ذات مساء أرسل لي أحد الأصدقاء من رفاق الطفولة – عبر بريدي الالكتروني - صورة قديمة وباهتة لأحد الأشخاص، وكتب بجوار تلك الصورة سؤالًا، بدا كما لو أنه يريد من خلاله أن يتحداني ويختبر مدى قوة ذاكرتي، قائلًا: "عزيزي!.. هل تتذكر صاحب الصورة المرفقة!؟".
فألقيتُ نظرة سريعة على تلك الصورة المرفقة، والتي ما إن وقعتْ عيناي عليها حتى وجدت عقلي قام - على الفور وللوهلة الأولى – بالتأكيد على أنني أعرف صاحب هذه الصورة في طفولتي وربما بعد ذلك!، هكذا قال لي عقلي وهكذا حكم من النظرة الأولى!.. أقصد أنه ألقى في روعي بأنني أعرف هذا الشخص صاحب هذه الصورة!... تلك الصورة التي كانت لطفل لم يتجاوز عمره الثانية عشر حسب تقديري أو تقدير عقلي!، صورة تبدو كما لو أنها من الزمن الجميل القديم والبعيد أيام كانت الدنيا تعيش بين اللونين (الأبيض والأسود) وقبل هجوم عصر الألوان الطبيعية وغير الطبيعية!.. وكانت تلك الصورة تُظهر ذلك الصبي وهو يرتدي ملابس شعبية متواضعة بينما ارتسمت على شفتيه ابتسامة واسعة مشرقة تفيض بالصدق والبراءة!.
وظللتُ أحملق بكلتا عينيّ مشدودًا لتلك الصورة القديمة محاولًا أن أتذكر!!... في حين ظل عقلي مصرًا على موقفه السابق بأن صورة هذا الشخص ليست بالغريبة عليّ فهو شخص معروف لدي!.. ومع ذلك – أي مع هذا الحكم العقلي المؤكد – إلا أنني لم أتذكر من يكون !!!؟؟.... أجل!.. هذا ما حصل بالفعل!... فقد أكد لي مكتب حفظ ملفات (الوجوه والصور الشخصية) في دماغي وجود صورة وجه هذا الشخص ضمن هذا الملف الخاص بالصور القديمة المصورة باللونين (الأبيض والأسود) في مخزن الصور في مؤسسة ذاكرتي، فهو إذن شخص معروف لدي في الزمن السابق بدليل أنه صورته بقسمات وجهه موجودة لدي في مخزن الصور الخاصة بالشخصيات في ذاكرتي!.. هو شخص عرفته في يوم من أيام الزمن الماضي.. الزمن الفارط!.. هذا شيء مؤكد، بدليل أن مشاعر قلبي ومنذ أن وقعت عينيّ على وجه صاحب الصورة أشعرتني على الفور وبشكل يقيني عميق بأنني عرفت هذا الشخص في يوم من الأيام!!.. ولكن - ومع هذا الشعور الوجداني اليقيني العميق المباشر – ومع الحكم العقلي العام الذي كان قد سبقه بالتأكيد على وجود صورة هذا الوجه في ذاكرة بوم الصور والوجوه - لم أستطع الحصول على أية (معلومات تعريفية) أخرى عن صاحب هذه الصورة!!... وعلى الفور اتصلت هاتفيًا بمكتب المعلومات في دماغي مستفسرًا من الموظف العام، المكلف باستقبال استفسارات المواطنين والاجابة عنها، وسألته عن حقيقة صاحب هذه الصورة ولكنه لم يشف غليلي ولم يهدِ سبيلي!!