"سوف نبقى.. يشاء أو لا يشاء الغيرُ فاصمُد لبنان ما بكَ وهنُ.. سوف نبقى لا بُدَّ في الأرضِ من حقٍّ.. وما من حقٍّ ولم نبقَ نحنُ.."
سعيد عقل
إذا أردنا قول الحقّ، نحن عملياً انتقلنا من مرحلة المواجهة إلى مرحلة القرار، إنَّه عهد التسويات الكبرى ولبنان يتحول رويدا رويدا إلى دور لاعبٍ كبير في السّاحة الإقليمية.
شأءت التحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ سبعينيات القرن الماضي ان يرسوَ لبنان لعقودٍ على دور رئيس قويّ في ظل صلاحيات ضعيفة او رئيس ضعيف في ظل صلاحيات ضعيفة.
لقد تطلب ذلك إزاحة من لا يقبلون بذلك أو بإسقاط هيبتهم والتشكيك بوطنيّتهم. كباراً نعِتوا بأوصافٍ لا تليق الا بمطلقيها لكنَّ قوانينَ التاريخ أقوى من أحلام ليالي الصّيف.
أستذكرُ هنا قصَّة الرّهان للطبيب والمؤلّف المسرحي والروائي الروسي أنطون تشيخوف سنة 1889م حيث دارت أحداثها حَولَ رِهانٍ حدثَ بينَ رجلٍ مَصرفي وَمُحامٍ شاب عمّا إذا كانت عقوبة الإعدام أَفضل أَو أسوأ مِن السِّجن المُؤبد. ففي خضمّ نقاش دار بين ضيوف حفلة المصرفيّ حول عقوبة الإعدام، وكان من مؤيديها ؛ لأنه يرى أنها أكثر إنسانية من السّجن مدى الحياة. في حين قام المُحامي الشّاب و خالفه الرأي مُصِّراً على أنه سيختار السّجن مدى الحياة على الموت.
فتوافقا على رهانٍ قيمته مليونا روبل يدفعها المصرفيّ للمحامي إذا استطاعَ أن يَعيشَ مُنعزلاً في حبسٍ انفراديّ لمدّة خمسة عشر عاماً. وقد تم سَجن المُحامي في غُرفةٍ صغيرة حيث أمضى أوقاته في قراءة الكُتب، وَالكِتابة، وَالعَزف على البيانو، وَالدِراسة، وَتعليم نَفسه. كان المُحامي يَنمو باستمرار خلال القصة طيلة فترة تواجده في السّجن.
في البداية عانى المُحامي من الوحدة الشديدة والاكتئاب، وفيما بعد بدأ يدرس بكِّد وَنشاط، منكباً على تعلم اللغات وما يتعلّق بها ثم انتقل لدراسةِ العلوم المختلفة والأدب والفيزياء ومواضيع عشوائية كثيرة، فقد أنهى ستمئة مُجلدٍ خلال أَربع سنوات، وفي السنوات اللاحقة درس الإنجيل وتاريخ الدين، وفي السّنوات الأخيرة ركّز دراسته بشكل كبير على الطبّ والفيزياء والفلسفة..
في تلك الأثناء تراجعت ثروة المصرفيّ، وأدرك أنه خسر الكثير من أمواله وأن تسديد الرهان سيؤدي إلى إفلاسه، وَلِكي يحمي نفسه من خسارة أخرى قَرَّرَ ذاك المصرفي قبل يوم واحد من انتهاء الخمسة عشر سنة المتفق عليها قتل المحامي وبذلك يتهرّب من تسديد قيمة الرّهان، ذهب إلى الغُرفة التي يُحبس فيها المُحامي وَلكن قبل أن يهمَّ بِقتله وَجد رسالة كتبها المحامي يقول فيها: "في الفترة التي قضيتها في السّجن تعلّمت أن أحتقر الماديّات لأنها أشياء عابرة والمعرفة أهمّ منَ المَال ولهذا فإني أتنازل عن مال الرهان..". صُعِقَ المصرفيّ مما قرأه ولم تُصدِّق عيناهُ، وقام بتقبيل المحامي على رأسه وغادر وهو مرتاح، فَلم يَعد بِحاجةٍ لِقتل أَي أحد.
وَفي الصباح الباكر أخبر الحارس المصرفيّ أن المحامي قد غادر قبل الموعد المضروب وبذلك يَكون المُحامي حسب رأي العامة قَد خَسِرَ الرِهان وحفظَ حياته وبالتالي حَفظ أَموال المَصرفيّ، إلا أنه بالواقع فقد ربح نفسه وهو الفائز.
نعم، هذا رِهانُ الجمهورية: حِفظ كرامتنا وحِفظ قرارنا رغم الإبعاد والقهر والحرب الوسِخة، لأنه رفض ثقافة الموت، لأنه مد يده لكل الأفرقاء محترماً عن وعيٍ إيديولوجياتهم جميعاً حرفاً حرفاً بالنقطة والفاصلة، لأنه رفض التقوقع لا في كبوة المتمردين ولا في تهم الفاسدين بل هو المواجهة الصّلبة بأسلوب واثق الخطى كما الملوك، بما يعيد استقرار أمة انقسمت على ذاتها.. نعم لقد أثبت حارس الجمهورية للعالم المقسم بعمق أن الوطنية ميثاقها المواقف وأن الكرامة شهادتها الممارسة. أبعدوه ليبتلعوا الجمهورية فأدركوا حكمته بأنها أكبر من أن تُبتَلع ليعودوا ويعملوا على تجزئتها ليدركوا أيضا قوله بأنها لن تُقسّم. إنه عهد الجمهورية الثالثة، جمهورية "الكلّ" التي تحمي مخاوف "الكلّ" وتعبد الطريق للأجيال التي تتوق للعيش الكريم كائناً ما كانت ثقافتها وإيديوجيتها وطائفتها.
لبنان الجمهورية الثالثة هو لبنان الذي يشبه العالم: تنازع عميق سببه الفروقات واحترام للمصالح المختلفة كي يستمر هذا العالم.