جاء في تلك المذكرات (*) ما يلي:
((أنا ذلك الثعلب العجوز المتقاعد حيث لم يبق لي شيءٌ من طاقات وطموحات الشباب اقف هناك كل يوم أمام كهفي الوحيد، هناك في قمة ذلك الجبل البعيد، اطل من ذلك العلو الشاهق المهجور على تلك المراعي الخضراء في ذلك السفح المخضر البهيج المرصع بالزهور الصفراء والبيضاء وأراقب قطعان الجديان الرشيقة والغزلان الرقيقة وهي ترتع وتلعب هناك - في الأسفل - بين المروج المزهرة ، بذلك الوادي المسحور في فرح وسرور وتجوب المكان في مرح وحبور، أنظر اليها بإشفاقٍ كبير وأسف مرير لأنني اعرف مُسبقًا، بحكم خبرتي القديمة كثعلبٍ مخضرم عجوز، ان الثعالب والذئاب الجائعة - في هذه اللحظات - تراقبها بعيونٍ تتفجر بالجوع الشديد، وتربص بها الدوائر من مكمن بعيد وهي تمني نفسها بعشاء مخملي لذيذ، تلك الثعالب والذئاب المتحفزة التي تتحين الفرص لتشن هجماتها الغادرة على حين غرة عمّا قريب لتنهش من لحم هذه الغزلان الرشيقة وهذه الجديان الرقيقة بلا هوادة بشكل وحشي رهيب فتتناثر الدماء فوق الزهور البيضاء ذات مساء!، وأعلم مُسبقًا أيضًا أن من سينجو منها من أنياب ومخالب الثعالب والذئاب ورصاص الصيادين فإنه سيكون قد تناول من هذا العشب المسموم الذي يختبئ بخبث ودهاء وسط هذا الزرع البهيج الذي ترتع فيه تلك الجديات البريئة!!، ذلك السم القاتل البطيء!، الذي يتغلغل يومًا بعد يوم في اعماق خلايا الحياة فيجرها شيئًا فشيئًا نحو الهلاك حتى لو لم تهجم الثعالب والذئاب على قطيع الغزلان! ، ها أنا ذا (هانذا) أنظر بعينين حزينتين إلى كل ذلك الجمال الساحر المتجسم في تلك الجديان الناعمة وتلك الغزلان الرائعة وهي تسرح وتلعب وتمرح فوق ذلك البساط الاخضر المتوهج بالأزهار العطرة!.. ذلك البساط الممتد حتى الافاق، وفي قلبي حسرة كبيرة وفي حلقي غصة مريرة بسبب ذلك المصير البائس المؤسف المحتوم الذي ينتظر هذه الجديان الرقيقة والرشيقة عما قليل!، الا أنني - وأنا في غمرة شفقتي على هذه الغزلان الطيبة البريئة - يعلو بين الفينة والأخرى صوتٌ ما (؟) من مكان ما من اعماقي ويسألني فجأة بنبرة تنضح بالتهكم والسخرية: "هاه!؟.. أيها الثعلب العجوز الطيب!!، هل انت حزين لأجلها حقًا !؟، أم انك حزين على نفسك لأنك اذ غدوتَ هذا الثعلب العجوز (الزاهد) لم تعد قادرًا على مشاركة تلك الثعالب والذئاب وبقية الوحوش والصيادين في ذلك الاحتفال الربيعي الموسمي الوحشي القادم عما قريب !!؟".. موسم صيد الجديان!!... هكذا يقول لي ذلك الصوت الماكر الساخر القادم من مكان ما من أعماق وجداني!، فيثير سؤاله ذاك ارتباكي ويثير الغبار حول حقيقة زهدي فتحاصرني الشكوك في صحة عطفي على كل هذه الغزلان من كل مكان!!!))(*).
********
سليم نصر الرقعي
2015
(*) هذا النص جزء مُقتطف من قصة خيالية، ربما تتحول الى رواية، اعمل على كتاباتها منذ فترة بعنوان ((مذكرات ثعلب متقاعد !؟)) أو ((اعترافات ثعلب متقاعد !)).. لازالت في طور التخمر والتشكل في ذهني حيث أن بدايتها معلومة ومكتوبة ودونتها بالفعل وأما نهايتها لازالت في حكم المجهول! .. فالعمل الادبي القصصي او الشعري احيانًا يكون كالإبحار في قارب صغير في بحر لجي نحو المجهول!.. واحياناً يكون هذا الابحار بلا شراع ولا حتى مجداف !!.. العمل الأدبي يبدو لي أحيانًا من تجاربي ومحاولاتي الشعرية والقصصية المتواضعة كما لو أنه خيط أوله بيدك وآخره في بئر عميقة غائرة مجهولة، كلما شددت إليك الخيط خرجت لك من أعماق ذلك البئر المجهولة أشياءٌ وأفكار وخواطرُ وخيالات لم تكن لتخطر لك على بال!!... إنها أعجوبة الخيال البشري الواسع المتسع الذي لا ينضب ... سواء أكان خيالًا أدبيًا أو علميًا أو حتى دينيًا ينتج الاساطير (الخرافات الدينية)!.. وهي أساطير عن آلهة متعددة (مزعومة) تتصرف كالبشر وتتقاتل فيما بينها ويغير ويكيد بعضها لبعض كما في المثيولوجيا الاغريقية أو الرومانية أو حتى في المثيولوجيا العربية في العصر الجاهلي حيث كان مشركو العرب - كما يُخبرنا القرآن الكريم - يعتقدون أن الله الخالق - كبير الآلهة عندهم - تزوج امرأة من الجن وأنجب بناتٍ هن الملائكة، لهذا كانوا يعبدون مع الله الجن والملائكة ويعتبرونهم شفعاء وشركاء!!!