، فالجواب الوحيد الذي تحصلتُ عليه منه هو أن صورة هذا الشخص موجودة بالفعل لديهم في مخزن الصور القديمة بالمكتب ولكن دون تقديم أية معلومة تعريفية تتعلق بهوية هذا الشخص ومن يكون على وجه التعيين وعلى وجه اليقين!!.. فالصورة – بهذا الوجه - موجودة ومحفوظة في مخزن ذاكرتي ولكن المعلومات (التعريفية) المرتبطة بها غير متوفرة!.. مما زاد من حيرتي وارتباكي، متسائلًا، في ضيق متصاعد، عن سر عدم وجود معلومات تعريفية متعلقة بهوية صاحب هذه الصورة ذي هذا الوجه الطفولي الطيب!.. هل ضاعت المعلومات المتعلقة بها بسبب الفوضى الإدارية والإجراءات المكتبية والرويتينية شديدة التعقيد وسط مؤسسة ذاكرتي العتيقة!؟ هل سقطت أوراق تلك المعلومات التعريفية سهوًا في سلة المهملات!؟؟... أم تكون قد بهتت بشكل مؤسف ... وانمحت!.. أو اختفت!.. ومن يدري!؟ فلربما تكون (جهة ما؟) قامت لغرض ما (؟) بالتلاعب بتلك المعلومات المتعلقة بهذه الصورة!!.. أعني (جهة ما؟) في دولة الدماغ تملك سلطة الممحاة وخاصية الحذف!؟.. فتمحو وتحذف ما تشاء وتُبقي ما تشاء من معلومات في أدمغتنا!!.... هل هذا وارد بالفعل!!؟؟... لست ادري ولكن الشيء المؤكد هنا هو أن هذا الوضع الحرج والمؤسف الذي وجدت نفسي به بدأ يضايقني بالفعل ويستثير اعصابي ويستفز غضبي !!.. أعني عدم تعرفي على صاحب الصورة المرسلة والتي توجد منها نسخة سلفا، وطبق الأصل، في حافظة والبوم الصور في ذاكرتي!!.... وحيال هذه المعضلة المحيرة وجدتني أغرق في بحر لجي من الحيرة التامة!.. بحر لجي تتقاذفني أمواجه بلا هوادة ولا رحمة!... أقصد معضلة وجود صورة لوجه شخص ما(؟) من الماضي البعيد أشعر يقينا أنني أعرفه ولكن دون أية معلومات تعريفية محددة تبين لك من هو على وجه التعيين؟ ومن يكون بالنسبة إليك على وجه اليقين!؟... أليست هذه المعضلة المحيرة مما يستثير الاعصاب!؟؟... ووسط حيرتي وتخبطي وجدتني أقرر مراجعة موظف مكتب قسم الصور المحفوظة في ذاكرتي بغير طريق المراسلات اللاسلكية والاتصالات الهاتفية، فقصدته شخصيًا بشكل مباشر في مكتبه بمبنى مؤسسة الذاكرة طالبًا المساعدة إلا أنني وجدته قد استقبلني وهو ينظر إليّ بعدم اهتمام ثم يقول لي باللامبالاة:
- "يا سيد!.. لقد جاوبنا عن استفسارك هذا سلفًا حينما اتصلت بنا هاتفيًا!.. فالصورة موجودة بالفعل لدينا وهي محفوظة في أرشيف مكتبنا هنا، أما المعلومات الأخرى فهي ليست من اختصاصي!.. أنا وظيفتي هنا فقط هي حفظ الصور القديمة!.. صور الوجوه والهيئات والاشكال والاجسام! ، فهذه هي مهمتي، أما كل ما يتعلق بالمعلومات التعريفية أو اثبات الهوية المرتبطة بصور ووجوه هؤلاء الاشخاص، ليس من شأني!!".
- "عفوًا يا سيدي!.. ولكن صدقني أنا بحاجة لمعرفة هوية صاحب هذه الصورة!... أحتاج إلى أن أتذكره، ساعدني رجاءً ولو بمعلومة واحدة فقط!، ساعدني كي أتمكن من تذكره!!.. فعدم تذكري له يحيرني ويزعجني بل يستفز أعصابي ويقض مضجعي، أرجوك إعطني رأس خيط المعلومة وأنا سأقوم بشد بقية الخيط الملفوف حول بكرة شريط المعلومات !!".
