقول ابن تيمية، إنما هو صفة، وهو الذي يسمى عرضا قائما بالعاقل.
٣.١. شبهة تجزيء الإنسان؛ إذا وصفنا العقل، وهو إحدى القوى الإدراكية للإنسان، بأنه ذات موجودة في داخله، جاز أن نصف باقي القوى الإدراكية بأنها هي الأخرى ذوات موجودة فيه؛ وعندها يكون الخيال هو أيضا ذات، والذاكرة هي كذلك ذات، والحس هو الآخر ذات، بل أدهى من هذا، لمّا كان الحس على أنواع، أضحى هو نفسه عبارة عن ذوات متعددة ينبغي أن تكون هي بدورها موجودة في بدن الإنسان: فالبصر ذات والسمع ذات والشم ذات واللمس ذات والذوق ذات؛ ولا يخفى على ذي بصيرة ما في هذا القول بتعدد الذوات المدرِكة القائمة بداخل الإنسان من تعسّف في تقسيم بنية الإنسان الواحدة، ومن تجاهل لحقيقة نكامل قواه الإدراكية وتضافر أفعالها وتداخل آثارها، حتى كأن هذه القوى والأفعال كلها لا تُنسب إلا لذات مدرِكة واحدة هي الإنسان نفسه بكليته، وليس لأي جزء من أجزائه ولو كان هذا الجزء أشرفها جميعا.
بعد أن ذكرنا الشبه الثلاث التي ترد على القول بجوهرية العقل، يتعيّن أن ننظر في وصف يتحدد به العقل يكون قادرا على أن يدفع هذه الشبه الواردة على مبدإ جوهرية العقل.
٢.٢. إثبات فعالية العقل؛ لئن سلّمنا بأن العقل عرَض، فلا نسلّم بأنه صفة لازمة لا انفكاك عنها، وثابتة لا تغيّر معها؛ بل نرى أن العقل في حقيقته فعل إدراكي يصدق عليه الحدوث في الزمن والتجدد والتبدل إيجابا أو سلبا؛ وقد يدلنا المعنى اللغوي للفعل: عَقل، على كيفية الإدراك التي يختص بها هذا الفعل، علما بأن العرب تراعي المناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الإصطلاحي؛ والظاهر أن المعنى الأصلي الذي اُستعمل فيه هذا الفعل تعلّق بالدابة، إذ يُقال: عقل الدابة أي قيّدها؛ والملاحظ أن هذا التقييد يفيد معاني ثلاثة متقاربة يمكن أن نبني عليها المعنى الإصطلاحي للعقل، وهي:
أ. التقييد بمعنى الكف، أي أن العقل هو الفعل الذي يجعل الإنسان يكف عن الخطإ في القول والشر في الفعل، أي يمنع نفسه ادّعاء الباطل ويحبسها عن اتباع الهوى.
ب. التقييد بمعنى الضبط، أي أن العقل هو الفعل الذي يجعل الإنسان يضبط ما يحصّله، أي يُمسك ما يصل إليه من مدركات ويحفظه بداخله، حتى لا يتفلّت منه أو يُنسى.
ج. التقييد بمعنى الجمع، أي أن العقل هو الفعل الذي يجعل الإنسان يجمع ما يحصّله، أي يعي ما يصل إليه من مدركات كما يعي الإناء ما يوضع فيه.
ولئن وجدت بين هذه المعاني الثلاثة: الكف والضبط والجمع، فروق واضحة، فإنه يمكن أن تندرج كلها تحت لفظ عام، وهو الربط، فالحق ربط مانع، والضبط ربط ماسك، والجمع ربط واصل، وقد نبني على هذا المدلول الجامع، أي الربط، المدلول الاصطلاحي لمفهوم العقل، بحيث يكون العقل هو إدراك الإنسان للارتباط الموجود بين شيئين فأكثر، أي للعلاقة بينهما؛ وقد نضع للعقل التعريف المجمل التالي:
•العقل هو إدراك الإنسان للعلاقات القائمة بين الأشياء.
ونجد في اللغة سندا لهذا التعريف، حيث إن الجذر [ع/ق/ل] المشتق منه لفظ "العقل" هو عبارة عن قلب للجذر [ع/ل/ق] الذي اُشتق منه لفظ "العلاقة"، مع العلم بأن بعض اللغويين يرون أن الغالب على تقاليب الجذر الثلاثي أن تشترك في معنى معنى عام.
وهل بعد هذا نعجب من كون القرآن الكريم في كل المواضع التي ذكر فيها مادة "عقَل" لم يوردها إلا بصيغة الفعل. وليس هذا فقط، بل إن القرآن الكريم يستعمل فعل "فَقِه" في معنى "عقَل"، وكما أن اسم المصدر من "عقَل" لم يرد ذكره في القرآن، فكذلك اسم المصدر من "فَقِه".
بتصرف من كتاب سؤال العمل ص٥٩-٦٥