إن الادعاء بأن حياة الإنسان مقصورة على العالم المرئي، ادعاء قديم متجدد، ويتضح ذلك من خلال تعريفات الفلاسفة للإنسان.
وبطلان هذه المسلّمة من عدة جوانب:
١-تعدد صور الجسمية؛ فجسمية الحجر غير جسمية الشجر، لأن الثاني له حياة، وجسمية الشجر غير جسمية الحيوان، لقدرة الثاني على الحركة، وجسمية الحيوان غير جسمية الإنسان، لقدرة الثاني على الخروج إلى الزمن الماضي والمستقبل، وهكذا. فالجسمية مراتب متفاوتة.
٢-طلب أفضل العوالم؛ فلولا أن الإنسان مغروز في نفسه من أصل خلقته أن العالم المرئي لا يسع الوجود بأسره، لمَا تشوّف إلى أن يرتحل من عالم إلى عالم أكمل منه. وكأنما العالم المرئي عوالم متعددة.
٣-قدرة ملكات الإنسان على تجاوز العالم المرئي؛ فهذه ذاكرته ومخيّلته ولاشعوره ورؤاه، تعينه على الانفكاك عن العالم المرئي إن قليلا أو كثيرا، فمن الواجب أن نُسلّم بأن الجسمية، ولو بلغت نهاية شفوفها، لا يمكن أن تستوعب كلية الإنسان، بل لابد أن تزدوج هذه الجسمية بشيء ليس من جنسها، ومنشأ هذه القدرة هي الروح.
إذا ظهر أن الأصل في الإنسان أن يحيا على الأقل في عالمين، أحدهما مرئي والآخر غيبي، فلابد أن تتشكل أعمال الإنسان وأحواله وأوضاعه في كينونتها بمقتضيات هذه الحياة المزدوجة، لكن يبقى أن المشهود أو المرئي أقرب في الظاهر إلى الإنسان من المغيّب، إذ تسبقه إليه، وقد تُغطيه كله، فلا يراه إلا وحده، في حين يتطلّب المغيّب أن يبذل جهدا مضنيا في مغالبة سلطان الجوارح على عقله.
يجب التنبيه أن الغيب بالمعنى الأعم، يستلزم أن ما لا تحصُل رؤيته في الحال -سواء أكانت قد حصلت رؤيته من قبل أم لم تكن قد حصلت بعد- لا يمكن أن يستيقن الإنسان بوجوده ولا بدوامه ما لم يُسلّم أن هناك ذاتا غيبيّة مخصوصة ترى وتشهد كل شيء، كما أنها تصون وتحفظ كل شيء، ويسلّم كذلك أن هذه الذات الشهيدة الحفيظة هي وحدها التي تقدر على رؤية ما لم يره وعلى حفظ وجود ما رأى، نظرًا لأن كل ما لا تراه عينُه، سواء سبق أن رآه أو لم يسبق له أن رآه، يكون بالنسبة إليه، في حكم المعدوم، أو قل بإيجاز،
لا سبيل إلى يقين الإنسان بما رآه أو لم يره إلا بحصول إيقانه بالله.
بداية كتاب "روح الدين".