قلت له ذلك بنبرة لا تخلو من التوسل والاستجداء!، فوجدته يرمقني مرة أخرى بتلك النظرة الجافة التي تقطر بالضيق والتبرم قائلًا لي باللهجة جافة شبه آمرة:
- "إذن عليك مراجعة مكتب قسم المعلومات فهو موجود في الجهة الأخرى من مؤسسة الذاكرة!"
قال لي ذلك بنبرة حازمة وجافة وبطريقة سريعة وهو يمد يده نحوي – بطريقة آلية - مقدمًا لي نسخة طبق الأصل من صورة الشخص المجهول الهوية، موضوع الاستفسار والمراد التعرف عليه، ثم يشير بإصبع يده الأخرى لتلك الجهة صاحبة الاختصاص!...فلا يسعني عندها إلا أن أنطلق نحو تلك (الجهة) الأخرى من أقسام مؤسسة الذاكرة لعل وعسى!.. انطلق بينما يحدوني الأمل أن أجد المعلومات المطلوبة هناك عند مكتب قسم المعلومات التعريفية كي أعرف من يكون صاحب هذه الصورة؟ ومن يكون؟ وما علاقتي به؟..... فلقد خانتني الذاكرة بشكل واضح وفاضح وتركتني في فوضى عارمة وتركتني هنا وسط كل هذه الدوامة ألف وأدور كما لو أنني فأر تجارب مسكين الذي يظل يركض وسط متهات لا تنتهي!!.. ذاكرتي التي ضعفت قوتها وقوة شبابها بسبب تقدمي في العمر وبسبب اصابتي بمرض السكري من جهةٍ، ومن جهة أخرى بهتت الكثير من ملفاتها وتآكلت أوراقها وتراكم فوقها غبار الأيام بسبب (طُول الأمد)!.. وآه ٍ من (طول الأمد) هذا!!.. طول الأمد الذي هو آفة القلوب والعقول على السواء!.. فأما القلوب فيتسبب في قسوة وبلادة مشاعرها مع كثرة التكرار والتعود!، وأما العقول فيعمل على نثر أكوام من الغبار فوق ذاكرتها فتأخذ الذكريات في التآكل بفعل (عوامل التعرية) التي تأكل الحديد بقوة الصدأ والاكسدة، وتنحت الجبال بقوة الرطوبة والرياح!... ولقد حاولت أن أتذكر ذلك الشخص المعروف ذا الوجه المألوف دون جدوى، ذلك الشخص المألوف لدي وجدانيًا وشعوريًا وغير المعروف لدي معلوماتيًا وتصوريًا بسبب أن معلوماته الشخصية المتعلقة بتعريف هويته مفقودة!.. لماذا وكيف فُقدت معلوماته التعريفية من ذاكرتي بالرغم من بقاء صورته!؟؟.. لست أدري!!.... هل هي شيخوخة الذاكرة والأذهان التي تشيخ مع الأعوام كما تشيخ الأبدان؟؟.. أم أن الملف المتعلق بهويته حينما تم تخزينه في مخازن مكاتب ذاكرتي في دماغي كان قد تم تخزينه بطريقة ضعيفة هامشية (عشوائية) بسبب أنه لم يتم تصنيفه – في تلك الآونة - ومن قبل (السلطات النفسية العليا) - تحت قسم (بالغ الأهمية!)!!، هل كان مثلًا من رفاق وزملاء الصف الهامشيين في المدرسة الابتدائية والاعدادية ومن غير المقربين!؟.. لا أدري ولكن الواقع أنه قد سقط من ذاكرتي - سهوًا أو عمدًا - لسبب ما؟، تلاشت معلوماته التعريفية عن ذاكرتي بينما بقيت صورته حاضرة ولكن بدون معلومات!.. فأصبح قيد النسيان في خضم صراعي مع الحياة وطول الأمد وربما في غمرة انشغالي بدفع ضرائب الاغتراب عن الوطن!، وهي ضرائب تصاعدية باهظة!.
