حين كنت صغيرا، كنت أجد متعةً حين أقرأ قصة تحدثني عن بطل من أبطال ثورتنا المجيدة، أو أخرى تعرفني على ظاهرة علمية معينة، في حين كنت أضجر من صفحات بكتابي المدرسي تحمل معلومات عن البطل نفسه أو الظاهرة العلمية ذاتها، والسبب في ذلك أن القصة كانت ذات أسلوب ممتع وصور معبرة ألوانها جذابة، في حين كانت فقرات كتابي المدرسي مكتظة ومصاغة للحفظ لا للتمتع، وكانت رسوماتها رديئة مقارنة بما عهدته من صور في كتب الأطفال بالمكتبات أو سلاسل الكرتون بالتلفزيون، بل كانت ألوانها في الغالب لا تتعدى اللونين، الأسود ولون مرافق، كالأزرق أو الأحمر أو الأخضر، ولكي لا أعطي صورة قاتمة عن كتبي المدرسية كلها، أقول إن بعضها كانت رسوماتها مكتملة الألوان، ولكني لا أضمن إن كانت خطوطها رشيقة ونوعيتها جيدة :)
اليوم أحدثك عن قصةٍ جرت في بدايات القرن الماضي، بطلتها كاتبة أبدعت في تحويل الكتاب المدرسي من مادة جافة ومملة إلى أخرى ممتعة وجذابة أقبل عليها الأطفال في لهفة ومرح، إنها قصة الكاتبة السويدية “سلمى لاجرلوف” المولودة سنة 1858، والحاصلة على جائزة نوبل في الآداب عام 1909م، هذه الكاتبة التي أصيبت وهي في التاسعة من عمرها بشلل الأطفال الذي أقعدها عن الحركة صغيرةً، وسبّب لها عرجا لازمها طوال عمرها، أبعدها مرضها هذا عن المدرسة إلا أنها واصلت تعليمها عن طريق القراءة الدءوبة، امتهنت الكتابة والتدريس، فأبدعت أناملها في إصدار كتابات جميلة مميزة، وقضت حياتها وحيدة بلا زوج. توفيت سنة 1940 بعد أن أدركت الحرب العالمية الثانية.
بدأت القصة حين وصلتها رسالة من الاتحاد الوطني للمدرسين في السويد تقول: “نحن بحاجة ماسة إلى كتاب مدرسي يستمتع الأطفال بقراءته في حجرات الدراسة، ليثير اهتمامهم بجغرافية بلادهم كي يعرفوها أكثر ويحبوها. نرجو أن يكون الكتاب مثيرا لاهتمامهم ليس بالجغرافيا فقط، وإنما أيضا بالتاريخ والأساطير الشعبية”. وفي النهاية أشارت الرسالة إلى “ثقة اتحاد المدرسين السويدي في قيامها بالمهمة الصعبة”.
وفعلا بدأت بطلتنا في محاولة تجسيد ما طلبه منها الإتحاد، فقضت ثلاث سنوات تدرس كل شيء يخص بلدها -السويد-، وكانت في ذلك تتحرى أدق التفاصيل، قرأت في الجغرافيا وغاصت في التاريخ، وزارت المدن والقرى وقابلت مئات الفلاحين من أبناء بلدها، درست حتى الطيور والنباتات في مختلف أرجائه، وتعمقت في معرفة العادات والتقاليد والفن الشعبي بكل أسراره.. في النهاية لم تترك شيئا إلا ودرسته، لأنها كانت متحمسة لتجسيد عمل شيق ومثير ودقيق في معلوماته.
بعد ذلك جلست لتكتب وتصوغ المعلومات التي جلبتها في قصة شيقة، بطلها صبي صغير في حجم عقلة الأصبع، امتطى إوزة وطار بها فوق كل أرض السويد. ولك أن تتخيل نتائج عمق هذه الفكرة وكيف سيقبل عليها الأطفال ينهلون من أحداثها ومعلوماتها الصحيحة.
وفعلا خرج كتاب “مغامرات نلز هلجرسون المدهش” إلى الوجود عام 1907م، فكان إقبال الأطفال عليه كبيرا، والسبب وراء هذا الإقبال اللافت أن الكتاب أرضى ميولاتهم وتطلعاتهم، فكان وسيلة تعليم وتثقيف في قالب ممتع ومسلي، ثم إنه سَحر الكبار أيضا فشاركوا الأطفال قراءة صفحاته ذات الأسلوب الشاعري والخيال المجنح…
الكتاب ترجم بعد ذلك إلى أغلب لغات العالم، وأصبح من كلاسيكيات الأدب الموجه للطفل، ورسم مشاهده الكثير من الفنانين عبر العالم، رغم أنه في الأصل كتاب مدرسي وقصته موجهة لأطفال مدارس السويد، ليقرؤوها ويمتحنوا فيها إلا أنها تحولت إلى فيلم محبب للكبار والصغار ثم مسلسل كارتوني نال شهرة واسعة…
أكتب لك عن قصة سلمى حتى أظهر لك تجربة رائعة في مجال الكتاب المدرسي، لأني صراحة أرى أننا بحاجة لأمثالها بمجتمعنا، يتحفن تلاميذ مدارسنا بكتب يحبونها ويستمتعون بمادتها، وأرى أن الأمر ليس بالصعب أو المستحيل، فقط على المعنيين بالكتاب المدرسي أن يأخذوا الأمر بجدية ويحاولوا طرح الكتاب بشكل ومحتوى آخر، وأن يفتحوا الباب أمام الأقلام المبدعة والريشات الساحرة.. حتى يؤدي الكتاب دوره الفعلي، فيحبب الطفل بجغرافية بلاده الجميلة وتاريخ أجداده العريق وعادات وثقافات مجتمعه الثرية…