علي بانافع
من محاسن الصُدف أن درسي -اليوم- عن سيدنا موسى عليه السلام، وهي قصة مليئة بالدروس والعِبر، عِبرة ورسالة قرآنية دقيقة جداً أن يُساق سيدنا موسى عليه السلام، رضيعاً بتابوت عبر النهر إلى قصر طاغية مُتجبر يقتل قومه ويستعبدهم، ليتربى -سيدنا موسى- فيهم بعيداً عن قومه بأمان ردحاً طويلاً من الزمن، قبل أن يكشف عن هويته الحقيقية!! الأسئلة -هنا- كثيرة وتدعو ملياً إلى التأمل والتفكر!!
تُرى كيف كان سيدنا موسى عليه السلام يتعامل وهو داخل قصر فرعون ومُتبنى ممن يدعي الربوبية، مع الحاشية، مع الكهنة، مع فرعون المُتجبر ذاته، مع معتقداته، هل كان يُؤاكله، يُجالسه، يُجامله، أم كان يُعانده، يُعارضه، يُناظره، يُشاكسه، ينأى بنفسه عن كل ما يصنعون؟! لقد ترك لنا القرآن الكريم كل هذه التفاصيل، في مساحة شاغرة نصاً متخمة مواعظ وعبراً، لنُعمل عقولنا -نحن- فيها ونتساءل؛ وبناءً على تساؤلاتنا نُخطط ونصوغ قراراتنا وبرامجنا، وافترض أن الرسالة والعبرة السياسية والتربوية الأخطر من هذا النص والقصص القرآني هي: (إذا أردت أن تُسقط طاغية متجبراً؛ فلابد من أن تَدُس له في قصره من ﻻ يُوافقه وﻻ يُفارقه، من دون أن يُعلن عن ذلك لحين إسقاطه كلياً، وإغراقه وجنده في البحر ونهائياً، وتترك هذا المخطط والبرنامج الستراتيجي لمن خلفك آية!!).
العجيب أن أميركا عملت بهذا المفهوم وأسقطت الاتحاد السوفيتي، وحلف وارسو وأنهت الشيوعية برمتها، بشخص دسته بينهم هو: ميخائيل غورباتشوف، حتى أصبح رئيساً لهم، بريطانيا وفرنسا أسقطتا الدولة العثمانية، أو الرجل المريض -كما كانوا يسمونه- بشخص من يهود الدونمة، هو: مصطفى كمال أتاتورك، ودسته في قصر الخلافة فأسقطها، هنا لا أُقارن بين الشخوص فشتان ما بين الثرى والثريا، وإنما أسوق الفكرة والعبرة الأساس، وأزعم أن موسى عليه السلام لو لم يتربى في قصر فرعون؛ لكان الأخير قتله فوراً -من دون إبطاء- فور إعلانه معارضته، ولما كان بحاجة إلى مناظرات، وإلى يوم زينة، وبناء أبراج وصروح لدحض أفكاره، لقد كان فرعون يحب موسى حباً جما وكذلك زوجه آسيا، بصفته ابنهما المُتبنى الذي عاش في كنفهما، بل وربما كان يُرشحه ليكون خليفته وولي عهده من بعده، أو أنه كان لا يريد أن يظهر أمام قومه وهو مدعي الربوبية بأنه مغفل، ربى عدوه سيدنا موسى في قصره، وتباهى به طويلاً أمام شعبه؟!، لعل هذه واحدة من الدروس المستنطبة من عدو مطلع على كل خبايا وأسرار من يقارعهم، غير عدو غافل ﻻ يعلم شيئاً عمن يقارعهم!!، لقد كان يحسبه عليه فناظره وجادله، ولو لم يكن كذلك لقتله كما قتل أقرانه صغاراً قبل أن يروا النور، ونحن نمر بقصة سيدنا موسى عليه والسلام مع فرعون، من التابوت والإرضاع إلى الوكز صعوداً إلى الإغراق، وﻻ نمر بعهد القصر أو البيت الذي تركه القرآن الكريم لنتساءل: تُرى ما الذي حدث في القصر؟! ولماذا؟!
باختصار الأم والأب عماد وقوام تربية الأبناء، وأخلاق أبنائهم منتج منهما، وغالباً ما يكون هناك تأثير حسن أو سيء منهما أو من أحدهما، نعم!! قد تشذ حالات ولكن الحكم للأعم والأغلب، قال سبحانه وتعالى على لسان بني إسرائيل وهم يخاطبون السيدة مريم عليها السلام: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28]، فلو كان أبوها من أهل السوء فمن الممكن أن تخرج ابنته سيئة، ولو كان أمكِ بغيا كذلك -هذا هو الأعم الأغلب- وقد جاءت ذكر التربية -أيضاً- في ذكر وقصة السيدة مريم عليها الصلاة والسلام، فجعل رعايتها على يد رجل صالح وهو زوج خالتها نبي الله زكريا عليه السلام، لأن مريم مات أبوها وهي في بطن أمها، وأمها حملت بها وهي كبيرة بالسن لا تقدر على رعايتها، لذلك: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًاوَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ} [آل عمران: 37].
المشكلة أننا وكما قال الرائع أحمد خيري العمري: (نقرأ القرآن ﻷجل الختمة وﻻ نقرأه ﻷجل النهضة) ووالله لو أننا نقرأ القرآن العظيم كما ينبغي له أن يُقرأ ونفهمه كما ينبغي له أن يُفهم لاستنبطنا من قصصه وتعاليمه حكماً وبرامج مذهلة، يركع أمامها كل الطواغيت وجنودهم من المنظمات والهيئات الجريئة على كل خُلقٍ ودين، لا تريد بأبنائنا وبناتنا خيراً، من أجل ذلك قال شاعر النيل حافظ إبراهيم رحمه الله:
مَن لي بِتَربِيَةِ النِساءِ فَإِنَّها
في الشَرقِ عِلَّةُ ذَلِكَ الإِخفاقِ
الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها
أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ
الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَهَّدَهُ الحَيا
بِالرِيِّ أَورَقَ أَيَّما إيراقِ
الأُمُّ أُستاذُ الأَساتِذَةِ الأُلى
شَغَلَت مَآثِرُهُم مَدى الآفاقِ
أَنا لا أَقولُ دَعوا النِساءَ سَوافِراً
بَينَ الرِجالِ يَجُلنَ في الأَسواقِ
يَدرُجنَ حَيثُ أَرَدنَ لا مِن وازِعٍ
يَحذَرنَ رِقبَتَهُ وَلا مِن واقي
يَفعَلنَ أَفعالَ الرِجالِ لِواهِياً
عَن واجِباتِ نَواعِسِ الأَحداقِ
لذك أخي كن صالحاً، وخذصالحة، تخرج جيلاً صالحاً، ولا تلهث وراء الماديات والشكليات والجميلات وحسب …