بصراحة!، لقد نسيته و(نسيت من يكون؟) على الرغم ان صورته المحفوظة لدى مكتب الصور تؤكد لي أنني كنت أعرفه في زمن مضى!! ، أعرفه في زمن ولى منذ عقود مضت وانطوت صفحاتها وأصبحت مجرد تاريخ وذكريات أو أصبح حالها حال معظم الأحداث العامة والخاصة التي تحدث وسط طاحونة الدنيا والتي يغفل عنها (الكتبة) ممن يسطرون بأقلامهم حكايات أحداث الأعوام على صفحات التاريخ!، هؤلاء الكتبة الذين يغلب عليهم وفيهم أنهم ممن يهملون التاريخ الشعبي وتاريخ الاشخاص العاديين ويركزون على التاريخ السياسي وتاريخ الرجال الأقوياء! .... وهكذا، وسط حيرتي واصراري على معرفة صاحب الصورة، ظللتُ أركض هنا وهناك وأنا ألهث راغبًا في الوصول إلى الحقيقة من خلال الحصول على معلومة مهمة عن صاحب هذه الصورة من موظف مكتب المعلومات التعريفية المختص بحفظ واسترجاع المعلومات المختصة بالهوية!.. ذلك القسم المهم للغاية في ذاكرتنا البشرية والذي بدونه لا يمكن لنا (التعرّف) على هويات الآخرين ممن حولنا من الناس، في الدوائر القريبة من اجسامنا وذواتنا وعقولنا وقلوبنا ثم هويات الدوائر الأبعد فالأبعد!.... فبدون تذكر هذه المعلومات التعريفية واستحضارها من قسم المعلومات فلن نتذكر هؤلاء الاشخاص حتى لو تذكرنا ملامح وجوههم او حتى تذكرنا أسمائهم!!...
وبلغت أخيرا قسم المعلومات التعريفية في مؤسسة الذاكرة بدماغي ولكن وجدت - للأسف الشديد - المصعد عاطلًا عن العمل!.. وقال لي (بواب القسم) أن هذا المصعد قيد الصيانة وسيتم اصلاحه خلال يومين!... فشعرت بخيبة أمل وسألته بنبرة محبطة عن مكان مكتب معلومات الهوية فقال لي وهو يحك بأصابعه شعر رأسه بشيء من الحرج:
- في الطابق التاسع عشر!
فصدمني جوابه ذاك!، حتى كدت أن أصاب بالإحباط المميت!.. فأنا أشعر بإنهاك شديد بسبب حيرتي الشديدة الناتجة عن عجزي عن تذكر صاحب هذه الصورة من جهة ومن جهة بسبب ركضي الطويل والمتواصل منذ صباح ذلك اليوم الباكر داخل اقسام مؤسسة ذاكرتي في دماغي المثقل بالهموم!، فمن قسم الصور إلى هذا القسم حيث مكتب المعلومات التعريفية!!.. والمسافة بينهما داخل تعاريج وتلافيف الدماغ الطويلة والمهولة ليست بالقصيرة كما قد يحسب البعض!.. بل هي مسافات طويلة قد يحتاج بعضها إلى التحرك بسرعة الضوء أو على الأقل بسرعة الكهرباء للوصول في أقرب وقت!..... لقد كنتُ متعبًا للغاية – عضليًا وعصبيًا - فكيف سأصعد كل هذه السلالم وأقطع كل هذه الطوابق حتى أصل للطابق التاسع عشر!؟... الأمر كان يحتاج إلى جهد جهيد وصبر شديد ولكن لم يعد لدي أي خيار آخر!.. فاتجهت على الفور نحو درج السلالم وانطلقت أركض صاعدًا نحو الأعلى يحدوني الأمل في الحصول على المعلومات (التعريفية) المطلوبة لحل كل هذه المعضلة الذهنية ولإنهاء كل هذه الحيرة المرهقة التي بتُ اتخبط فيها بسبب هذا النسيان!.. أو بمعنى أدق بسبب وجود صورة لشخص ما في قسم الصور في ذاكرتي لا ترتبط بأية معلومات تعريفية تحدد هوية صاحب الصورة!!.... وظللت أركض صعودًا حتى وصلت أخيرًا إلى هناك!.. إلى مكتب قسم المعلومات المتعلقة بهوية الشخصيات المرتبطة بصورهم ومعالم