مع اقرارنا بضرورة توفر القدر الكافي من الليبرالية كفكر ومبادئ وسلوك وثقافة لحماية الديموقراطية من خطر الشعبوية ذات التوجه الوطني أو ذات التوجه الديني الأصولي أو ذات التوجه الجماعي القومي أو ذات التوجه العلماني أو الاشتراكي والشيوعي الخ ... لكن لا يمكن استنساخ النظم الغربية (الديموقراطية الليبرالية العلمانية) بقضها وقضيضها ولصقها في أوطاننا وعلى مجتمعاتنا (العربية والمسلمة) بطريقة (الفوتكوبي) ثم نعتقد أنها ستعمل بكفاءة وفاعلية وتؤتي أكلها!... لا أريد أن أقول أن هذا التوجه والسلوك حيال مسألة توطين الديموقراطية الليبرالية في بلداننا هو نوع من الحمق والغباء الفاحش ولكن بلا شك هو نوع من الطوباوية غير الواقعية من جهة ومن جهة هو سير في الطريق الخطأ بل الطريق المسدود بل والمجرّب!.

***

إذا أردنا النهوض بمجتمعاتنا العربية المسلمة، يجب علينا كساسة أو كمثقفين أو مفكرين عرب ومسلمين عقلاء، أن نفهم بعمق قوانين نهوض الأمم والمجتمعات والدول.. وعلينا أن نُميّز - في هذه القوانين المستخلصة من استقراء التاريخ والواقع - بين ما هو انساني عام يعمل في كل البيئات والمجتمعات الانسانية بغض النظر عن اختلاف ثقافتها الاجتماعية، وبين ما هو خاص مرتبط بخصوصيات مجتمعات وأمكنة وأزمنة بعينها ولا يمكن أن يعمل بشكل مؤثر وجيد في مجتمعات أخرى!، فلا يمكننا أن نستنسخ قوانين نهوض مجتمعات أخرى – المجتمعات الأوروبية مثلًا -  حرفيًا وجملة وتفصيلًا كي نحقق نهضتنا الحضارية والسياسية في بلداننا العربية والمسلمة!، بل نحتاج إلى الانطلاق من ذاتنا ومما لدينا ومن الجوانب الإيجابية، من تراثنا وواقعنا بعد أن نغربلها بغربال العقل وننفض عنها الغبار!.. علينا أن نجد الصيغة الديموقراطية الليبرالية التي تعمل بشكل جيد وفعال في بلداننا وتتناغم مع ثوابت وقيم مجتمعاتنا العربية والمسلمة!.

***

الليبرالية كفلسفة اجتماعية انسانية هي فلسفة ذات مبادئ وقيم عامة وثابتة ولكن حول هذه الثوابت الليبرالية المتفق عليها من القيم والأسس العامة التي تُعلي من شأن الفرد الانسان وتقدس حريته وملكيته وخصوصيته وضرورة حماية هذه الحقوق الفردية للإنسان الفرد من التدخلات التعسفية للمجتمع والدولة والسلطات الاجتماعية والدينية هناك عدة اجتهادات وتطبيقات مختلفة في المجتمعات الغربية ذاتها خصوصًا فيما يتعلق بـ( الحدود الاجتماعية والقيود الشرعية) المفروضة – أخلاقيًا أو قانونًا - على حريات الأفراد الشخصية، فحول (ما هي حدود تدخل المجتمع/الدولة في حريات الافراد الشخصية؟) و(أين تنتهي حريات الأفراد وأين تبدأ حرية ومصلحة المجتمع؟) و(ما هي القيود المجتمعية التي يفرضها المجتمع الوطني على الحريات الفردية كي لا تطغى أو تنحرف وتصبح قوة مدمرة للذات وللمجتمع؟)، هي مسائل فلسفية وفكرية وحقوقية وقانونية خلافية حتى في المجتمعات الغربية الليبرالية ذاتها!!.

لهذا نحن اليوم نحتاج أن نستخلص ليبراليتنا أو فلسفتنا الليبرالية من عمق تراثنا العربي والإسلامي وعمق واقعنا مع الاستفادة من كل التجارب الديموقراطية والليبرالية للمجتمعات الغربية والشرقية الأخرى كي تكون ليبراليتنا المتوائمة مع عقيدتنا وشريعتنا المجتمعية فكرة ذات فاعلية في واقعنا الفعلي!.. وهذا هو التحدي الحقيق والجاد الذي يواجه العقل المسلم والعربي اليوم والذي يبدو لي أنه يقف حائرًا مضطربًا بين طرفي نقيض أو طرفين متناقضين ومتطرفين!.. أحدهما طرف ديني (راديكالي) متطرف يتستر بجلباب (الدين) ويقف راء لافتة (تطبيق الشريعة أولًا) وهو يصرخ بأعلى صوته: (الإسلام هو الحل!) (وإن الحُكم إلا لله)!... وطرف آخر علماني (راديكالي) متطرف يتستر بـبدلة (الحداثة) ويقف وراء لافتة (العلمانية أولًا!) وهو يصرخ بأعلى صوته: (الحداثة هي الحل!) و(إن الحكم إلا للعقل والشعب)!.... وبين هذين الطرفين المتطرفين المتناقضين بحلولهما الطوباوية الجذرية (الراديكالية) تقف الجماهير الشعبية العربية والمسلمة تنظر إليهما تارة في حيرة ونصب وتارة في ملل وغضب!... ونقف نحن مع هذه الجماهير الشعبية العريضة ننادي بالحل الديموقراطي الليبرالي في أطار هويتنا وثوابتنا العربية والإسلامية وحفظ حقوق وإرادة الأغلبية وحقوق وخصوصية الأقليات غير العربية وغير المسلمة رافعين شعار (التسامح هو الحل!)... وبكل تأكيد ليس هذا هو الحل الأسهل بل الحل الأسهل يتمثل في أمرين إما رفض الليبرالية جملة وتفصيلًا كما يفعل الأصوليون الإسلاميون، أو القبول بها بشكل مطلق جملةً وتفصيلًا كما يفعل العلمانيون الحداثيون (الراديكاليون)!.

****************

سليم نصر الرقعي

[email protected]

https://www.facebook.com/salimragi