وجوههم أو ربما حتى بأسمائهم المحفوظة في الأقسام الأخرى من مؤسسة الذاكرة!!... وهناك وفور بلوغي المكتب المختص بالمعلومات التعريفية وبمسألة الهوية على وجه خاص، وما آن ولجت الباب وأنا ألهث من شدة الاعياء، بينما جبيني يقطر بسيل من العرق الغزير ، وجدت الموظف المسؤول يجلس على كرسي مكتبه بتكاسل تام كما لو أنه قطة مدللة من نوع (السيامي) وبين يديه جريدة قديمة ويبدو أنه كان مشغولًا بمحاولة حل لغز الكلمات المتقاطعة الموجودة كما جرت العادة في الصفحة ما قبل الأخيرة!!... وما إن شعر بوجودي ولاحظ ولوجي من باب مكتبه حتى رمقني بنظرة خاطفة وبطريقة جافة تنم عن شيء من الضيق، كما لو أنه يقول لي: (أف!!، ليس وقتك الآن!!).... ثم بعد لحظة صمت عابرة وجدته يقذفني بالسؤال التقليدي المعتاد:
- تفضل!.. أية خدمة!؟؟
- أنا لدي استفسار عن هوية صاحب هذه الصورة!؟
ومددت نحوه بنسخة الصورة التي تحصلت عليها من مكتب قسم الصور والوجوه في مؤسسة الذاكرة، فالتقطها بشيء من التكاسل وألقى نحوها نظرة سريعة لا مبالية ثم رفع عينيه ورمقني بنفس تلك النظرة الجافة وقال باقتضاب:
- وما علاقتك بصاحب هذه الصورة!؟
- هذا ما أريد معرفته !.. ولهذا أنا هنا!
- باهٍ !!... لحظة من فضلك .. دعني أفتش عن الملف المرتبط بهذه الصورة!
قال ذلك بنبرة لا تخلو من التذمر والتأفف ثم انطلق يفتش في الملفات القديمة التي تعج بها أدراج المكتب الكثيرة، تارة يكتفي بإلقاء نظرة سريعة في بطن تلك الأدراج وتارة أخرى يخرج بعضها وينفض عنها الغبار ويقلبها ثم ما يلبث أن يلقيها في بطن أحد الادراج مرة أخرى وهو يزم بين شفتيه في ضيق!..... وضل على هذا الحال وعلى هذا المنوال ما يقارب الساعة ثم أدر ظهره وألتفت نحوي وقد ظهرت على وجهه امارات اليأس والارهاق وقال:
- يا صديقي!.. للأسف الشديد .. لا يمكن العثور على طلبك!.. أقصد المعلومات التعريفية المرتبطة بهذه الصورة!
- ولِمه؟؟... ما المشكلة!؟
- المشكلة في الرابط !!.. الرابط مفقود وغير موجود!
- الرابط !!؟؟
- أجل!.. فبدون الرابط الذي يربط بين الصورة الموجودة في قسم الصور والمعلومات التعريفية في قسمنا هذا فلا يمكن تحقيق عملية التعرّف!!
- والحل؟؟
- عليك التوجه إلى قسم (الربط الآلي) وهو موجود في الطابق الأرضي بالقرب من محرك الطاقة الخاص بتشغيل إنارة هذا المبنى!!
قال لي هذه العبارة بطريقة لا مبالية كما لو أنه عثر على الذريعة المناسبة التي بموجبها يمكنه التخلص مني!!.. وبالتالي التخلص من معالجة وحل هذه المعضلة الصعبة!!!... وشعرت بغضب شديد بدأ يفور في صدري وأخذ يغلي شيئا فشيئا كما لو أنه ماء في قدر موضوع فوق النار وقد بدأ لتوه في بلوغ مشارف درجة الغليان!، غضب شديد يتغذى على حالة من اليأس والضيق والإحباط التي اجتاحتني من أعماقي حتى كدت أصرخ في وجهه بأعلى صوتي في ثورة هوجاء:
- هكذا حالكم دائما أنتم الموظفين في دوائر المؤسسات العامة أيها الاوغاد!!.. تبحثون عن أية ذريعة وتلتقطون اية فرصة سانحة للتخلص من المواطنين الذين يقصدونكم لطلب الخدمة وتركلونهم في ملعب موظفين آخرين أو حتى خارج الملعب.
نعم!.. كِدتُ أن أنفجر غضبًا في وجهه بكل عنف وضراوة، ولكنني سرعان ما تملكتُ نفسي في آخر لحظة وقمت بإرادتي الواعية وبشكل سريع بالدوس الفوري على دواسة المكابح (الفرامل) بعد أن أدركت أن ثورتي الهوجاء هذه لن تفيد بشيء!... فمددت يدي وسحبت مسرعًا صورة الشخص المألوف وغير المعروف من على ظهر طاولة المكتب، ثم أدرت ظهري لذاك الموظف، مغادرًا المكان، هابطًا السلالم، قاصدًا الطابق الأرضي، حيث قسم (الربط الآلي) لأستفسر منهم عن ذلك (الرابط الضائع) المتعلق بهذه الصورة وما ينبغي أن يرتبط بها من معلومات تعريفية تتعلق بالهوية الشخصية لصاحب الصورة (المجهول) الذي عجزت عن التعرف عليه لسبب مجهول!... كنت أهبط الدرج بشيء من الغضب والتبرم وأنا أتمتم بكلماتٍ تعبر عن سخطي على هذا الروتين الإداري شديد التعقيد، وحينما وصلت إلى الطابق الأرضي ودخلت مكتب قسم (الربط الآلي) وجدته خاويًا ولم أجد فيه أيًا من الموظفين!... فألقيت بنفسي على أول مقعد بجواري محاولا أن التقط أنفاسي المبعثرة وأن أستعيد هدوئي المفقود وسط كل هذه الرياح العاتية المضطربة، جلست هناك على ذلك المقعد في انتظار قدوم الموظف المختص بمسألة الربط الآلي بين قسم الصور من الذاكرة وقسم المعلومات ااتعريفية!، وبينما أنا كذلك إذا بأحد عمال النظافة يمر من الممر الذي توجد به غرفة المكتب الذي كنت عندها أنتظر بداخله، فلما لمحني ابتسم ثم توجه نحوي وقال مُرحبًا بي ومُستفسرًا:
- مرحبًا.. هل حضرتك تنتظر أحدًا هنا؟
- نعم !.. أنا انتظر الموظف المسؤول عن مكتب الربط الآلي
- آه !!
قال ذلك ثم أخلد للصمت وهو يحدق بي في اشفاق ثم قال بحرج :
- للأسف الشديد أنه لم ولن يحضر اليوم !
- لِمه؟
- بسبب ظروفه الصحية!.. فقد أصيب بذبحة صدرية مساء البارحة وتم نقله للمستشفى وهو يمكث هناك بغرفة العناية الخاصة!
- أليس هناك من يحل محله في أداء الخدمة!؟
- للأسف الشديد أنه هو ذاته بالفعل (الموظف البديل) !، اقصد أنه حل منذ يومين فقط محل الموظف الأصلي!!
- وأين الموظف الأصلي؟
- مسافر في مهمة خارجية خاصة!
- والحل!؟
- الحل هو عليك أن تتحلى بالصبر وتنتظر لبضعة أيام ثم تراجع المكتب مرة أخرى!
هكذا قال لي عامل النظافة وهو يُلقي بهذه الحقائق المريرة في وجهي تباعا، واحدة ً بعد الأخرى بينما أنا أنظر إليه في صدمة وذهول كحال من يتلقى سلسلة من الصفعات المتتالية!... وشعرتُ عندها بإحباط تام بعد أن أيقنت بأنني وصلتُ حاليًا إلى طريق مسدود وليس بوسعي سوى الانتظار !!... فتمتمت قائلًا: (شكرًا) وانصرفت وأنا أجر من خلفي خيبة أمل كبيرة!!.... خيبة أمل كبيرة خيل لي وأنا في طريقي للبيت أنها كانت تقهقه بصوت امتزجت فيه المرارة بالسخرية!!... وحينما عدت الى منزلي، وجدتني قد عدتُ مرة اخرى إلى محاولة البحث عن هوية صاحب الصورة حيث أخذتُ أعتصر ذهني محاولًا تذكر أي شيء يمكن أن يذكرنني به ولو كان شيئًا بسيطًا تافهًا!، فلرب ذكرى بسيطة عابرة تقفز لحيز التذكر على حين غرة فتفعل الافاعيل!!، ذكرى تلمع فجأة في ظلمات نسياني كومضة برق عابرة للحظات فألمح على هدى وميضها الطريق الموصل لمرادي!... أي معرفة هوية وحقيقة صاحب هذه الصورة!.... اعتصرت ذهني كثيرا بكل ما تبقى لي من قوتي ولكن لم يلمع أي برق في سماء ذهني البتة!، بينما، وفي الأثناء، ظلت أصوات تخبطي بين جدران متهات الحيرة تقرع بقرقرعة صاخبة كما لو أنها أصوات الرعد!.. لكنه رعد بلا برق ولا مطر!.... وما زلت أتخبط في حيرتي تلك أركض وسط متهات لا متناهية كفأر التجارب الحيران حتى أسعفني صديقي في رسالة ثانية بتقديم ما كنت ابحث عنه، ففي رسالته الثانية زودني بالمعلومات التعريفية الخاصة بصاحب الصورة التي أرسلها لي من قبل في رسالته الأولى!.. كتب يقول ممازحًا:
" لم تجبني منذ الليلة البارحة !!، فعرفت أنك كعادتك القديمة كثير النسيان للوجوه والاسماء التي مر عليها زمن طويل وهي محجوبة عن ذاكرتك!... وقد تخيلتك وأنت تعتصر ذهنك بدون فائدة!!... أعرف – يا عزيزي - أن ذاكرتك القصيرة قوية جدًا وذات سعة ضخمة ولكن ذاكرتك طويلة المدى نَفَسُها قصير جدًا !.. عمومًا صاحب الصورة هذه الصورة هو (نُوري)، ألا تذكر (نُوري)!؟... كان من أبناء الحي الثاني المجاور لحيكم أيام الطفولة في المدينة القديمة!.. بيتهم المسقوف بالخشب كان يقع في آخر الشارع!... أبوه كان ساعي بريد بلدتنا!، الا تتذكره!؟ ، لقد كان يجوب البلدة بدراجته الهوائية كي يوزع الرسائل على البيوت!، ابنه (نوري) كان زميلنا في الكشافة إلا أنه قد تُوفي في ريعان طفولته وهو في العاشرة من عمره في حادث سير برفقة والده، رحمه الله!... ألا تذكره؟؟... كنا نلقبه بـ(البرق!!) فهو كان مُغرمًا إلى حد العشق بقراءة مجلة (البرق) أكثر من غيرها من المجلات المصورة، وكان إذا ما حصل على مجلة البرق يطير بها من الفرح في السماء ولا يهبط للأرض ثانيةً حتى يتم قراءتها!... ثم إذا التقى بنا أخذ يحدثنا بحماسة طفولية عارمة عن تفاصيل مغامرة البرق في تلك المجلة!.. وكان - بالرغم من حالة (الثأثأة) التي يعاني منها - متحدثا بارعا واسع الخيال، يملك أسلوب ساحر مدهش في إعادة رواية القصص التي يقرأها على مسامعنا حتى لكأنك تشاهد القصة التي يحدثك عنها على شاشة السينما أمام عينيك!! هل تذكرته الآن!؟"
وبهذه المعلومات التعريفية أحسست على الفور كما لو أن رعدًا أطلق أصوات دويه وهزيمه في مكان ما في ذهني ولكن هذه المرة مصحوبًا بومضات قوية وباهرة ومتكررة من البرق!... ثم بعد برهة هطل الغيث النافع!، وإذا بي أتذكر (نُوري) !!.... وعلى الفور مع حدوث هذا التذكر الطارئ المفاجئ دبت روح من النشاط العارم في مبنى مؤسسة ذاكرتي، وأخذ الموظفون الكسالى يهرعون جيئة وذهابًا بين الأقسام المختلفة وهم يحملون الملفات بينها بدون تأخير في سرعة عجيبة كسرعة البرق أو ربما سرعة الكهرباء!... تحولت مؤسسة الذاكرة في دماغي الى خلية نحل نشطة، وعلى اثر ذلك أخذت سلسلة من الذكريات المتعلقة برفيق طفولتنا وابن الحي الثاني (نوري) تتداعى لمركز وعيي وانتباهي من كل مكان بدون استدعاء مني!!.... فصرت أرى على شاشة ذهني لقطات كثيرة وأسمع بأذني الباطنية اصوات صاخبة تعلو وتدنو لصرخات أطفال وهم يمرحون وسط حيهم!.
وهكذا – وبهذه الرسالة الثانية - أسعفني صديقي بتلك المعلومات التعريفية لصاحب الصورة فتم اصلاح كل ذلك الانقطاع الطويل والمديد الذي حصل في ذاكرتي في خضم انشغالي بظروف حياتي الخاصة وهموم الاغتراب، وتم - بالتالي - ربط (الصورة) الموجودة في مخزن (الصور) بملف (المعلومات التعريفية) الخاصة بـ(الهوية)، فتذكرت صاحبنا (نوري) الشهير بـ(البرق) رحمه الله على الفور وتمكنت من استعادت الكثير من (الأشرطة المرئية والصوتية المسجلة) المتعلقة بصاحبنا (البرق) فتلقفتها مسرورًا ووضعتها على الفور في (آلة عرض مخيلتي) وجلستُ على أحد مقاعد عقلي وأخذت أشاهد على شاشة ذهني كل تلك اللقطات والذكريات الطفولية القديمة المحفوظة في تلك الأشرطة المنسية التي دبت فيها روح الحياة وروح النشاط من جديد!!... أشرطة قديمة تعج بذكريات وأحلام وخيالات الطفولة وتضج بالصخب واللعب والضحك!.... هناك في ذلك الزمن الذي انفرط وولى هاربًا كغزلان شاردة رحلت بعيدا حتى صارت للرآي كما لو أنها مجرد نقاط بيضاء او نجوم سيارة من الخنس الجواري الكنس في ذلك الفضاء الرحب!.. ذلك الماضي الطفولي الذي رحل مديدا وصار يتراقص بعيدًا في صحراء النسيان كطيف من السراب!.. ذلك الزمن السعيد حينما كنا أطفالًا صغارًا!.. وحينها – في ذلك الزمن البسيط - كنا نعتقد أن العالم كبير جدًا جدًا!، وأن الكبار أقوياء جدًا واغنياء جدًا وفضلاء جدًا وطيبون جدًا!.. لكننا حينما كبرنا وتقدمنا في العمر وجدنا أن هذا العالم لم يعد كذلك كما كان!!، لم يعد كما كنا نراه حينما كنا صغارا !، فلا العالم ظل كبيرًا وواسعًا ومدهشًا كما كان في أعيننا أيام طفولتنا، ولا الكبار ظلوا في زماننا الراهن كبارًا ولا ظل الصغار صغارًا !.. كل شيء تغير!، وقد بدا لي كل ذلك العمر المديد والزمن الطويل كومضة برق لا غير !!.. ومضة برق لمعت ثم غرق المكان في ظلام بهيم، ووسط كل هذا الظلام لا تسمع غير همسات الذكريات، همسات حزينة وأخرى مرحة وثالثة تئن حنينا لعالم اختفى!.
سليم نصر الرقعي
2019
(*) هذه النسخة الأولية للقصة وسأعيد مراجعتها وتنقيحها ومحاولة تطويرها.
